قيل أن من تعلم لغة قوم أمن شرهم ؛ وهذا المثل ربما يلخص كل العلوم الانسانية كعلم الاجتماع والانثروبولوجي والتاريخ بل وحتى القانون والسياسة وعلم النفس. لماذا؟ ببساطة لأن اللغة هي التي ينكشف عبرها البردايم الذي تمأسست فوقه الثقافة المجتمعية. اللغة هي الوسيلة الأولى لفهم القاعدة الابستمولوجية لمنظومة اجتماعية ما ، وما يؤدي اليه ذلك من سلوك مشترك Common behavior وما يحققه ذلك من امكانية توقع الافعال وردود الافعال عند كل مؤثر والاستجابة الراجحة لأي متغير بيئي. لماذا أهتم بتوضيح هذه المقدمة : الحقيقة أنني ربما كنت من الأوائل الذين شاركوا هم اسقاط هذا النظام بالقلم ؛ ولم آلو جهدا على ذلك ، فحتى عندما انفجرت الثورة الجماهيرية شاركت فيها فكرا وتوجيها إن أخذ به أم لم يؤخذ به. لكنني لاحظت من خلال احتكاكي بالمنظومة الثقافية لهذه المجتمعات السودانية المختلفة ؛ أنها تتشارك محددات ثقافية معرفية واحدة توجه السلوك المشترك أيضا الى الانصباب في بقعة واحدة وهي التي يمكن أن أطلق عليها (التركيز) بدلا عن التمكين. فالتمكين على سوئه أخف ضررا من التركيز لأنه يمكن أن يتسع نطاقه بحيث يشمل الكثير من الفئات أما التركيز فهو ليس فقط محاولة احتكار والاستحواذ على كل أفكار الآخرين بل فوق ذلك سرقتها جهارا نهارا ثم استخدامها كمشروع يخدم مغتصبها وحده. علي سبيل المثال ؛ منذ بداية هذه الهبة الجماهيرية كان هناك من قدموا أطروحات جيدة لتعظيم مقدرات العمل الجماهيري كالاعلام الخارجي وكعدم نبذ القوى السياسية بل دعم الاتصال معها في سعي أولا لايجاد سند سياسي للجماهير وفوق هذا عزل النظام عن محيطه ليكون فريسة سهلة السقوط. لقد طرحت شخصيا العديد من المقترحات والتي لازالت متوفرة بتاريخ طرحها وفعل آخرون نفس الأمر ؛ ولكن ما الذي حدث؟ ما حدث أن ثقافة التركيز انقضت على كل الأفكار واحتوتها ثم تبنتها كمنتج خاص بها ، دون أي وازع أخلاقي أو ضمير. ولا أعرف كيف لمن لا يؤتمن على الحقوق الأدبية للآخرين أن يؤتمن على حقوق شعب بأكمله يوما ما. فلنكن أكثر واقعية ؛ ذلك أن ثقافة التركيز ليست وليدة اللحظة الراهنة فهي -كما قلت منظومة- تمأسست تاريخيا لبنة فوق لبنة مما خلقت شخصية سودانية غير قابلة للاعتراف حتى بالحق الأدبي للآخر. إن التمكين الذي مارسته الحركة الإسلاموية ليس جديدا أبدا ولو عدنا بالتاريخ الى ما قبل الاستقلال وما بعده سنجد أن كل الأنظمة السياسية مارسته بشكل أو بآخر سواء صراحة أم ضمنا ، أعلنت ذلك أم لم تعلنه ، لأن الانسان السوداني اكتسب -خلال مشوار صراعه المرير- هذه الجينة الفاسدة التي حولته الى كائن يسعى الى تركيز كل أشعة الشمس في عدسته المحدبة ليحجبها عن الآخرين تمهيدا للسيطرة عليهم. ولو استطاع أن يستأثر بالشمس نفسها لما تردد أبدا في ترك الآخرين في الظلام. التقيت بشاب يمتهن السياسة وله طموحات كبيرة جدا ؛ ويحلم بالسلطة ككل السودانيين ، ويعاني من ذات الجين الفاسد وهو جين ثقافة التركيز هذه. لقد نصحته قائلا بأنه لكي ينجح في مساعيه داخل عالم القيادة والسلطة أن يتخلص من ثقافة التركيز هذي ويحل محل فراغها بثقافة التوظيف. إن اي قيادة تعتمد على التركيز تفشل مهما ادعت من مزاعم أخلاقية أو مبادئ سياسية كالديموقراطية والحرية والعدالة. لأنها ستناقض نفسها بنفسها عاجلا ؛ فثقافة التركيز ستحول بينها وبين الاعتراف بحقوق الآخر وبالتالي ستفتقر للديموقراطية ثم أنها ستحتاج في سعيها للتركيز إلى السيطرة على الآخر وهكذا تعتدي على حريته ، هذا قبل أن يكون ذلك مصادرة على الحق في المساواة فتنتهك العدالة. إن ثقافة التركيز ليست فقط ثقافة تحاول لم كل الخيوط في يد واحدة بل فوق هذا فهي لا تتورع عن سرقة كل جهود الآخرين وتبخيس ما لا تتمكن من الاستحواذ عليه. إن ثقافة التركيز هي التي أفضت الى فشل الديموقراطيات والدكتاتوريات على حد سواء بل أدت وستؤدي إلى إجهاض أي مشروع أممي مستقبلي ولو بدا في طلع نواره مشرقا وبهيجا وواعدا. وإذا كان هذا الشعب يرغب فعلا بتجاوز محنته التاريخية فليس امامه سوى استئصال ذلك الورم الخبيث المسمى بثقافة التركيز. وبغير ذلك فمهما تلونت سماء الشعب بالشعارات الوردية والآمال العراض والوعود البراقة فإن ذات هذا الشعب نفسه هو الذي سيحمل فأسه ليهدم ما يحاول بناءه. لقد غضب البعض من مقالي حول تجمع المهنيين ؛ لكنهم لم يفهموا أن الأمر لا يتعلق فقط بهذا الكيان أو ذاك إنما يتعلق فوق كل شيء بثقافة التركيز التي يتبعها كل إنسان سوداني وجد فرصة للقفز على جثث الآخرين. ما نحتاجه ليس إسقاط النظام فحسب ؛ ما نحتاجه حقا هو إسقاط منظومتنا الثقافية قبل كل شيء لأن هذه المنظومة هي التي أنتجت هذا النظام والأنظمة السابقة عليه وستنتج الأنظمة اللاحقة أيضا. إننا نحتاج لتغيير معرفي قبل أن يكون تغييرا سلطويا لأن السلطة هي نتاج نموذجنا الابستمولوجي وليس العكس. فآدإن لم نفعل -ولا أرى أي بصيص أمل بأن نفعل- فلا جدال عندي بأن توقيعنا بالحضور على دفتر الفشل سيظل مستمرا مهما تغيرت الأنظمة السياسية.
العنوان
الكاتب
Date
اسقطوا منظومتكم الثقافية قبل اسقاط النظام بقلم د.أمل الكردفاني
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
أمل الكردفاني
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست