في عيد الأم أنشر مقدمتي لكتاب الأستاذة فاطمة محجوب عثمان، شقيقة أستاذنا عبد اخالق محجوب، وعنوانه "مذكرات بت شقية" قيد النشر. والكتاب بشكل كبير عن طفولتها وصباها وشقاوتها في أربعينات وخمسينات القرن الماضي بحي السيد المكي بأم درمان. واتخذت من شقاوتها الاستثنائية الممتعة خيطاً لنظم حيوات نساء ورجال عمرت الحي. والكتاب في تصويره تلك الحيوات وثيقة للتاريخ الاجتماعي قل مثيلها عندنا. واسمحوا لي نيابة عنكم أن أهنئ فاطمة بعيد الأم، وأشكرها لسهرها الطويل على كتابة هذا التاريخ، سائلاً الله له الصحة وطول العمر.
يتوقع المرء من كتاب بقلم الأستاذة فاطمة محجوب عثمان ود كسبة، الشقيقة الأصغر لأستاذنا عبد الخالق محجوب، سكرتير الحزب الشيوعي حتى مصرعه الفاجع بعد فشل انقلاب 19 يوليو 1971، أن يكون عن هذا الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. إلا أن أسعد ما في هذا الكتاب وأبرك أنه كتاب عن طفولتها وتعليمها وامتهانها التعليم. حقها حلالاً بلالاً كما نقول. ولم يزد دور عبد الخالق عن غيره من أخوتها، أو حتى آخرين في حي السيد مكي الذي نشأوا فيه. واشهد بأني عرفت عن عبد الخالق وقضيته أضعاف مضاعفة من هذا الكتاب دون كتابات أخرى كتبت عنه كأنه ولد في اجتماع للجنة المركزية أطاح فيه بسلفه الرفيق عوض عبد الرازق ب"لكمة بيسار اليمين"، في مقطع من قصيدة "أنانسي" التي هجاه بها الشاعر صلاح أحمد إبراهيم. وهي لكمة صورها صلاح كتدشين له كزعيم القبيلة "المفدم بالنظرية كالزق بالزق" الذي في "مسوح تواضعه يستجير التسلط" أو كما قال. واحدة من معايب فكرنا أنه لم يوطن بعد المدينة، التي كانت معنا في طورها الحديث منذ أكثر من قرن، كحقيقة اجتماعية وديمغرافية وثقافية وسياسية لا مهرب منها. فما يزال الوفود إليها غربة تصدح به الأغاني ويبكي الباكي، أو يتباكى، على فردوس القرية المفقود. فمثل هذا الباكي يعيش المدينة وكأنه على علاقة غير شرعية بها. وترتب على غربة المدينة عنا استرذال أهل السلطان الأبوي من حكومة وغيرها ما يستجد فيها، كمدينة، من ثقافات و"موضات" مستحقة. فلم يقبلوا بحلاقة "الكاريه" في الشباب قديماً. وما يزالون يتعقبون شعرهم بأنواع من الحلاقات القسرية لفظاً وفعلاً. ويقع الأذى الأشد على المرأة فتتزاحم القوانين للسيطرة على جسدها لأنها البوابة للعرض. ترى من خلال كتاب فاطمة مدينة تتشكل أمام ناظريك. فهو عن طفولة الجيل الثاني لأسرة فيها. ترك الوالد القرية في العقد الثاني من القرن العشرين لائذاً بالمدينة التي فتحت بابها لمن وطأته أبوية الريف بمنسم. فقد ساء جدتها من أبيها مساءة قررت بعدها ألا بقاء لها في القرية، البركل، في الشايقية طالما "قبض" ولدها الماهية. أما الأم فأصولها في شايقية الزومة تخللت المهدية تاريخ أسرتها بعنف وشتات بما في ذلك رحلة صعبة إلى مصر ثم عودة. وكان زواج الأب زواج" شَاق"، في عبارة قديمة" ويعنون بها من وقع عليه برغم رفض البطريركية. وستكون هذه الزيجات الشاقة هي فريضة المدينة أو سنتها. ويصدق في الحرية، التي هي عنوان المدينة وشرطها، قول أم بلينا جارة ناس فاطمة الكاتبة حين تضجر الجيران من مواقف لها في ريدة حبيبها: "الدنيا حرية والمامور في الزابطية". وهي حرية أذنت لنساء أن يطلقن أزواجاً اقترن بهم جزافاً. وترى النساء في الكتاب جادات في طلب الرزق المستقل في غير ما اعتادت القرية. فهن في السوق شاريات بائعات وهي وظيفة أم درمانية قديمة جعل بها الخليفة عبد الله سوقاً للنساء. وأكثرهن من عال أسر عرفن به قيمة العمل وعائده. قالت الملكة خالة فاطمة: " قرشك ود محفضتك وعجلك ود بقرتك". فتجد بائعات اللقيمات والدكوة والربيت والفسيخ من حول المدراس الناشئة ومن حول غيرها. وتجد بائعات لسلع خطرة كالجسد والمريسة. وتجد خبيرات في الزار والطهارة والدايات ودق الشلوفة والتشليخ. وصانعات للفراد والقفاف والطواقي. غير أن المدينة ظلت تشمئز من عمل التدريس والتمريض لأنها معبر إلى نظام نائي ومُختلف عليه وإن أذنت للنساء بالعمل كفراشات في مرفقي التعليم والصحة. ولم تتوقف الفتيات مع ذلك فبدأت طلائع المعلمات فتبعتهن فاطمة لاحقاً بإحسان.
العنوان
الكاتب
Date
فاطمة محجوب عثمان: مذكرات بت شقية (1-2) بقلم عبد الله علي إبراهيم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة