ربما ما يحدث الآن شيء أكثر من طبيعي ؛ بل هو العودة الحقيقية الى طبيعة دولة تمت صناعتها من العدم. وتم فرض مسمى قوميا على جماعات لا رابط بينها ؛ وتم تركيز السلطة في يد فئة معينة ترتبط بالدين او السلاح او بتحالف الاثنين معا. فهذا النزوع نحو تفكك هذا الاتحاد المصطنع أمر حتمي ، ونهاية هذا الكيان الذي لم تتآلف اعضاؤه حتى اليوم هو أفضل ما يمكن أن يحقن شلشل الدماء. نتج هذا الكيان كمزحة سمجة في صراع بين طرفين وفي ظل وضع دولي أهل لانبثاقه من العدم ، وتحفزت عقول مثخنة بالرؤية الضبابية لفهم معنى الدولة ، تلك التي اودعت أذهانهم قسرا عبر تكرار الخطاب الانجليزي ، وبين الطبيعة البسيطة التي شكلتهم وحددت قراراتهم قبل أن يتخذوها. ليس من المستبعد أن تكون دعوة عبود لحرق الجنوبيين حقيقة او اعتبارهم ارهابيين كما قال الصادق المهدي ... ففكرة رجل الدولة لا تتأسس الا على من لديه اقتناع بالدولة نفسها. وهذا ما كان هذا الكيان يعوزه بل ولا يزال. الآن مرت أكثر من اثنين وستين عاما من السنين ، نصفها تحت حكم الاخوان المسلمين ، ونصفها الآخر بين غيرهم ، لكن فلنراجع كل ما تم طرحه على مستوى الايدولوجيا (غيبية كانت أم وضعية) ، سنجد أنه لم ينشأ حتى اليوم تيار قادر على احتواء فكرة الدولة واجتراح فلسفة تسيير شاملة لها. ليس فقط ذلك اللا فهم لأنصار الايدولوجيات لأيدلوجياتهم المستوردة من الخارج نفسها (شيوعية ، بعثية ، ليبرالية ، اخوانية...الخ) وبالتالي عدم القدرة على أقلمتها بحسب خصائص هذا الكيان المصطنع ، بل حتى في اطروحات جديدة تم تبنيها على عجل ليس لبناء مشروع قومي بقدر ما هو تكريس للتفكك كطرح ما يسمى بجدلية المركز والهامش. حيث تتضمن الاقصاء المموه في شكل اعترافات بحقوق مهضومة. اكثر من اثنين وستين عاما لم يتمكن أحد ممن طرحوا أنفسهم كوكلاء عن هذا الكيان سواء اعتبروا عملاء او أبطال ، تأسيس بنية تحتية ولو لمجال واحد أو قطاع اقتصادي ما او تيار ثقافي فني ، ولم يعد يملك هذا الكيان أي ميزة نسبية يمكن ان تعينه على المنافسة في ظل موجة العولمة العاتية التي تغرق العالم. لا زال كل شيء ناقص بشكل مخز ، جماعيا او فرديا ، وهو نقصان ناتج عن ثقافة الرفض للكيان نفسه ، حيث لا يعترف به الا حين يمكن حلب ضرعه تحقيقا لمصالح البعض. هذا الذي هو وطني خارج السلطة وهو ذاتي متقوقع داخل السلطة ، هو قومي خارج السلطة ، فئوي او طائفي او اثني داخل السلطة. فليس من المستغرب أن يتناقض السلوك مع الطرح ، والتطبيق مع التنظير ، كما لو كان ذلك نفاقا شائعا. لكنه في الحقيقة ليس نفاقا ، بل المسألة أعمق من ذلك ، المسألة هي أن فكرة الدولة القانونية نفسها غير مستقرة بل ويمتعض منها العقل الباطن لكنه لا يقر بهذا الامتعاض . وهكذا نرى صراعا شديد التكلف تحت قباب انصاف أو حتى ارباع النظريات. ولا يعني ذلك ان تبني أي ايدولوجيا هو تبني كاذب ، بل على العكس هو تبني حقيقي ، لكنه تبني فوقي ونخبوي له أغراض ليست الدولة أحد أولوياتها. إذن فانحلال هذا الكيان أمر وارد ان لم يكن هو المتوقع بشدة ، بل ان لم يكن هو الحل الأوحد. ربما لن يحدث ذلك قبل عدة سنوات قادمات لكنه مؤكد ،ولكل أجل كتاب.
لطالما ظللنا ننادي بدولة الشفافية و المحاسبة و طهارة اليد و الديموقراطية و سيادة حكم القانون و لكن يتم دائما وسمنا من جانب المغرضين بأننا متمردون و مخربون،،، لكن من المهم جدا إدراك نوايا اولئك الموالي و العنصريين الذين يستميتون من أجل إستمرار الأوضاع على ما هي عليه على مدى ٦٢ عاما من الخلل و الإختلال و آخر فصولها كانت ال ٣٠ الأواخر و فوضاها العارمة و حكم الإنقاذ البغيض،،، و من الواضح لكل متابع حصيف أن نهج النظام الحالي هو قمة الهرم لأسلوب محاباة ذو القربى المتوارث و بالتالي القبيلة، والواسطات القائمة على المصالح الضيقة و النتنة، إن هذا النهج المتعمد و المدروس قد بدأ يؤتي أكله و المتمثل في الإقصاء التام للفئات الإجتماعية و الأثنية المستهدفة عن مكامن الثروة و السلطة و المكانة و إجبارها على العيش في مستنقع الفقر و الحرمان و الأوضاع الإجتماعية المأزومة و أخذها في نهاية المطاف إلى التسليم بالأمر الواقع و مغادرة الأرض و الأوطان و الضياع و التشرد في كل أنحاء العالم من أجل أن تنعم مجموعات أثنية أخرى بالنعيم و السلطان و خيرات البلد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة