حتى في ظل الكيزان كانت الأغلبية التي تملك كل شيء مضطرة للانزواء خلف قيم المجتمع الكلاسيكية حتى أواخر عهد البشير حيث بدأت هذه الأقلية تمارس تعجرفا طبقيا حادا. من تمكين الكيزان إلى تمكين الرأسماليين المنضويين تحت الجناح الأمريكي (ابراهيم الشيخ ، أسامة داوود ، ابراهيم مو...الخ) ؛ هؤلاء كلهم من خيطوا شفاه حمدوك فلم نسمعه ينطق بكلمة (العدالة الاجتماعية) منذ توليه الحكم. حرية سلام وعدالة ، لن نسمع حمدوك ولا العسكرقحوطة ينطقون بكلمة عدالة. لقد لاحظت كيف أن خطاب السفارة الأمريكية قبل سقوط النظام وأثناء الثورة تعمد إلى عدم الاشارة الى العدالة وهو يتحدث عن شعار الثورة. لقد كتبت عن ذلك حينها ولكني لم أكن أعلم أن المسألة برمتها لعبة أمريكية تستخدم عملاءها في الداخل لتقويض أهم شعار وهو العدالة . بل تعمل على التأكيد على تمديد الطبقية بشكل مشرعن قانونيا وسياسيا عبر التحرير الاقتصادي التوتاليتاري والذي سيمتد لتحويل الشعب إلى طبقة ملاك وطبقة عمال. التحرير ليس فقط تحرير السلع الأساسية كالوقود والقمح بل سيمتد لتحويل السودان لدولة حارسة فقط ؛ حيث يزداد الفقراء فقرا والأغنياء غنى .. ومن لم يغتن في فترة الكيزان كابراهيم الشيخ ومدني عباس فعليه أن يجهز نفسه ليتحول إلى كائن حيواني أقرب للحمار والحصان والبغل.. سيتم تحرير الاقتصاد وبالتالي فالأقلية الرأسمالية ستتمكن من السيطرة على كل وسائل الانتاج والاعلام والتعليم وهي المحور الثلاثي لقيادة المجموعات البشرية عبر السلطة. الحالمون بديموقراطية حقيقية في مثل هذا النظام هم واهمون أكثر مما هم حالمين. فالفكرة هي تفريغ المجتمع من كل قيمه التعاونية والدفع به نحو الفردانية الوحشية (كتبت عن هذا مقالا قبل سقوط البشير) فقد كنت أتوقع ذلك بقوة...والفردانية تنتج عن الفقر والضغط الاقتصادي خاصة في المدن. وهكذا تنتج ثقافتها الخاصة...سيكون هناك نشاط اقتصادي ضخم ولكن ريعه كله سيكون في يد أقلية رأسمالية مزدوجة الولاء..والسودان قابل بسهولة لهذا التحول نسبة لضعف نسبة المتعلمين ونسبة الوعي العام..مع سيطرة الاعلام على مصدر المعلومات. ربما يعتقد البعض أن هذا بعيد ولكن هذا غير صحيح..فالعلاج بالصدمة (الذي تحدث عنه وزير المالية الأسبق معتز موسى) ليس من بنات أفكاره بل هو منتج أصيل لصندوق النقد الذي غالبا ما يفرض معالجات سريعة ويرفض التدرج في عمليات التحول للنظام الأمريكي. والسبب في ذلك أن البطء يمكن أن يعرقله الوعي الجماهيري. للأسف الحزب الشيوعي الذي كان من المفترض أن يلعب هذا الدور التوعوي تحول لحزب شيوعي رأسمالي يدق الطار لأمريكا ويطوف حول كعبة سياسات صندوق النقد..لأنه حزب ضعيف جماهيريا بسبب ضعف كوادره التنظيري وسلوكياتهم الهوجاء (لم أجد وصفا أخف). كم الضخ المالي الذي تم منذ بداية الثورة والذي لا يقل عن مائة مليون دولار للسيطرة على الإعلام الرقمي والمرئي والمسموع كان مجرد تسخينة لبداية السيطرة على الإعلام ما بعد الثورة. هناك قاعدة: أنه لا ينفق الرأسماليون جنيها واحدا إلا إذا كانوا متأكدين أنه سيعود عليهم بالملايين. ولقد قاموا بهذا الانفاق وخاصة داخل العاصمة مع تهميش الأقاليم لأنهم يعلمون أن العاصمة هي مركز السيطر والتأثير على باقي الجسد. لذلك قرأنا من يعطون مبررات مستمرة للتحرير الاقتصادي عبر ضخ اعلامي قوي جدا وواسع الانتشار. فهل سيحدث التحرير الكامل والشامل؟ نعم سيحدث.. وهل سيحدث الضغط الاقتصادي الذي يحقق (العلاج بالصدمة) بتاع معتز موسى؟ نعم سيحدث ذلك... سيكون الفتق سريعا بين الطبقات مما سيستدعي من الطبقات المسحوقة مزيدا من العمل ثم العمل ثم العمل لتحافظ على الحياة.. القوى الرأسمالية المزدوجة تملك الاعلام وستصور ما يحدث للأغلبية بأنه الحل الوحيد للخروج من الأزمة. ومع الصدمة والضغط الاقتصادي والاعلام الموجه.. سينتعش الاقتصاد لتحقيق مصالح الأقلية التي نالت (التمكين) الجديد المرضي عنه دوليا بعد تمكين الكيزان غير المرضي عنه دوليا. وعندما يحدث هذا فسينسحق الشعاران المتبقيان أيضا: الحرية..لأن الحرية لا تتوفر في ظل انسحاق الكينونة.. ولا السلام لأن السلام لا يعني فقط السلام من حرب الرصاص..بل السلام الداخلي للانسان .. ولا يتوفر هذا السلام لمن تستلب شخصيته القانونية ليتحول لثور الحرث في حقول الدوقات الشاسعة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة