|  | 
  |  ( الطيب بابكر بدري ) نبع لا ينضب |  | (  الطّيب بابكر بدري )
 نبعٌ لا ينضب
 ( ليس للعالم سوى روح واحدة )   : الشاعر غوته .
 كيف نبدأ المقال يا ترى ؟ ….
 " قلم الرصاص" ، هذا المخلوق الصغير ، يمكنه صنع العجائب . يشترك مع الورق الأبيض الخشن و الأصابع  في خلق عالم جديد . الإبهام قائداً لأوركسترا سحِر الرسم القديم ، في مواجهة السبّابة و الخنصر و البنصر والأوسط ، و أيضاً قائداً لقفزة التطور البشري على إطلاق الكلمة . الإبهام سيد الصناعة و الخلق عند الإنسان ، طور الذهن و تبادل معه القراءة و الاستذكار. يطوعان المادة الخام ، لتسهم في صناعة هذه الحضارة التي نقطف ثمارها الآن ،أو نكتوي بنارها ، منحدرة منذ التاريخ القديم .
 الإبهام و مجموعته ، وبينهم " قلم الرصاص " ، حوار دائم و حركة و " مساج " ناعم . نحن ندخل عالما للرسم ، مدخله النقل  وفق الأسس التعليمية القديمة.  كيف ترى أنت الأشياء ؟ ما معنى مستوى النظر ، أعلاه و أسفله ؟. ماذا تعني نقطة التلاشي عند خط الأفق ؟، و كيف نحاكي الطبيعة وفق ما ترى العين الإنسانية ؟ .
 تعلمناً بطيئاً وعلى تدرج سلس ، حتى الإتقان . تبدأ الرحلة  بالنظر ، ثم التدقيق في النظر، و التجريب . الإطلاع على إنجاز السلف ، حتى تنشط الصِنعة بين يديك ، و تدخل الإبداع من أبوابه الرئيسة. المعلم يقود التجربة ، و ينمي رغبتك ، و يُحبب إليك مادة الرسم ، لتسلك  أنت الطريق إلى الفن . يرفّعك بخطوات ثابتة ، يشترك الجميع في الأمر . بمثابرتك تتسلق الدروب الصعبة ، تعبر الفيافي و تكلم المادة الصامتة و المتحركة. ريح الخُضرة تخضب بنانك ، و تدخلك عالم الألوان ، هذا الصخب الفرِِح . النبات ، إنه التكوين الحي و المتضمخ بالغموض ، تقترب منه ، يخافك برهة ، ثم يتعود هيئتك . يرقب ملاطفتك عن بُعد و يمنحك الأوكسجين ، إكسير الحياة أنهارا . يحزن مثلك ، و تنعشه الموسيقى . يفرح لصخب الأطفال حوله و يخشى اللمس أو الأذى .
 كيف تنتقل الرؤيا و كيف تتداخل الأحياء مع الطبائع المختلفة ؟. كيف تدخُل المملكة الفريدة ، و تتعرف على العوالم الجديدة التي لا يعرفها إلا المبدعين؟ .
 تبدأ التدريب ، و يصطحبك أب روحي يشعل في نفسك الرغبة ، لتصمد في وجه الأحكام الجائرة ، التي يطلقها المجتمع عليك . في الزمان القديم  يبدأ المرشد ، يضيء لك طريق الدعوة ، التأسيس مع الممارسة حتى تصمد ، قدر ما تستطع . لك أن تستمر ، أو تغادر الرحلة عند المنعطف الحاد . و إن فعلت، تتحول التجربة بكل تجلياتها و سحرها ، إلى ذكريات ، و تلك لعمري خسارة فادحة.
 بدأت تجربتي متواضعة ، و كان الأب الروحي شقيقي الأكبر" جمال" . النقل و المحاكاة ، ثم تتبع الأثر . كان هو ممتلكاً أدواته ، ساد مملكته زماناً . منح التجربة من وقته و مشاعره ، حتى اصطدم بالمؤسسة القديمة عندنا في الستينات ، و هزمت مشروعه المبدع ، و غادر الساحة ، مظلوماً ، و هجر فن الرسم و أختط لنفسه نهجاً و مصيرا  آخر، ربما كان أفضل . الحديث عن التجربة يفتح جرحاً غائراً في النفس ، فلنترك الأمر لمجال أرحب .
 نعود إلى الإنسان المتوهج ، معلمنا الأستاذ "الطيب بابكر بدري" ، معلم مادة "الفنون الجميلة ". رغم مرور ثمانية و ثلاثين عاماً منذ إطلالته علينا أول مرة ، في بواكير المرحلة الثانوية ، لن ننساه أبداً. جسد نحيف فارع الطول ،و ملامح الوجه الدقيقة ،  يألفها قلبك و أنت تراه أول مرة  . بدأ يرغبنا الرسم و تقنياته ، ويحبب إلينا دخول هذا العالم الجديد ، وكان  أول إرشاده :ـ
 ( تعرف على الطبيعة ، فهي السيدة الأولى ، منها نتعلم الصبر . تقف هي على الحجر دهراً حتى تصنع منه تُحفة جميلة . الغرائب تتداخل مع الصنعة الحاذقة ، بكل زخمها . تقذف الطبيعة بالتجارب الفطيرة  و الخلاقة . الجمال بكل احتمالاته ، و القبح حتى الثمالة . صراخ الوليد برهة ، و ابتسامة الموت الأبدية  . الزمن وحده كفيل بتعريفك ، كيف تعمل تلك الصيرورة البطيئة ، قبل أن تعرض علينا موائدها المجانية .)
 يبدأ المعلم " الطيب بدري " الدرس ، وتحس كأن غطاء شفافاً وسميكا ًمن الهيبة يلتف يطوقه ، و الدهر كله ينسكب على جسده ، من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه . قوله مزيج من الحكمة  والتداعي :ـ
 ( ا نظر الأشياء بعين فاحصة ، و قلب رؤف . خذ من وقتك ، في يوم العطلة ما شاءت لك فُسحة الزمن . اذهب إلى غرب أمدرمان القديمة ـ كانت وقتها خلاء ـ ابحث عن الحجارة ، تجد الغريب من التُحف . فقد صنعت الطبيعة من هذا التكوين الصلد ، كهوفاً و بيوتاً ، تُحفاً من الفن الرفيع . أريدك أن ترقب الصناعة الدقيقة التي أخذت من وقت الطبيعة دهراً لتكون . أريدك أن تنظر من جديد ، فهذا ينمي الإحساس المرهف ويقوي الحدس ،و يغذي الروح بالسلام و الطمأنينة الأبدية ، و عندها تتغمصك الطبيعة بسِحرها . الملاحظة و الانتباه تُدخلك قصر الإبداع . تبدأ متفرجاً ، ثم تتدرج ، حتى تمتلك الصولجان و تنطلق .)
 هذا قبس من حديثه ، وقد دهشت كثيراً و أنا أقارن بين نهجه  في الستينات ، وما طالعته حول الدراسات الايكولوجية ، التي بدأت تتشكل منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي :ـ
 { أنت والبيئة، أصديقا لها أنت أم  عدوها اللدود ؟ . منذ الستينات بدأت رياح الخُضر تجتاح العالم . أزمة البيئة المستعصية هي نتاج طبيعي لسلوك الإنسان الحديث وأصوله الفكرية التي تأسست على الفلسفة الديكارتية ، التي تفصل الأنا عن الطبيعة حولها ، و تدعو لاستغلال البيئة لخدمة الإنسان . وعبث الجميع بالبيئة حتى التدمير  . مؤسسات الدفاع عن البيئة  ، بدأت تؤسس لعلوم تصادق البيئة ، وتحميها من العدوان المسرف . تطور الأمر حتى انتهى إلى الدراسات الايكولوجية ، التي تدرس العلاقة المتبادلة بين الكائن الحي و بيئته. تمد الجسور بين الإنسان و الطبيعة ، حتى ولد الإنسان الأيكولوجي بديلا للإنسان الفاوستي .  انتبه الإنسان من جديد إلى التراث الأيكولوجي ، الذي هو محاولة حدسية لتناغم المرء مع العالم ، وقد تم التعبير عنه منذ القدم ، في الشِعر و الأدب و الرسم و الموسيقى و العديد من التقنيات التي تتلمس وحدة الوجود ، والإبقاء على توازنه الدقيق . تتوهج أساليبه ولغته و صفاء سريرته سعياً إلى الخلود . إن لصداه الأثر العميق في النفوس الشفيفة .
 إن كلمات " جوته " حول روح العالم الواحدة ، أضحت حكمة يتردد صداها اليوم شرقاً و غرباً ، رغم الأتربة و العواصف الكالحة التي تعصف بعالم اليوم ، والتي يتسبب فيها أفراد و جماعات " بيزنطية النزعة " ، يمارسون عبث الطفولة التجريبي ، و هم في قمم أهرام السلطة السياسية . يفتقدون المحبة ، وهي المقياس الزئبقي لصعود الإنسانية لأفقها الرحيب ، أو السقوط المدوي . }
 كان " الطيب بابكربدري " أنموذجاً  للإنسان الأيكولوجي بكل زخمه ، عاشقا للطبيعة ، ينتبه لإنجازها الصامت و الصبور . كان له كل هذا النقش الفخيم في تلافيف الذاكرة ، بثه إلينا في قوالب تناسبنا في ذلك الزمان . تلمح من حديثه وكلماته ، و مقاطع النثر الذي يروي ، لوحة " هارمونية " من الخلف رائعة ، وهو يغوص معك في لُجة الدرس ، حتى تحتبس الأنفاس . تهرب عندها إلى السطح فتملأ رئتيك من ريح  التراث الصوفي البهي .
 ملمس فاخر من التراث المعرفي ، يلتف حولك ، يحاصر روحك حتى تستجيب . كانت مخاطبته  لنا متعددة الأوجه ، تكتسي من حُلل الثقافة أينعها وأطيبها و أكثرها رقة . تلمس اختلاف الرأي عنده ناعماً ، حتى تستعذب حلو مذاقه. تتأرجح لغته بين السهل الممتنع حينا، والتصوير الكثيف أحياناً أخرى . تختلط اليقظة فيها بالأحلام ، لم ندركها نحن إلا بعد عقود .
 يمكنك الآن أن تفتح بوابة الذاكرة ، و تتخذ لنفسك مجلساً ، وتشهد الطقس من المبتدأ إلى المنتهى . تغرف من نبع " الطيب " وتستسقي روحك العطشى . إنه أول الغيث ، قبل أن ينهمر ، فالروح لا تلبث أن تتجدد  مع الزمن . إن التقيت معلمنا أو لم تستطع ، فإن الظل الوارف هو رصيد الخير الذي استنبته لنا منذ أيامنا البواكر، نبعٌ لا ينضب . له منا التحية و الشكر و العرفان  .
 عبد الله الشقليني
 20/4/2004
 حاشية : عندما أعددنا المقال ، لم نكن نعلم أننا لن نلاقيه ثانية . ألف نور و سلام عليه . عطر اللهم مرقده من روائح جنانك الوارفات ، وهب أهله و أحبائه صبراً على قضائك، فقد رحل عنا و كان ظلاً ظليلاً و ثمراً وفيراً. آنا لله و آنا إليه راجعون....عبد الله الشقليني
 | 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 |  
  |    |  |  |  |