- حلقة الفشل الخبيثة الملازمة للثورات والانقلابات - معضلة استمرار الحالة الثورية وعودة الحكم العسكري الديكتاتوري - معضلة الثائر الديكتاتور - معضلة انتقال الأوضاع من سيء إلى أسوأ - "ناشط حقوقي" يأمر بإعدام أكثر من 40 ألفاً واعتقال 300 ألف شخص - دواعش الجزائر قتلوا 100-150 ألف جزائري (1991-2002) - مسؤولية الإخوان عن مقتل 600 ألف سوري وجزائري 1982 و1991-2002 و2011-؟ - انقلابات الإخوان بمصر والسودان 1974-1976- والجهيمان بالسعودية 1979 – رابعة العدوية 2013 - ثائران شيوعيان يقتلان أكثر من 60 مليون إنسان - ~ 94 مليون قتيل ضحايا الأيديولوجية الشيوعية الإرهابية حول العالم - 750 ألف قتيل ضحايا إرهاب حزب البعث بالعراق وسوريا (1970-2016) - 500 ألف صومالي ماتوا منذ الإطاحة بسياد بري 1991 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "اليوم نرفع راية استقلالنا .. ويسطِّر التاريخ مولد شعبنا !"
هكذا سطَّر الشاعر د. عبدالواحد عبدالله يوسف أواخر عام 1955 تلك الكلمات التي تفيض بما يعتمل في نفوس السودانيين آنذاك من الحماس والأمل في غدٍ مشرق، وأمة جديدة ناجحة خلعت ربقة المستعمر، ومضت واثقةً نحو مستقبل واعدٍ مزدهر.
ولكن بعد 61 عاماً ميلادياً من قصيدة د. عبدالواحد واستقلال البلاد، فإن مشاعر اليوم غير مشاعر الأمس. لم يعد الحديث عن الاستقلال يثير ذلك الفرح القديم، بل أصبحت ذكرى الاستقلال تثير في النفوس قدراً كبيراً من المرارة، والإحباط، وروح الهزيمة، والفشل، والتشاؤم. لماذا لم نلحق بركب الدول التي استقلَّت بعدنا وفاتتنا؟ لماذا تفوقت علينا تلك الدول التي كان أهلها حفاةً عراة، ثم باتوا اليوم يتطاولون في البنيان، ويرفلون في حُلل النعيم والرفاهية بما أفاضه الله عليهم من بركات الأرض وخيراتها؟
وبالنسبة لمن طحنتهم الأحوال المعيشية الخانقة، والغلاء المتوحّش، والفقر، والمرض فإن ذلك الاستقلال ليس سوى استقلال أجوف باهت بلا طعم. بل ولم يتورَّع البعض من المناداة علناً بعودة الاستعمار القديم لكي يُصلِح أحوال البلاد!
لدينا قلق كبير ومخاوف بشأن مستقبل البلاد ووحدتها. لم نعد ندري هل سيسطّر التاريخ "مَوْلِد" شعبنا – كما قال الشاعر- أم أنه قد سطَّر بالفعل "وأد" شعبنا وأحلامه؟
يطاردنا ماضٍ من الأخطاء التاريخية الكارثية، والفشل، والأنانية، وقِصر النظر السياسي، والصراعات الشخصية، والحزبيات البغيضة، والجشع، والاستغلال، والفساد قبل الاستقلال وبعده.
فأين اخطأنا بالضبط في تاريخنا؟ ما هي المحطات الفاصلة التي ضيعناها؟ وما هي الفرص واللحظات الفارقة التي فوَّتناها؟
هناك أخطاء كثيرة.. ولكننا سنركز على وسائل الإصلاح السياسي الخاطئة (ثورات، انقلابات إلخ) التي جَنَت علينا وأخَّرت تقدُّمنا.. لأن ذلك الخطأ – للأسف- قد تكرر كثيراً ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النبوءة: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس" تساؤل الصحابي/الصحابة: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ نص الأوامر النبوية: "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطِع". المصدر: [صحيح مسلم: رقم 1847] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نص الأوامر النبوية وبنود البيعة: عن عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان." [صحيح البخاري: رقم 6647؛ صحيح مسلم: رقم 1709] [المعنى: عدم منازعة الأمراء والحكام في السُلطة والملك، مهما كانت فيهم "الأثرة" (الاستيلاء على أموال الشعب ونهبها) إلا عند صدور كفر علني صريح يراه المسلمون] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ملاحظة: لا تقرأ هذا الجزء من المقال قبل أن تقرأ الجزئيْن الأول والثاني منه.
الجزء الأول: https://goo.gl/e7h3cDhttps://goo.gl/e7h3cD الجزء الثاني: https://goo.gl/w0s5kwhttps://goo.gl/w0s5kw ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوسائل الفاشلة وتعقيداتها
كما أشرنا في الجزئين السابقين، فإن نصوص الأحاديث النبوية وإجماع أهل السنة والجماعة منعقد على تحريم الخروج على حكام المسلمين مهما كانوا ظالمين سواءً وصلوا إلى السلطة برضى شعوبهم أو بالقهر والغلبة.
وأما شهادة الواقع وتاريخ الأمة الإسلامية، فإنها تدل على أن طريق الانقلابات والثورات وكافة وسائل التغيير العنيفة والمفاجئة مجرد كبسولات من الوهم placebo، من شأنها أن تضيِّع سنواتٍ من أعمار الأمم والشعوب، فضلاً عن الخسائر في الأرواح والأعراض والأموال. وفيما يلي "نماذج" لبعض جوانب الخلل والتعقيدات والعواقب المقترنة بوسائل التغيير المدمِّرة.
1-غياب التقدير للعواقب 2- عقدة الرومانسية الثورية/ اللاواقعية 3-عقدة الفصل بين النظام الحاكم والدولة 4ـ معضلة فاتورة الدماء والأعراض والأموال 5- معضلة إيجاد البديل المناسب والمستقر 6- اللعب بالنار ومعضلة القنابل الموقوتة بالبلاد 7- معضلة استمرار الحالة الثورية و ..عودة الحكم العسكري الديكتاتوري! 8- معضلة الثائر الديكتاتور 9- معضلة انتقال الأوضاع من سيء إلى أسوأ
1-غياب التقدير للعواقب
إن أول خلل في الخيار الثوري أو الانقلابي هو غياب التقدير المسؤول للعواقب والآثار المترتبة على الشعب والبلاد، فضلاً عن عدم معرفة أو ضمان وجود بديل أفضل من الحاكم الظالم يضمن استتباب الأمن والاستقرار. إن الفعل الثوري الذي يستهدف في الأساس إسقاط الحاكم شخصياً مع طبقته المساندة مغامرة أشبه بالقفز في الظلام - أو المقامرة في لعبة الروليت الروسية (مسدس الساقية ذي الرصاصة الواحدة) - يصعب التنبؤ بنتائجها. ولكنها مخاطرة يتقبلها الثوري الجاهل المتحمس عن طيب خاطر، مع أن البديل قد يكون سنوات من سفك الدماء والحرب الأهلية قد يصل بعدها طاغية آخر إلى الحكم، أو يتم تمزيق وحدة البلاد بين مجموعة من الطغاة الجدد أو الفصائل المتحاربة أو القبائل، كما يجري في ليبيا الآن بعد القذافي، وكما جرى في الصومال بعد الإطاحة بسياد بري عام 1991، حيث مات أكثر من 500 ألف شخص حتى الآن.
2- عقدة الرومانسية الثورية/ اللاواقعية نجد في كثير من الحركات الثورية والانقلابية سواءً من العوام أو اليسار أو من يسمون بـ"الإسلاميين" سذاجة شديدة في تقدير حسابات القوة وحجم المواجهة المحتملة ومآلاتها، وذلك على نحو لا علاقة له بالتوكل كما فهمه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته. والأمثلة كثيرة وأليمة كما في انقلاب الخوارج في 18 أبريل 1974 بمصر تحت قيادة الإخواني التكفيري"صالح سرية" (فلسطيني، 1936-1976) الذي حاول ضمن تنظيم موالٍ للإخوان السيطرة على الكلية الفنية العسكرية بتخطيط بدائي ساذج بهدف إعلان الدولة الإسلامية بمصر. وأما التكفيري السعودي "جهيمان العتيبي" (1936-1980) فقد جمح به الخيال أكثر، وغرر بالمئات من أتباعه إذ قام في 1 محرم 1400هـ (20/11/1979م) بثورة انتهك خلالها حرمة الحرم المكي وقتل الأبرياء زاعماً بأن أحد أتباعه هو المهدي المنتظر وأنه سيطيح بالحكومة السعودية، وأسفر احتلال الحرم وتحريره بعد أسبوعين عن سقوط أكثر من 200 قتيل وأكثر من 400 جريح من الخوارج وقوات الأمن.
كما غرر الإخوان بأعضائهم وكوادرهم في اعتصام كارثي بميدان رابعة العدوية (28 يونيو-14 أغسطس 2013)، ورفضوا التفاوض مع الحاكم العسكري الذي استتبت له السلطة بمساندة قطاعات من الشعب، ومارسوا الكثير من العنتريات الخطابية والاستفزاز والتوعد بأنهم جاهزون للشهادة وسط تكفير وتهديد لمخالفيهم. وضم الاعتصام عناصر من العوام الذين ربما يصنفهم البعض كبغاة متأولين، كما ضم عتاة التكفيريين الخوارج الذين شككوا في إيمان من شك في رجوع الرئيس مرسي إلى السلطة، بينما ادعى البعض البشرى بنزول الملائكة في مسجد رابعة. والشاهد هنا، أن حسابات الإخوان لم تحسب الحجم الحقيقي لتأييد الشارع العام لهم، ولم تراعي أنها تزج بمدنيين معظمهم عزَّل في مواجهة غير متكافئة مع جيش البلاد وقواتها الأمنية التي كانوا يحلمون -في غياب الواقعية- بحدوث انشقاق فيها أو حدوث تدخل أمريكي أو غير ذلك من الحسابات الخيالية. وكانت النتيجة مقتل المئات وجرح الآلاف في فض الاعتصام. وهي أمور كان يمكن لجماعة الإخوان تجنبها لو أنهم اتبعوا تعاليم الشرع في التعاطي مع الواقع، أو على الأقل لو أنهم تعلموا من أخطائهم على مدى أكثر من 80 عاماً من الفشل والكوارث.
وفي العموم، تغلُب على الشباب الثوري المثالي نظرة رومانسية حالمة تفترض نهاية سعيدة وسريعة للعمل الثوري دون تقدير للعواقب والتحديات الواقعية، الأمر الذي يؤدي لانتكاسات خطيرة حتى بعد نجاح الهدف الأولي بإسقاط الأنظمة. ولو تأملنا دروس التاريخ وعبره لدى المسلمين وغيرهم (كما سنرى في الثورة الفرنسية)، لوجدنا بأن الخيار الثوري أو الانقلابي للتعامل مع الحاكم الظالم مبني على فهم ساذج للواقع وقراءة سطحية لمجريات الأمور لم تنضج بعد بحيث تستوعب آليات قيام وسقوط الأنظمة والدول.
سذاجة الثوري الحالم ولعبة التوازنات إن الحاكم مهما كان ديكتاتوراً لا يملك في الواقع جميع أوراق السلطة، لأن النظام المستبد أو المتغلب بالقوة هو في النهاية ثمرة ومحصّلة لقوى خارجية وتوازنات داخلية معقدة لقوى المجتمع ومكوناته العرقية والثقافية والدينية والحزبية، وبنية الدولة ومؤسساتها، خصوصاً إذا طال حكمه وتغلغلت في المجتمع شبكة المنتفعين أو العصبة المؤيدة له.
وبالتالي فإن أي محاولة لخلخلة ذلك التوازن لابد أن تؤدي للفوضى قبل أن يخضع الناس لأي بديل آخر. وفي الغالب يكون الحسم للقوة المسلحة، هذا إذا كان الشعب محظوظاً بانحياز قوة كاسحة موحدةٍ ومتماسكة، وإلا فإن البلاد ستتشظَّى بين مجموعة ميليشيات مسلحة متكافئة القوى كما جرى في لبنان (1976-1989)، والصومال (1991- ؟)، وليبيا (2011-؟)، وسوريا (2011-؟). ولذلك فقد لجأت بعض الأنظمة – كما فعل نظام القذافي- لإضعاف الجيش النظامي وتفتيته مع إنشاء ميليشيات وأجهزة موازية كاملة الولاء للنظام بما في ذلك استيراد جنود مرتزقة من غير أهل البلاد.
3-عقدة الفصل بين النظام الحاكم والدولة هناك فكرة ساذجة يحملها الانقلابيون والثوريون، مفادها أن الدولة والحكومة كيانان منفصلان تماماً، وأن بوسعهم الإضرار بالنظام الحاكم واجتثاثه دون الإضرار بالدولة والشعب خلال تلك العملية، وهذا بالطبع خلاف الواقع الذي يشهد بالمفاسد المترتبة.
3.1 - مفسدة تدمير الدولة وتسلط الاحتلال الخارجي نظراً للتداخل بين الدولة والنظام فإن استهداف النظام كثيراً ما يؤدي لتمزيق الدولة (كما في الصومال مثلاً) أو زوالها واحتلالها، ونكتفي هنا بمثالين على أثر الخروج على الحاكم المسلم في تفتيت وحدة المسلمين:
أ-زوال الخلافة الواحدة (750م) أدى اندلاع الثورات ضد خليفة الدولة الأموية وبخاصة ثورة العباسيين إلى سقوط آخر خليفة لعموم المسلمين في عام 132 هـ (750م)، ومنذ ذلك الوقت (أي قبل 1267 عاماً) لم تعد للمسلمين دولة واحدة تجمعهم، إذ أصبحت هناك دولة للخوارج الصفرية الأمازيغ في سلجماسة عام 740م، وأصبح هناك خليفة عباسي في الكوفة عام 750م (انتقل لاحقاً إلى بغداد) ، وخليفة أموي في الأندلس منذ عام 138هـ (755م)، ثم انفصل الأدارسة بالمغرب بعد بضعة عقود عام 788م، وبعدها بقليل أصبح هناك أمير خامس للمؤمنين بعد قيام دولة الأغالبة عام 800م والتي كانت عاصمتها في القيروان ثم .. ازداد التمزق تدريجياً.
ب- زوال الخلافة المتبقية (1924م) قبل 100 عام اندلعت الثورة العربية الكبرى (يونيو 1916- سبتمبر 1918) ضد حكومة الدولة العثمانية المسلمة في أثناء الحرب العالمية الأولى، وهو ما أدى إلى سقوط الدولة العثمانية وهزيمتها، وزوال الخلافة عام 1924، واحتلال بلاد المسلمين وبخاصة فلسطين وبلاد الشام التي تقاسمها البريطانيون والفرنسيون في اتفاقية سايكس بيكو السرية (16 مايو 1916)، حيث غدر فيها البريطانيون بحلفائهم من الثوار العرب المغفلين.
3.2 - مفسدة قتال المسلم للمسلم إن النظرة الثورية التي تفصل بين النظام الحاكم والدولة مفهوم لا مسوّغ له في عقيدة أهل السنة والجماعة الذين استوعبوا بأن الفصل بين الحكومة والدولة ليس واقعياً ويتعارض مع الأحاديث النبوية، ولذلك فقد أجمع اهل السنة على وجوب الطاعة لكل مسلم تولى أمر المسلمين واستتب له الأمر سواءً بالرضا أو حتى بالغلبة (القوة العسكرية، تزوير انتخابات إلخ.)، ومهما كان الحاكم ظالماً أو فاجراً، وذلك حفاظاً على تماسك الدولة وأرواح المسلمين سواءً من عامة الشعب أو العساكر.
والسبب في ذلك أن طاعة ولي الأمر ليست لشخصه، بل بسبب موقعه في بنية الدولة وحفظه لمصالح الأمة العليا. ومفهوم طاعة ولي الأمر يشمل الالتزام بقوانين الدولة (في غير معصية الله)، بما في ذلك قوانين المرور والسير، واحترام الممتلكات العامة. ولكن الشائع في الدول العربية حالياً وجود علاقة عدم احترام متبادلة ليس فقط بين المواطن والنظام بل وكذلك بين المواطن والدولة بوصفها دولة، فلا تسل بعد ذلك عن غياب الاحترام للملكية العامة بل وسلبها ونهبها وتخريبها كلما سنحت الفرصة.
ويزداد الشرخ تجذّراً كلما ازدادت النزعة الحزبية التي تطغى حتى على مصالح البلاد العليا ومصلحة الوطن. وكم من معارضٍ سياسي أراد مهاجمة حاكم بلاده أو إهانته فإذا به يهدد أمن بلاده، ويستقوي بالخارج، أو يسيء إلى هيبة بلاده وسمعة مواطنيها، سواءً قصد ذلك أم لم يقصد. ولكن أولئك الحزبيين ينسون بأن النظام عندما يدير الدولة فإنه يتغلغل في صلب بنيتها، وبالتالي لا يمكنك الإضرار بالنظام دون أن تصيب الوطن في مقتل. تماماً كقصة الدبة التي قتلت صاحبها، أو من أراد إزالة ذبابة (النظام) عن وجه صديقه العزيز (الوطن) فأطلق الرصاصة وقتل الذبابة وفجَّر معها دماغ صاحبه. هذا مع العلم بأن الأنظمة خلافاً للذبابة تتغلغل في خلايا الدولة ومفاصلها -كالسرطان أو قل كالفيروس-على نحو يصعب معه استهداف النظام بمعزل عن الدولة.
ومن جهة أخرى، فإن الأنظمة الحاكمة تتحكم في قوات الجيش والشرطة وهؤلاء عامتهم مواطنون مسلمون شرفاء يؤدون مهام عملهم بحسب ما يتم تلقينهم من الأوامر باعتباره مصلحة الوطن العليا، وبالتالي فليس بوسع المعارضة أن تصل لشخص الحاكم وزمرته دون أن تخوض في دماء المسلمين الأبرياء من تلك القوات. ولذلك فعندما قامت قوات المعارضة السودانية من حزب الأمة وأنصار المهدي والإخوان والاتحادي بمهاجمة الخرطوم في يوليو 1976 بقيادة العميد محمد نور سعد - كما فعلت قوات الإخواني المنشق "خليل إبراهيم" (1957-2011) في 10 مايو 2008- فإنهم قد اضطروا لقتل أفراد مسلمين من القوات النظامية ممن لا علاقة لهم بالنظام سوى كونهم موظفين في الدولة، هذا فضلاً عن القتلى من المدنيين جراء الاشتباكات. وقريب من ذلك قيام متظاهرين مصريين عام 2011 بإلقاء قنبلة مولوتوف حارقة على عسكريين داخل عربة مصفحة. علماً بأن أولئك العسكريين مواطنون يؤدون واجبهم، وينفذون الأوامر. وحتى لو كان لأولئك العساكر ارتباط بالنظام فمن الذي أفتى بإباحة دماء رجال الشرطة والجيش؟ وللأسف فإن أصحاب الفكر الإخواني وبخاصة التكفيريون من الدواعش وغيرهم ينسون بأن رجال الشرطة والجيش بمجموعهم هم الذين يحمون ديار الإخوانيين ان تنتهب ونساءهم أن تغتصب من خلال حفظ الأمن العام الذي تنتفع به الأمة بأسرها، مهما وقع من الأنظمة من تجاوزات وانتهاكات بحق البعض.
والمأساة عندئذٍ أن القاتل والمقتول كلاهما يرى أنه على حق. فالانقلابي أو الثائر المسلم يرى أنه يطيح بالحاكم لإزالة المظالم والفساد وحفظ حقوق الشعب، بينما يموت الجندي المسلم وهو ينفذ أوامر قيادته من أجل حماية أمن البلاد والشعب من الفوضى والدمار ضد ثوار متحمسين يتصرفون بصورة متهورة غير مسؤولة للإطاحة بحاكم مسلم، على نحو يهدد الأمن العام للبلاد ووحدة أراضيها. ولذا لم يسمح النبي – صلى الله عليه وسلم- بالخروج إلا ضد حاكم أظهر كفراً بواحاً، بحيث يصبح من معه من أعوان وشرطة وجيش مُقرَين له على كفره. وحتى في تلك الحالة فإن الخروج على الحاكم الكافر حرام إلا عند وجود القدرة الكاسحة بما يقلل الخسائر البشرية للشعب، وفق مبدأ درء المفاسد وترجيح المصالح، كما بيّن أهل السنة والجماعة.
وهذه المفسدة العظمى المتمثلة في فتنة قتل المسلم للمسلم (وكلاهما مريد للخير حسب فهمه) كانت جزءاً من الردود العقلية التي واجه بها أهل السنة والجماعة شبهات الخوارج، إذ لا يوجد أي مسوغ شرعي يبيح استحلال تلك الدماء المسلمة.
4ـ معضلة فاتورة الدماء والأعراض والأموال إن فقه المصالح والمفاسد مبدأ أصيل في الشريعة الإسلامية التي جاءت "بجلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها" مع تقديم درء المفاسد على جلب المصالح. ولذلك فإن الخروج على الحاكم المسلم حرام لذاته ويمكن للعاقل المتدبر أن يرى في المفاسد الراجحة المتحققة جزءاً من علة ذلك التشريع الرباني الحكيم.
وأما الخروج على الحاكم الذي ثبت كفره واتضح خروجه عن الملة لعموم المسلمين، فهو يدخل في باب "أحكام الجهاد"، ولذلك فإن إباحته مقيّدة بشروط الجهاد القائمة على مبدأ درء المفاسد والتي أولها الاستطاعة ["لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"] ، وذلك بوجود القوة العسكرية الكافية، وإمكانية تنصيب البديل، وعدم الوقوع في مفسدة أكبر من مفسدة استمرار الحاكم الكافر. وهذا الُحكم من أكثر ما يغتاظ منه التكفيريون الذي يجتهدون في إثبات كفر حكام المسلمين بمجرد حكمهم بغير ما أنزل الله في ظل الجهل والهوى الحماس الأعمى أو الطمع في السلطة.
إن المسلمين يتوكلون على الله ويبذلون ارواحهم في سبيل الله ولكنهم ليسوا مجموعة من الحمقى الطائشين الذين يغامرون بأرواح المسلمين عبثاً كما كان يفعل الخميني باستخدام هجوم الموجات البشرية الانتحارية ضد القوات العراقية خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأطفال (الحاملين لصكوك دخول الجنة الخمينية) بين قتيل وجريح ومفقود.
ولذلك فقد كان قتال المشركين محرماً على المسلمين طوال الفترة المكية وجزء من الفترة المدنية حتى نزلت آية الإذن بالجهاد "أُذِن للذين يُقاتَلون بأنهم ظلموا". لقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) من أشد الناس توكلاً على الله، ولكنه لم يكن يغامر بأرواح المسلمين ولا يغرر بهم في المهالك. ولهذا السبب رفض الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حمل المسلمين للقتال بالسفن في البحر خوفاً من فقدان أعداد كبيرة من المسلمين لأرواحهم دون طائل.
موقف أحمد بن حنبل من فاتورة الدماء
وأما إمام اهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل الذي عذبه الخليفة المأمون وتم جلده 1000 سوط في فتنة خلق القرآن فقد جاءه من يدعوه للخروج على الخليفة الواثق الذي استمر في إكراه الناس على القول بخلق القرآن، فناظر ابن حنبل دعاة الخروج على الحاكم وأوصاهم بالإنكار بالقلب فقط وعدم جر المسلمين إلى حمام دم، وقال لهم: "عليكم بالنكرة بقلوبكم ،ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم، ودماء المسلمين معكم. انظروا في عاقبة أمركم واصبروا، حتى يستريح بَر أو يُستراح من فاجِر"
كما يروي الحارث الصائغ أنه سأل أحمد بن حنبل عن جواز الانضمام إلى مجموعة تنوي الخروج على الحاكم في بغداد فانكر ذلك وقال: "سبحان الله! الدماء .. الدماء! لا أرى ذلك ولا آمر به! الصبر على ما نحن فيه خيرٌ من الفتنة يسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم".
فتأمل الفرق بين حكمة إمام أهل السنة وبين تلاعب دعاة الفكر الإخواني بأرواح المسلمين ودمائهم في واقعنا المعاصر.
1- فاتورة الجزائر: الإخوان السروريون و"دواعش" التسعينيات
قتل الاستعمار الفرنسي ما قدّره الجزائريون بنحو مليون ونصف قتيل جزائري خلال 7 سنوات ونيف من حرب التحرير الجزائرية (1 نوفمبر 1954 - 19 مارس 1962)، فيما أشار المؤرخون الأوربيون إلى سقوط 537 ألف قتيل جزائري.
وأما الخوارج من أهل الجزائر – وبتحريض من الإخوان السروريين (كالعودة، والقرني، والحوالي بالسعودية، وتكفيري "القاعدة" أبو قتادة الفلسطيني) - فقد تسببوا خلال عشر سنوات (ديسمبر 1991- فبراير 2002) في فاتورة دماء تتراوح من 100 إلى 150 ألف قتيل جزائري، وكأن ما قتله الاستعمار الفرنسي غير كافٍ. ففي ديسمبر 1991 اندلعت ثورة الخوارج التكفيريين من ذوي التوجه الإخواني السروري (إخوان بالنكهة السلفية) ضمن "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" (FIS) وجناحها العسكري "الجيش الإسلامي للإنقاذ"(AIS)، وذلك بعد إلغاء الجيش لنتائج المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية التي فاز فيها الخوارج (بزعامة عباسي مدني و علي بلحاج) فاشتعلت البلاد بحرب أهلية طاحنة (سماها البعض "العشرية السوداء") نشطت فيها جماعات التكفير كالجماعة الإسلامية المسلحة (GIA) في تنفيذ مذابح "داعشية" مروعة بحق المدنيين وبخاصة النساء والأطفال والمسنين الذين قتلوا بالذبح وبقر البطون دون تمييز. وعلى الرغم من احتمال تورط أصابع أجنبية وأجهزة مخابراتية مشبوهة في دوامة العنف -كما في داعش اليوم- إلا أن الأساس في "داعش" التسعينيات الجزائرية يبقى الفهم المنحرف للإسلام والخروج عن منهج أهل السنة والجماعة، رغم التشدق الكاذب بشعارات ومسميات السلفية والسلف الصالح. ولعل تلك الفاتورة الدموية الباهظة قد عصمت الجزائريين من التورط في أكذوبة "الربيع العربي" عام 2011.
2- فواتير سوريا: الإخوان ودماء السوريين 1982 و2011-؟ إن دماء المسلمين ثمينة وغالية. ولذلك فقد حرّم فقهاء أهل السنة المعاصرين الخروج على "بشار الأسد" حاكم سوريا رغم تأكيدهم على كفره - هو وأبيه حافظ – وذلك بسبب عدم استطاعة المسلمين، وحجم المفاسد والقتل والدمار الذي قد ينجم عن ذلك. وقد سجل التاريخ القريب التجربة الدامية للجناح العسكري لجماعة الإخوان المسلمين السورية (الطليعة المقاتلة) والتي أدت لتدمير مدينة حماة في مجزرة راح ضحيتها ما يقدر بـ 40 ألف قتيل مسلم، ونحو 15 ألف مفقود، مع تهجير 100 ألف مسلم على يد قوات الرئيس النصيري حافظ الأسد وشقيقه رفعت خلال فترة المجزرة (2- 28 فبراير 1982).
وعلى الرغم من ذلك التاريخ الأليم في الجزائر وسوريا، إلا أن وعاظ الخوارج الإخوان عديمي الفقه قد عادوا ليغرروا بالشعب السوري من جديد بعد 29 عاماً للتورط في طريق ثوري مدمر لا يتناسب مع إمكانيات المسلمين هناك. لقد حرض مشايخ الفتنة الشباب على الثورة في فورة حماسهم لإقامة الدولة الإسلامية واسترجاع الخلافة، ثم لما وقعت المحرقة واكتوى بنارها السوريون أخذ مشايخ الفتنة يبكون على الأطلال، ويذرفون دموع الحزن على وضع شاركوا هم في صناعته بحماقتهم واندفاعهم وسوء تقديرهم.
ومن الملاحظ في فتاوى الإخوان السروريين (كالعرعور، والعودة، والعريفي، والطريفي، والبريك، ونبيل العوضي، والسويدان وغيرهم) وخطاباتهم التحريضية وجود قدرٍ كبير من الاستهتار بدماء المسلمين، إذ يتحدثون عن مقتل مئات الآلاف من السوريين باعتباره ثمناً للحرية لابد من دفعه، وكأنهم يتحدثون عن موت الحشرات. والسبب أنهم آمنون بين نسائهم وأبنائهم الذين لا يسمحون لهم بالسفر للقتال في سوريا، حتى أن أحد أولئك الدعاة قد بذل الوساطات للمسؤولين في سبيل استرجاع ولده الذي سافر للقتال في بلد عربي دون علمه، بينما يقوم هو بتحريض أبناء المسلمين على الزج بأنفسهم في أتون الدواعش والفتنة بالقتال تحت رايات عميّة.
بل إن بعض أولئك الدعاة الإخوانيين – حتى في ظل استعار القتل والدمار والاغتصاب في سوريا – قد ظهروا وهم يلعبون الكرة ويتمازحون في منتجع على بحيرة أبانت بمدينة بولو التركية أثناء تسجيل حلقات برنامج سواعد الإخاء (الذي أسماه البعض "سواعد الإخوان"). وإنها لمسؤولية أمام الله في رقبة دعاة الإخوان والإخوان السروريين/ القطبيين الذين أدى تحريضهم إلى أكثر من 400 ألف قتيل في سوريا واغتصاب مئات النساء وانضمام مئات الشباب المسلمين إلى تنظيمات الخوارج التكفيرية بسوريا، نتيجة فتاوى تحريضية أقصى ما يقال في إحسان الظن بأصحابها أنهم كمثل الدبة التي قتلت صاحبها بالحجر لتزيل الذبابة من على رأسه!
ولنتأمل هذه النماذج للاستخفاف بدماء المسلمين.. لكي نتساءل: هل يعقل أن يكون إشعال الثورة بتكلفة مليون قتيل مفسدة مقبولة في شريعة المسلمين ومنهج أهل السنة والجماعة؟ 1- (( فـــ .. أحصيت المفاسد. كم المفاسد؟ " .. "سينقص من عدد سوريا 23 مليون .. سيصبحون 22 مليون. إذاً سيعود مقابل مليون .. الحرية .. الكرامة ..)) القائل: الداعية السروري (إخواني بالنكهة السلفية) السوري عدنان العرعور [تسجيل بالفيديو للقاء تلفزيوني عبر قناة وصال الفضائية]
2- (( .. وأنا أحلف بالله قد يقتل فوق 100 ألف لكن الشعب السوري 23 مليون .. صح؟ صح ولا مو صح؟ اقتل يا بشار مليون! اقتل مليون! .. سيبقى الشعب السوري و (..ثلاث..) ويبقى 22 مليون والحمد لله السوريين معروفين ما شاء الله .. ما شاء الله معروفين بالولادة يجيبونلك في سنة واحدة .. سنة واحدة يجيبونلك 23 مليون!)) القائل: الداعية السعودي "كثير المزاح" سليمان الجبيلان (يُوصَف بأن خلفيته الأولى جماعة التبليغ مع تبنٍ حالي للخط الإخواني وبرامجه) [محاضرة مسجلة بالفيديو]
3- "ومن يريد الحرية لابد أن تُسفَك الدماء وتُزهَق الأرواح، والأمة تقدم هذا وأكثر" القائل: الإخواني الإماراتي صالح محمد الظفيري، أحد المتهمين الرئيسيين المدانين في قضية المؤامرة الإخوانية لقلب نظام الحكم في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وقد تم عرض تسجيلٍ لتلك الكلمات ضمن حرز صوتي في محاكمة الخلية الإخوانية الانقلابية بالإمارات، والتي صدر الحكم فيها في 2 يوليو 2013. وقد نقل الصحفيون أن الدموية في ذلك التسجيل والتسجيلات المماثلة قد شكلت صدمة لبعض أهالي المتهمين فانسحبوا خارج قاعة المحكمة لقناعتهم بثبوت التهم. ويتجدد السؤال هنا: من افتى لهذا الإخواني بأن دماء المسلمين – سواءً من رجال الشرطة والجيش أو عامة الشعب- حلال في سبيل تحقيق حلم الإخوان في السلطة؟
للأسف، نسي هؤلاء – كما نسي الإخوان في ميدان رابعة العدوية- أن حرمة دم المسلم أعظم من حرمة الكعبة، كما نسوا بأن من عَرَّض المسلمين للذبح الجماعي واغتصاب النساء بالجملة، عبر فتاواه التحريضية الجاهلة، مرتكب للحُرمة ويتحمل المسؤولية عن الدماء بالاشتراك مع القاتل الأصلي، تماماً كما يُعتبَر ساباً لأبويه من سب آباء الآخرين فسبوا أبويه، وليس في هذا ما يدعيه الإخوان من مساواة جائرة بين الجلاد والضحية.
5- معضلة إيجاد البديل المناسب والمستقر إن الإطاحة بالأنظمة أسهل كثيراً من إيجاد بدائل لها. فقد يكون البديل الأكثر طهارة غير قادر على الاستمرار أو السيطرة على البلاد وحفظ استقرارها بينما يتمكن من ذلك طاغية عسكري (محدود الثقافة والتأهيل) يسرق الثورة على حين غفلة من أهلها كما تكرر مراراً في التاريخ. إن إزالة الأنظمة واستبدالها بأنظمة مستقرة قادرة على البقاء والاستمرار ليست بسهولة لعبة الكراسي الموسيقية. وربما يحتاج الأمر لسنوات عديدة وربما الكثير من الاقتتال والدماء والأشلاء قبل الوصول إلى معادلة توازن مستقرة تحل محل التوازن القديم الذي كان في العهد السابق.
6- اللعب بالنار ومعضلة القنابل الموقوتة بالبلاد إن الفعل الثوري أو الإنقلابي إذ يطيح بالتوازن القديم فإنه بذلك يلعب بالنار لأنه يفتح الباب على مصراعيه لانفجار كل الألغام والقنابل الموقوتة المزروعة في تركيبة البلاد. وكل بلد من بلاد المسلمين له ألغامه الخاصة به. وتمثِّل لحظة فراغ السلطة أو التحول السياسي فرصة سانحة لفتح الجروح القديمة المتقيحة واستعادة الطموحات المكبوتة عند فئات مختلفة سواءً من المجموعات العرقية والقبلية والمناطقية الطامحة في الانفصال كما رأينا في العراق وليبيا وسوريا أو من المجموعات الدينية كطائفتي الشيعة والخوارج (كالقاعدة، وجبهة النصرة، وداعش) كما شهدنا في العراق وليبيا، واليمن وسوريا. وكل ذلك يؤدي لانفجار الحروب الأهلية والإرهاب والفوضى.
وبخلاف ذلك فإن بعض العناصر المهمّشة في العشوائيات وأطراف المدن حيث الفقر المدقع يشكّلون خامة جاهزة للانفجار وممارسة أعمال السلب والنهب والقتل والاغتصاب عند أدنى إحساس بالفوضى وزوال أو ضعف الوجود الأمني، كما جرى من قيام بعض الأوباش باغتصاب فتيات دون البلوغ في السودان خلال الأحداث التي أعقبت مقتل جون قرنق بسقوط طائرة. وبعض تلك العناصر ربما تلجأ إليها الأنظمة العسكرية عند الشعور بالتهديد كوسيلة لإرهاب معارضيها كما جرى من "البلطجية" في مصر و"البلاطجة" في اليمن.
وأما بعد الإطاحة بالنظام فهناك ألغام أخرى ستبرز أهمها بقايا النظام السابق أو الحرس القديم (كـ"سدنة" نميري أو المايويين، فلول مبارك، "طحالب" القذافي إلخ) المتغلغلين في أجهزة الدولة ومؤسساتها – أو ما يعرف ـ"الدولة العميقة"- في طول البلاد وعرضها ممن يشكلون شبكة من المنتفعين من الوضع السابق القادرين على شن ثورة مضادة أو عرقلة قيام النظام الجديد عبر الفتن والمؤامرات إذا أحسوا بالتهديد لمصالحهم، لا سيما إذا اتُبِعَت معهم إجراءات التطهير العشوائية التي قد تنطوي على المظالم.
ومن جهة أخرى فإن الثوار أنفسهم قد يصبحون ألغاماً مدمرة عندما يتصارعون على الغنائم ويقتتلون فيما بينهم على قسمة السلطة والثروة فور الإطاحة بالنظام السابق، وهو ما يمهد لاستمرار الفوضى وانتكاس الثورة.
7- معضلة استمرار الحالة الثورية و ..عودة الحكم العسكري الديكتاتوري!
لا وجود للثورة في منهج الأنبياء بل هي تراث يهودي ماسوني أصيل على مدار التاريخ ولم يعرفه المسلمون إلا عبر طائفة الخوارج المارقة التي حركها اليهودي ابن سبأ (وامتدحها -مُلهِم الدواعش- الإخواني التكفيري سيد قطب) فقتلت الخليفة الراشد عثمان بن عفان ثم الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. فأما الخليفة عثمان فإنه قد رفض التنازل عن الخلافة لصالح الثوار المحاصرين لداره، وذلك استجابة لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم وتعليماته الصريحة " يا عثمان إنه لعل الله يقمِّصك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم" [رواه الترمذي]. ولعل الحكمة في تلك التعليمات أن لا يصبح مقام الخلافة والحكم لعبة يطيح بها الناس في أي وقت شاءوا فيغرق المسلمون في بحور الفوضى والدم. والتاريخ يشهد بأن الحالة الثورية إذا بدأت لا تتوقف أبداً إلا بمجيء حاكم قوي أو قوة عسكرية كاسحة تكسر الثوار كما سنرى.
إن القوانين الربانية الكونية سواءً في عالم المادة (الفيزياء والكيمياء) أو الاجتماع الإنساني تأبى استمرار حالة عدم الاستقرار إلى ما لانهاية فكل وضع مضطرب لابد أن يؤول إلى حالة أكثر استقراراً لتستمر الحياة، وفي الوقت الذي قد تتطلب التفاعلات الفيزيائية والكيميائية بذل الجهد أو الطاقة الحرارية الداخلة أو الخارجة فإن التفاعلات البشرية عند الغليان الثوري قد تحتاج إلى سفك الدماء على مدى سنوات طويلة قبل أن تستقر معادلات القوى على وضع معين.
إن تحريك القاعدة العريضة للشعب أشبه بإخراج المارد من القمقم والذي تصعب إعادته إلى حالته الأولى بعد خروجه، لاسيما وأن الثوار وإن كانوا على قلب رجل واحد حتى لحظة إسقاط النظام فإنهم سيتفرقون بعد ذلك بحسب أهوائهم وتياراتهم، وسيخرجون عن السيطرة، وسوف يثور الثوار على الثوار في دوامة لا تنتهي إلا بحسب موازين القوى العسكرية. من قال بأن الثورة إذا اشتعلت يمكن إنهاؤها بكبسة زر؟
إن الشعب الذي أطاح بالنظام لتوه ستتلبَّسُه الحالة الثورية على نحو يجعله في حالة هياج مستمر واستعداد للانقضاض على أي حاكم لا يلبي طموحاته بسرعة خيالية، دون مراعاة لاستحالة علاج آثار عقود من الخراب الاقتصادي خلال بضعة أشهر. ولهذا فإن الشعب الثائر سيضغط على حكومات ما بعد الثورة للحصول على حلول سريعة عبر إضرابات ومظاهرات تشل الدولة، وتعطل عجلة الإنتاج وحركة التجارة، ما يؤدي إلى تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي وإفشال الحكومات الوليدة، كما رأينا في السودان ومصر.
ومن جهة أخرى فإن حصول الشعب على الحرية المفاجئة بعد الكبت والقهر والقمع قد يدخله في حالة انعدام وزن، تؤدي إلى التعامل مع الحرية المكتسبة حديثاً بصورة غير مسؤولة، لا سيما إذا رأى الشعب من الحاكم الجديد ليناً أو تسامحاً أو ضعفاً.
بل قد تُصبح تلك الشعوب غير قابلة للحكم لا سيما مع تحرك وتحريض قوى الثورة المضادة أو منافسي الحكم الجديد من قوى المعارضة. وللأسف الشديد، فقد أثبتت شعوبنا في أكثر من تجربة بأنها لا تستطيع التفريق بين الحرية والفوضى، وأنها – للأسف الشديد أيضاً- لا تحترم إلا الحاكم القوي المستبد المسنود بقوة عسكرية غاشمة وقبضة أمنية خانقة. ولذلك فإن حالة الفوضى والاضطراب التي تعقب الثورات قد جعلت كثيراً من الشعوب تشتاق – ولو على استحياء- إلى الوضع الذي ثارت عليه من قبل وعندها يعود الحكم العسكري ليكون المنقذ للشعب من الفوضى والصراع الحزبي.
نتائج استمرار الحالة الثورية وقد رأينا كيف جاءت انتفاضة 6 أبريل 1985 ضد الرئيس الأسبق نميري بحكومة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي (6 مايو 1986- 29 يونيو 1989) والتي واجهت فوضى الصراع الحزبي، وسقوط هيبة الحكم، مع مسلسل الحركة المطلبية والمظاهرات والاحتجاجات على أدنى زيادات الأسعار التي تقبل المواطنون أضعافها لاحقاً بعد مجيء الجيش إلى السلطة صبيحة الجمعة 30 يونيو 1989. وأما ثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت بحكم مبارك في مصر وجاءت بحكومة محمد مرسي الإخوانية المنتخبة (30 يونيو 2012- 3 يوليو 2013) فقد شابتها فوضى الصراع الحزبي مع عجز الإخوان - لحزبِيَّتهم الشديدة - عن التوافق مع أجهزة الدولة والقوى السياسية الأخرى، فضلاً عن سقوط هيبة الحكم مع استمرار الحركة المطلبية والتظاهرات التي وصلت إلى حد استهداف المتظاهرين لقصر الاتحادية بالبلدوزر والقنابل الحارقة، الأمر الذي أوصل البلاد إلى حالة من الفوضى ساعدت على الترحيب بمجيء الحكم العسكري مساء الأربعاء 3 يوليو 2013. ولكن الحكم العسكري الجديد في حالة مصر قد استند على استمرار الحالة الثورية لـ 25 يناير عبر مظاهرات شعبية (في 30 يونيو) على غرار المظاهرات التي شارك فيها الإخوان في 25 يناير 2011 للخروج على الحاكم المسلم حسني مبارك. ولكن الإخوان الذين وافقوا على المبدأ الثوري في حالة مبارك رفضوا الثورة ضد "محمد مرسي" ولم يستحوا من استدعاء أحاديث تحريم الخروج على الحاكم المسلم!
وأما الثورة اليهودية الماسونية ضد الملكية الفرنسية والكنيسة الكاثوليكية والمسماة بـ"الثورة الفرنسية "(5 مايو 1789- 9 نوفمبر 1799) فقد أدخلت فرنسا في مجازر دموية حصدت أرواح مئات الآلاف عبر فوضى التصفيات والثورات المضادة داخل الثورة، والصراعات المسلحة داخلياً وخارجياً إلى أن انتهت بانقلاب عسكري بقيادة نابليون بونابرت في 9 نوفمبر 1799.
8- معضلة الثائر الديكتاتور ولا يلزم من المثال السابق للثورة الفرنسية وانقلاب نابليون العسكري أن الديكتاتور يأتي بالضرورة من خارج الثورة ليسرقها، بل إن الثوار أنفسهم قد يصبحون أشد ديكتاتوريةً وإجراماً من النظام الذي ثاروا عليه. فثائر اليوم هو ديكتاتور الغد المحتمل إذا أتيحت له فرصة الانفراد بالسلطة.
وأوضح نموذج لذلك هو الثورة اليهودية "الفرنسية" نفسها، فقد كان من أبرز قياداتها "المحامي" و "الناشط الحقوقي" الماسوني "ماكسميليان روبسبيير" (1758-1794) "نصير الضعفاء والمظلومين" قبل الثورة، ولكنه عندما تولى زمام السلطة في الجمهورية الفرنسية خلال فترة "حكم الرعب" (سبتمبر 1793-يوليو 1794) فرض حكمه الديكتاتوري بالإرهاب والتصفيات الجسدية أو بالأحرى الإبادة الجماعية، إذ أمر بإعدام نحو 41,594 فرنسياً من خصومه عبر محاكمات صورية وإعدامات ميدانية بتهمة العداء للثورة، كما قام باعتقال نحو 300 ألف من الرجال والنساء، وذلك خلال 11 شهراً فقط! وأما إجمالي قتلى الثورة الفرنسية منذ اندلاعها – شاملاً ضحايا ثورة فونديه - فقد زاد عن 350 ألف قتيل! فانظر كيف كانت الملكية الفرنسية بكل استبدادها أرحم من الثوار!
وأما "الثائر" و"المناضل" الشيوعي الماركسي جوزيف ستالين (1878-1953) فقد شارك في الثورة اليهودية ضد حكم القياصرة المستبدين والكنيسة الأرثوذوكسية (الثورة البلشفية) بروسيا، ولكنه بعد أن وصل إلى سدة السلطة في الاتحاد السوفيتي (1924-1953) تحول من ثائر إلى سفاح قتل أكثر من 20 مليون إنسان سواء بحملات التصفية والإعدام أو التعذيب أو معسكرات الاعتقال والمجاعة! [لا يستحي الماركسيون في بلادنا من توزيع كتب السفاح ستالين، كما لا يخجلون من استخدام اسم "الحزب الشيوعي" الدموي بعد 100 عام من الفشل، مع المناداة في نفس الوقت بالديمقراطية والحريات التي لم يطبقها أي نظام شيوعي!].
ولكي لا يُقال بأن "ستالين" حالة شاذة بين الشيوعيين، يكفي أن نتأمل في الثورة الشيوعية الصينية التي قادها "الثائر" و"المناضل" الشيوعي الآخر "ماوتسي تونج" (1893-1976) الذي حكم جمهورية الصين الشعبية (1949-1976) بعد الإطاحة بالملكية، فقد قتل خلال فترة حكمه نحو 40 مليون صيني متفوقاً بذلك على رفيقه ستالين. وهذه مجرد عينات من جرائم الملاحدة الماركسيين على مر تاريخهم الدموي. وبهذا يتضح بأن حكم القيصر الروسي والإمبراطور الصيني كان أرحم بكثير من حكم الثوار الشيوعيين.
إن معضلة الثائر الديكتاتور، تذكِّرنا بالمقولة التي نسبها الطبري في تاريخه (ج3/117) للخليفة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بأن الخوارج المطالبين بتحكيم شرع الله سوف يتحولون إلى طغاة مستبدين على الطريقة البيزنطية الكسروية فور وصولهم للسلطة حيث قال عنهم:
" والله لو وُلُّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل!"
وهذا ينطبق على الإخوان في عصرنا والذين يزعمون الثورة لأجل الشريعة أو الحرية والعدالة، ولكنهم لا يترددون في تبني الديكتاتورية ونبذ الشريعة، والبطش الدموي بخصومهم، لو وجدوا فرصةً سانحةً للاستئثار بالسلطة!
وأما الثوار اليساريون من شيوعيين وبعثيين فنزعتهم الديكتاتورية أكثر وضوحاً، إذ قتل الشيوعيون ما يُقدَّر بنحو 94 مليون إنسان حول العالم بأنظمتهم الديكتاتورية وحروبهم الدموية دون خجل أو اعتذار، وأما القوميون والبعثيون فإن أنظمتهم القمعية في العراق وسوريا قد قتلت نحو 750 ألف إنسان خلال الفترة 1970-2016. بل إن بعضهم لا يستحي من الاستمرار في تأييد ما يفعله بشار الأسد بالشعب السوري، ثم يزعم بأنه يسعى للحرية والديمقراطية في بلاد أخرى!
ولذلك فإن الثوار من حملة تلك الأيديولوجيات الإخوانية والعالمانية لا يثورون لأنهم ضد الديكتاتورية من حيث المبدأ، بل يثورون لأن الديكتاتور ليس من حزبهم وجماعتهم!
وكم من ديكتاتور "مُحتمل" (مشروع ديكتاتور) يقبع بين صفوف الثوار ينتظر الفرصة لكي يصبح "روبسبيير"، أو "ستالين"، أو "ماوتسي تونج" آخر؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لصالح من؟ قد يصيح قارئ مغتاظ قائلاً: بأن هذا المقال مُعَد بما يوافق هوى الأنظمة ومزاجها! والجواب أن هذه هي شريعة الإسلام وأوامر النبي التي انعقد بها إجماع اهل السنة والجماعة، بغض النظر عن إرضائها للأنظمة من عدمه. إن منهج أهل السنة والجماعة محكوم بنصوص الوحي المعصوم ولا يخضع للعواطف وردود الأفعال. كما إن هذا الكلام هو لصالح الشعوب أولاً وليس لصالح الأنظمة فقط كما يظن البعض، لأن الشعوب هي التي تدفع فاتورة المعاناة والجثث والدمار أكثر مما يعاني منها الحكام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهمية الاستقرار ولو في ظل حاكم فاسق إن أهل السنة والجماعة الذين أجمعوا على شرعية إمامة الحاكم المسلم الفاسق ولو انتزع السلطة قهراً اتبعوا في إجماعهم نور الوحي المنبعث من الكتاب (القرآن الكريم) والحكمة (وهو الاسم الآخر للسنة النبوية)، إذ أدركوا بأن أضرار استمرار الحاكم الظالم أقل بكثير من أضرار انفراط عقد الدولة واستباحة أفرادها لدماء بعضهم البعض وأعراضهم وأموالهم. كما أدرك أهل السنة والجماعة أن من أكبر الأخطار على الدين والدنيا وقوع الفوضى وحدوث فراع في السلطة لأن السلطان الجائر أرحم بكثير من الفتنة. ولذلك قال عمرو بن العاص لابنه عبدالله (رضي الله عنهما):" وسلطان غشوم ظلوم خير من فتنةٍ تدوم" [الآداب الشرعية (1ج/ص 238)] كما قال ابن تيمية: "فإن الملك الظالم لابد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه وقد قيل: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام." [مجموع الفتاوى 14/268] فتأمل الأوضاع الأمنية في العراق وليبيا بعد سقوط الطاغيتين صدام والقذافي الذين اكتشف الناس بعد الإطاحة بهما أن هناك بالفعل ما هو أسوأ من حكم القذافي وصدام! يقول إمام اهل السنة عبدالله بن المبارك: كم يدفع الله بالسلطان معضلة ... في ديننا رحمة منه ودنيانا لولا الخلافة لم تأمَن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا ولذلك فإن إجماع الناس وخضوعهم لحاكم مسلم واحد - بالرضا أو بالقهر والغلبة- مهما كان الحاكم سيئاً يحفظ الاستقرار ويمنع فتناً وشروراً كثيرة تأكل الأخضر واليابس. لأن ذلك الحاكم شئنا أم أبينا قد أصبح تجسيداً لوحدة الدولة وصمام أمان ضد الفوضى واستباحة الدماء. ومهما كان ذلك الحاكم ظالماً، أو فاجراً، أو فاقداً للمؤهلات، أو حتى عجوزاً هرماً تختفي خلف شرعيته طغمة متنفّذة تحكم البلاد من وراء الستار، فإنه قد تمكن بصورة أو بأخرى من إيجاد صيغة توازن أو معادلة تحفظ وحدة البلاد وأمنها، وهو مطلب عظيم عند أهل السنة والجماعة الذين يولون قيمة عظيمة لحماية أرواح المسلمين وأعراضهم، كما يدركون بأن تغيير الحاكم الظالم يبدأ بإصلاح الشعب، وفقاً للقانون الكوني القرآني.
9- معضلة انتقال الأوضاع من سيء إلى أسوأ قال ابن تيمية: "ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته". [منهاج السنة النبوية،ج3/ص391]
وهذا واقع نراه ونلمسه.
معظم الثورات اندلعت لدوافع اقتصادية وسياسية، فهل تحسنت الأوضاع؟
الواقع والتاريخ يشهد باستبدال ديكتاتورية الفرد بديكتاتورية عشرات الميليشيات الدموية..
.. أو استبدال (مباشر أو بعد ثورة) لديكتاتور بديكتاتور آخر لم يشبع من مال الشعب كما شبع سلفه، لتبدأ حلقة جديدة من مسلسل نهب الأموال والفساد من قبل الحاكم الجديد وزمرته الحاكمة فيُستَنزَف اقتصاد البلاد أكثر وأكثر.. 1. في ليبيا كره البعض حكم الملك السنوسي وبخاصة مسألة القواعد الأجنبية رغم الرخاء وهتفوا متظاهرين "إبليس ولا إدريس".. فجاءهم القذافي وتدهورت الأوضاع المعيشية واشتاق الناس لعهد الملكية.. وبعد الإطاحة بالقذافي وتمزق البلاد بين الفصائل والقبائل والدواعش وضياع الأمن .. اشتاق الناس من جديد لعهد القذافي!
2. في العراق كان عهد الملكية عهد رخاء واستقرار للشعب قياساً ببطش الحكومات العسكرية المتعاقبة ولكن بعد الإطاحة بصدام حسين وانفلات الأمن واستفحال القتل والتشريد والدمار من خلال المجازر الدموية لعصابات الشيعة وعصابات الخوارج (القاعدة، داعش) .. اشتاق الناس إلى الاستقرار في عهد صدام!
3. في مصر كان عهد الملكية عهد رخاء واستقرار نسبي للشعب قياساً ببطش الحكومات العسكرية اللاحقة وتردي الأوضاع الاقتصادية والفقر الذي كان دافعاً للثورة على مبارك. ولكن بعد الثورات وضعف الاقتصاد أصبح المصريون اليوم يتمنون العودة للوضع الاقتصادي في زمن مبارك!
4. في السودان أطيح بالفريق عبود بثورة عام 1964 و"ضاقت" بعدها الأحوال الاقتصادية "نسبياً" فاشتاق الناس لزمن عبود ("ضيّعناك وضعنا معاك!")، ثم وقع الانقلاب العسكري عام 1969 فاشتاق الناس للعهد الحزبي السابق، ووصلت الضائقة المعيشية حداً اندلعت معه الانتفاضة عام 1985، فساءت الأوضاع واشتاق البعض للقبضة العسكرية، وبعد أن سيطر الجيش على السلطة عام 1989 أصبح الناس يحنون للوضع الاقتصادي في المرحلة السابقة.. وهكذا ..
لماذا ثارت هذه الشعوب إذا كانت ستشتاق مجدداً لحكم من ثارت عليهم؟ أم لعلها شعوب لا تعرف ما تريد؟ ماذا تريد هذه الشعوب بالضبط؟ وهل تجري وراء السراب؟
والجواب أن طريق الثورات والانقلابات مع كونه محرماً شرعاً، فإنه طريق طويل ومكلف جداً، ومجهول العواقب، لأنه عبارة عن عمليات هدم كثيراً ما تؤدي لخسارة الخير الموجود وعدم تحصيل الإصلاح المفقود.
إن سر فشلنا المستمر هو هروبنا المستمر من قوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
الحاكم الجائر وضيق الحال عقوبة ونتيجة لأعمالنا .. فمهما حاولنا الهروب من الإصلاح ستطاردنا العقوبة واللعنة بوجوه حكام جدد أسوأ من سابقيهم.
إننا ندعوا الله بالخلاص ونتساءل لماذا لم يستجب لنا؟ .. علماً بأنه – عز وجل- قد دعانا فلم نستجب لأمره..
فهل نرفع راية "استغلالنا" أم راية استقلالنا؟ من أين جاء الخلل؟ تابعوا الإجابة في الجزء الرابع الذي يتناول أسرع طريقة لإسقاط النظام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [تحذير ودي] على الرغم من استناد المقال على نصوص الوحيين (الكتاب والسنة) وإجماع أهل السنة والجماعة، إلا أنه يتضمن ما يخالف العواطف والمفاهيم السائدة التي انتشرت في مجتمعاتنا في ظل غياب العلم. ولذا فقد يجد بعض القراء المقال مستفزاً لأقصى حد، مع أن الهدف ليس إغضاب الناس أو الإساءة لأحد. يرجى قراءة المقال بذهن مفتوح صافٍ مهما خالف قناعاتك السابقة. وإذا أغضبك المقال ورفع ضغطك، فاسأل نفسك: لماذا يغضبني المقال؟ هل غضبت لأن المقال خالف رأيك الشخصي أم لأنه فعلاً مجافٍ للحقيقة؟ فإن كانت الثانية، فعبّر عن رأيك وبيّن موضع الخطأ بالدليل لكي أرجع عن الخطأ متى ما ثبت ذلك.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة