أشرنا فى المقال السابق " نعم لسؤال ما هو البديل" الى أن البديل للحكم العسكرى القائم فى السودان يتناسل من حقائق صلبة ومعطيات محددة ماثلة فى الواقع الموضوعى للحياة الإجتماعية والإقتصادية؛ ولا يمكن للبديل أن يأتى من خارج وقائع ملموسة. وذكرنا أنه رغم نضوج الظروف الموضوعية (إستفحال الظلم والعجز البائن لنظام الحكم عن إدارة الدولة)، الا أن الظروف الذاتية لإحداث التغيير الوطنى الديمقراطى تعيش أضعف حالاتها، فإن أى تغيير الآن على صعيد الحكم لن يؤدى إلى تحول فى طبيعة الدولة التى ظلت طوال فترة الحكم الوطنى دولة مسخرة للبطش بالحركة الشعبية وسلب الجماهير ابسط حقوقها السياسية. فجهاز الحكم يختلف عن الدولة والإثنان ليسا متطابقين.
وفى هذا المقال نلقى مزيداً من الضوء على التحركات الشعبية ضد النظام الحاكم من زاوية ما يمكن عمله فى إتجاه تثويرها وبالتالى تعميق أثرها التراكمى ضد جميع أشكال الإستبداد على طريق المواجهة (المستقبلية) الحاسمة مع الدولة.
القصور الذى لازم حملة العصيان فى نوفمبر وديسمبر يتمثل أولاً، فى غياب رفع مطالب تهم الأغلبية من المواطنيين؛ فبدلاً عن المطالب (الهدف) صار العصيان (الأسلوب) دعوة تم ترويجها، كما ذكر أحد الكتاب، بأكثر من الهدف. وثانياً‘ التعويل على العصيان كأسلوب أوحد للنضال. فالعصيان وسيلة تكون أقل فعالية إذا لم تجد إجماعاً واسعاً من فئات الشعب المختلفة. وجدير بالإشارة الى أن كل التوقعات كانت تشير الى أن أنفجاراً شعبياً مشابه لإنتفاضة سبتمبر 2013 كان متوقع الحدوث فى نوفمبر الماضى إثر قررات الحكومة الأخيرة التى أدت لرفع الأسعار وتحرير سعر الدواء. والسؤال الملح هو ما إذا كان الترويج بأن العصيان سيسقط الحكومة قد أدى لإمتصاص نيران الغضب الملتهبة فى صدور المواطنين الذين بدأت مجموعات عدة منهم فى التحرك فى شوارع العاصمة الخرطوم وبعض المدن الإقليمة بعد إعلان الإجراءات الإقتصادية الجائرة. وهو سؤال يثير التساؤل حول الجهة التى دعت للعصيان!
وهكذا لا بديل من ربط التحركات الشعبية بمطالب محددة ما فتئ يطالب بها أفراد الشعب عبر نضالهم الوطنى الديمقراطى؛ وهذه المطالب تتعلق بقضايا الديمقراطية السياسية وتدور حول مسائل مثل إقرار إستقلالية الحركة النقابية وإلغاء القوانين التعسفية، إلخ. فالديمقراطية السياسية تؤمن للجماهير نافذة يمكن توظيفها لتحقيق مكاسب إقتصادية تتعلق برفع الأجور ودعم السلع الاساسية ومجانية التعليم والعلاج ، إلخ.
ولكن مهما كانت نتائج الهبات فيما يخص تحقيق بعض المطالب فالاصلاحات الجزئية لا تنفى التغيير الجذرى للدولة بتحويلها لدولة وطنية ديمقراطية، وكما ذكرنا سابقاً فإن هذا لن يتحقق إلا بتقوية القوى الذاتية فكراً وممارسة. وهذا يفرض الإستعداد لنضال طويل الأجل لا تغيب عنه الصورة الكلية للواقع السياسى. فماضى التطور السياسى المتسم بالسيادة السياسية للطبقة المعادية للشعب ظل، منذ الإستقلال، يفرض طبيعة بنية الحكم فى البلاد. فما الماضى، فى هذه الحالة، الا المقدمة ( past is prologue). وفى غياب تكوين رأى ثاقب حول التغيير مغايراً للتوجهات الرجعية للدولة فإن أى تغيير قادم لن يمت نسبه الا الى سلسلة نسب أنظمة الحكم التى مرت على البلاد منذ نهاية الإستعمار المباشر: تلك السلسلة التى يمثل الاقتصاد المتخلف الحبل السرى الذى يحكم الرباط بينها؛ وتكوين الرأى المناقض يتمحور حول هدفين: تحرير مفاصل الإقتصاد الوطنى من قبضة التبعية وتعليمات المؤسساتها المالية العالمية (International financial institutions) وإنجاز الديمقراطية الإقتصادية بحل المسالة الزراعية من خلال إزالة علاقات الإنتاج القديمة واسلوب الإنتاج الصغير مما يعبد الطريق لنمو قوى الإنتاج وبالتالى توسيع دائرة الانتاج. وأداة التغيير الوطنى الديمقراطى هى الديمقراطية التى تعبر عن مفاهيم الحرية والمساواة الحقة ومبدأ حكم الشعب لنفسه عبر التمثيل النيابى لصالح الأغلبية من السكان الذين يتشكلون من العمال والمزراعين؛ وفي هذا الصدد فإن تحديد القوى الطبقية الملقى على عاتقها مهمة التغيير مسالة تنبع أهميتها من تجنب المصطلحات الفارغة المحتوى مثل ”قوى التغيير“ و ” القوى الحديثة“ التى تهدف الى التعميم (بقصد أو غير قصد) وبالتالى قطع الطريق على أي تغيير حقيقى على الصعيد الاجتماعى/ الاقتصادى.
وهكذا فالتغيير لا يحدث خارج الوقائع المادية للحياة وليس بالكلمات المنمقة التى تعج بها كتابات مؤسسة على فرضيات مبنية على التصورات والتخيلات الشخصية للباحث وغير مطابقة للواقع ورغم إتساعها وإسترسالها فهى فى النهاية لا تقول شيئا، ينطبق عليها قول شكسبير ”حكاية ... يرويها أحمق ملؤها الصخب والسخط ولا تعني شيئاً.“ – "It is a tale told by an idiot, full of sound and fury, Signifying nothing."
كذلك، فيما يتعلق بالتغيير يتطلب الأمر :
أولاً، النظر إلى أبعد من مكونات السلطة العسكرية والتمعن جيداً فى أهداف بعض من يعارضونها؛ فهناك من تحركهم مصالح تصب فى صالح جعل عملية تغيير جهاز الحكم تجرى بشكل دائرى حيث تنتهى لخلق نظام معاد للشعب. ومثالاً لهذه القوى ذلك الاسلامى المنافق الذى بعد أن كان يقدم خدماته لنظام حسن الترابى الظلامى بلا سقف أصبح الآن ينادى بالديمقراطية الليبرالية ويدعوا للتمسك بمزايا الشخصية السودانية المزعومة التى تناى عن المجابهة والمصادمة وتتجه الى الإعتدال، ومثال آخر أولئك الذين يمارسون التمويه بالتظاهر بمعارضة النظام فى حين انهم يتامرون ضد الشعب من خلال مشاركة أتباعهم بفعالية فى أجهزة الحكم السيادية والأمنية، واخيراً الحركات المسلحة التى تعطى الأولوية لمسألة الهوية فى الصراع السياسى الدائر فى السودان.
وثانياً، القراءة الصحيحة لموقف مواطنوننا الذين يطرحون سؤال ما هو البديل وعدم الإستخفاف بعقولهم. إن الناس فى بلادنا يطرحون سؤال البديل لأنهم لا يريدون تكرار تجربة الانظمة العسكرية سوى بقناع إشتراكى كاذب أو بتسليط القوانين الإسلامية على رقابهم؛ لا يريدون عودة الحكومات الطائفية التافهة؛ لا يريدون من يمارس التعسف بفرض القوانين التى تسلبهم حق التعبير عن الرأى والتنظيم والتظاهر والإضراب؛ لا يريودون الأنظمة المتزمتة التى تضرب النساء والرجال بالسياط لا لسبب غير انهم اختاروا ممارسة حريتهم الشخصية بالصورة التى يريدنها من دون إيذاء الآخرين. ومن ناحية أخرى فإن سؤال البديل عندما يكون مصدره نظام الحكم فهذا إعتراف من الحاكمين بفشلهم وإخفاقهم وسقوط سياساتهم. أليس أعضاء المؤتمر الوطنى يكشفون ببلاهة عن عجزهم ويفضحون أنفسهم عندما يصيحون فى وجه الشعب المنتفض: ما هو البديل؟
ثالثاً، عدم إهمال العامل الخارجى؛ فليس المطلوب ترقيتنا للعمل السياسى بإلإبتعاد عن الشعبوية السياسية فحسب، بل تجاوز المحلية الضيقة وإستصحاب التفكير الجاد فى مدى تأثير ديناميات الصراع الدولى على تطورات الوضع الداخلى. وتتضاعف أهمية إعطاء الإعتبار للعامل الخارجى على ضوء سعى الدول الكبرى الحالى لإعادة ترتيب ميزان القوة بينها من خلال إحداث تغيير جذرى فى الدول الطرفية لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة