عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاﺫ الحلقة السادسة عشر بقلم خالد الحاج عبدالمحمود

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-24-2024, 06:40 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-16-2019, 02:14 PM

خالد الحاج عبدالمحمود
<aخالد الحاج عبدالمحمود
تاريخ التسجيل: 10-26-2013
مجموع المشاركات: 159

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاﺫ الحلقة السادسة عشر بقلم خالد الحاج عبدالمحمود

    01:14 PM December, 16 2019

    سودانيز اون لاين
    خالد الحاج عبدالمحمود-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاﺫ / خالد الحاج عبدالمحمود
    بسم الله الرحمن الرحيم
    "أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"

    الجزء الثاني
    الحياة في الإسلام
    الفصل التاسع
    حياة الشعور
    لقد تحدثنا عن حياة الفكر والشعور، وقلنا إن الأصل في الحياة في الأرض، هو الشعور، الذي بدأ مع الحي الأول، الذي كان يشعر بوجوده، وما يتهدد وجوده.. وبظهور الحواس الخمس عند الحي، زاد هذا الشعور واتسع، فأصبح الحي يشعر بالأشياء وهي على البعد.. وكان التحول الأساسي، عند الحي، هو ظهور العقل فيه.. وبظهور العقل اتسعت الحياة اتساعاً هائلاً، وامتدت في الزمان والمكان، بامتداد الإدراك.. وتطورت الحياة بتطور العقل إلى أن وصلت إلى حياة الكائن البشري، التي نعيشها اليوم.. ولا زالت الحياة تتطور.. وليس لتطورها نهاية، لأن نهايتها هي حياة الله، التي منها تستمد وجودها، وإليها تسعى، عن طريق إعداد المحل عند الكائن الحي، للتلقي عن حياة الله.. وهذا استعداد بفضل الله يزيد كل يوم.. ولا تزال حياة الإنسان أمامنا.. ونحن نطلبها، ونعمل من أجلها.. فحياة الإنسان وحدها هي الحياة.. وما مستويات الحياة الأخرى إلا مقدمة ووسيلة إليها.. وقد تأذن الله تعالى، بالحديث عن حياة الإنسان، والتبشير بها، لأن عهدها أظل، ونوشك بفضل الله علينا، كبشرية أن ندخلها.. وحياة الإنسان كما ذكرنا، هي حياة الفكر والشعور.. وقد تحدثنا عن حياة الفكر، حديثاً مختصراً، ولكننا رغم ذلك، نعتقد أنه وافٍ.. وبصورة خاصة ركزنا على المنهاج الذي يفضي إلى هذه الحياة.. وهذا هو الأمر الأهم، وذلك لأننا لا نتحدث عن مجرد بحث أكاديمي، وإنما نتحدث عن بشارة دينية، وجبت، ونريد للناس، جميع الناس، الأخذ بها.
    لقد كان حديثنا عن حياة الفكر، هو حديث عن العقل والجسد.. والآن، فأن حديثنا عن حياة الشعور، هو حديث عن القلب.. والأمر واحد!! فحياة الشعور هي أصل الحياة.. والقلب هو أصل الكائن الحي، بل القلب هو أصل كل موجود!! فلكل شيء قلب.. والقلب، كما ذكرنا هو الحاسة السابعة، التي هي قمة الحواس وخلاصتها، ولا يوجد بعدها زيادة في عدد الحواس، وإنما الزيادة في كمالها، وهذه لا أنتهاء لها.. "الحاسة السابعة هي القلب.. ووظيفتها الحياة.. وهذه الحاسة هي الأصل، وجميع الحواس رسلها، وطلائعها، إلى منهل الحياة الكاملة".. والقلب هو بيت الله، وهو بما هو كذلك، حرم آمن من الخوف.. وكل المسيرة التي تحدثنا عنها، ونحن نتحدث عن محاربة الخوف هي بسبيل من دخول هذا الحرم الآمن، حيث ليس للخوف من سبيل.
    لقد تحدثنا حديثاً موجزاً عن نفخ الروح الإلهي، ونحن نعود هنا لهذا الأمر.. يقول الأستاذ محمود: "خلق الله آدم على صورته، تبارك، وتعالى، وخلق الكون كله على صورة آدم.. وخلق الله آدم له، تبارك وتعالى، وخلق الكون كله لآدم، ونفخ الله روحه في آدم، ونفخ روح آدم في الكون.. وكان نفخ روح الله في آدم في قمة، ونفخه في الكون في قاعدة.. والنفخ كله مستمر، ولكنه يتصعد في طريق لولبي، يدور على نفسه دورة كاملة كلما رقى سبع درجات من درجات تصعيده، وتعلو نقطة نهاية الدورة فوق نقطة بدايتها سمتاً، به تكون قفزة في الترقي نحو الله.. ويدور هذا الطريق اللولبي حول مركز ينضم نحوه كلما صعد درجة.. فإذا ما انتهت دورة هذا النفخ في الدرجة السابعة، بدأت من جديد، واتخذت درجة النهاية هذه نقطة بداية للدورة الجديدة، وهكذا دواليك، إلى نهاية السرمد - وليس للسرمد نهاية- فيكون، بذلك، النفخ غير متناه.."..
    ونحن الآن بصدد الحديث عن الدرجة السابعة – القلب.. وهو مكان النفخ، يقول الأستاذ محمود: "فأين كان النفخ إذن؟ الجواب، في القلب!! وما هو القلب؟ هو ذات الحي!! هو الحي بالأصالة، حين لا يكون الجسد، ولا الدماغ، حيين إلا بالحوالة.. هو الحي الذي أعطى الجسد والدماغ الحياة، وهو ليس خادمهما، وإنما هو سيدهما.. وقد أخطأ علم الطب الحديث - علم وظائف الأعضاء - حين ظنه مجرد مضخة للدم.. والأمر كما هو عليه في الدين.. ففي الحديث: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائره.. ألا وهي القلب) وليس المقصود بالفساد هنا الفساد الحسي الذي ينتج عنه الموت الحسي، فحسب، وإنما المقصود الفساد المعنوي الذي ينتج عنه الموت المعنوي – الكفر..".. ولقد سبق أن ذكرنا، أن الموت المعنوي بالغفلة عن الله هو الموت.. والقرب من الله هو الحياة (البعد موت.. والقرب حياة – بعث من الموت)..
    يقول تعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ".. فالذكرى، في المكان الأول، لصاحب القلب السليم (لمن كان له قلب).. فأن لم يكن صاحب قلب سليم، فالذكرى في المكان الثاني، لصاحب العقل القوي، والإشارة إليه، بقوله تعالى: "أو ألقى السمع وهو شهيد".. (ألقى السمع) يعني أعار الأذن.. (وهو شهيد)، يعني حاضر، غير شارد الذهن، وقت الاستماع، وهذه إشارة لحضور العقل.. وعن القلب يقول تعالى، على لسان إبراهيم الخليل: "وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ".. فالنجاة في نهاية المطاف، هي لصاحب القلب السليم.. والحياة في خلاصة الأمر للقلب السليم.. عز الدنيا وشرف الأخرة، للقلب السليم.. وكل ما ذكرناه، عن المنهاج، وعن الفكر، وغيره كثير، ما هو إلا وسيلة للقلب السليم.. والوصول إلى القلب السليم، من الناحية العملية، السلوكية، هو الوصول إلى الحاسة السابعة، بعد الوصول للسادسة.. ومن يصل إلى الحاسة السابعة، يرد مورد الحياة الكاملة، حياة الفكر والشعور.. وحياة الفكر والشعور هي حياة واحدة.. بل هي حياة الوحدة!! فحياة الشعور هي الحياة الكاملة، وحياة الفكر هي الوسيلة الوحيدة لهذه الحياة.. يقول الأستاذ محمود، في هذا الصدد: "نحن كثيرا ما نتحدث عن جارحتي العقل، والقلب، ونقول الإنسان الكامل من جمع صفاء الفكر، وسلامة القلب، أو، بتعبير آخر، من استمتع بحياة الفكر، وحياة الشعور، والحق أن حياة الفكر، وحياة الشعور، حياة واحدة، ذلك بأن حياة الفكر هي السبب المباشر، والوحيد، لتحقيق حياة الشعور.. وهذه الأخيرة هي الحياة الكاملة، وهي المعبر عنها بالدار الآخرة، أو بالحياة الآخرة، ولقد قال الله تعالى فيها: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو، ولعب، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون).. وإنما أراد بكلمة (الحيوان) الحياة الكاملة، وهي حياة الشعور، وهي، كما سلف القول، نتيجة لحياة الفكر.. فكلما صفا الفكر، اتسعت، وتعمقت، حياة الشعور.. والفكر هو بمثابة الولد الذي يُنَجَب بين والدين: الذاكرة، والخيال.. وكلما نجب الوالدان، كلما كان الولد نجيبا – بمعنى أنه كلما كانت الذاكرة قوية، ومحيطة، ودقيقة، وكان الخيال، واسعا، مجنحا، طليقا، كان الفكر سليما، نافذا، عبقريا..".
    إذن الغاية هي أن نصل إلى القلب السليم، ونحن لا نستطيع أن نصل إلى القلب السليم، إلا عن طريق الفكر الصافي، فمن أجل ذلك ركزنا على تحقيق صفاء الفكر، ونحن لا نحتاج إلى أن نفصل في الحديث عن القلب السليم، لأنه هو الثمرة، لما سبق أن تحدثنا عنه، ونحن نتحدث عن الفكر.. كل القضية هي تحرير المواهب الطبيعية: العقل والقلب، من أسر الأوهام والأباطيل، فبسلامة القلب من الخوف، وصفاء الفكر من الأوهام، نحقق حياة الفكر والشعور.. والوهم الأول والأساسي، وباطل الأباطيل، هو دعوى الوجود!! نحن نتوهم أن لنا وجوداً ذاتياً، تقوم به ذواتنا.. ومن هذا الوهم، تتبع، تلقائياً، كل الأوهام الأخرى، وأكبرها، وأهمها، الوهم بأننا نملك إرادة ذاتية، تملك أن تفعل أو تترك من نفسها!! والحق أننا لا نملك وجوداً ذاتياً، وإنما وجودنا بالله، الذي لا وجود لشيء معه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.. فكأننا نتوهم، ونشعر أن الله موجود، ونحن موجودون.. وهذان وجودان.. هذا الوهم هو الشرك الأعظم، ولا يمكن تصحيحه إلا عن طريق التوحيد.. والتوحيد يقول أن الوجود واحد، هو ذات الله، ولا شيء موجود مع الله – حتى يتعدد الوجود – وإنما كل شيء موجود به تعالى.. به وليس معه!! وهذه هي العبودية.. فكل مخلوق، قائم بالله، وليس بذاته.. ومن وهم الوجود هذا، يأتي الوهم الآخر الخطير: وهمنا بأننا أصحاب إرادة مستقلة، تملك أن تفعل أو تترك، من نفسها.. وجوهر الدين تصحيح هذا الوهم، ورد الإرادة للمريد الواحد.. فإرادتنا من إرادته تعالى، ولا تملك أن تفعل إلا إذا توافقت مع هذه الإرادة الواحدة، المحيطة..
    وإلى هذين الوهمين العظيمين _وهم الوجود ووهم الإرادة_ ترجع كل الأوهام والأباطيل الأخرى.. وأخطر هذه الأباطيل الشعور بالاستغناء!! فالبشر، وبسبب هذين الوهمين، يتوهمون الاستغناء عن الله.. أو أنهم يزعمون، أنهم ليسوا في حاجة إليه، إلا في بعض الحالات، كالحالات التي يعجزون فيها عن تدبير أمرهم.. فالاستغناء عن الله، هو أصل كل الشرك.. يقول تعالى: "كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى".. ولهذا فإن معرفة حاجتنا وافتقارنا إليه تعالى، هي التوحيد.. وهي حاجة كلية، وشاملة، وسرمدية.. فنحن لا نستطيع الاستغناء عنه ولو للحظة، في أي شأن من شئوننا.. ومتى استيقنا هذه الحقيقة، خرجنا من منطقة الخوف، ودخلنا مدخل الأمن الكامل، والشامل.. وقد ذكرنا أن الحاجة الأساسية، هي للأمن.. والسبيل الوحيد للأمن، هو سبيل التخلص، من الأوهام والأباطيل، المذكورة أعلاه، وبالتالي هو: التخلص من الظلم لله تعالى، والشرك به.. يقول تعالى: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ".. فشرط الأمن من الخوف، عدم ظلم الله تعالى، بالشرك معه، وظلم الخلق، تابع لظلم الله.. وإنما يأتي الشر للناس من جهة طغيانهم واستغنائهم عن الله، كما ورد في الآية: "كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى".. فإن نحن أقمنا حياتنا على مرضاة الله، لا يجد الشر إلينا سبيلاً.. يقول تعالى: "مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا".. فلا بد لنا، إذن، من أن نقيم حياتنا على مرضاة الله، ووقتها لن يكون للشر إلينا من سبيل، وإنما هو النعيم المقيم.. ونحن صائرون إلى ذلك، أردنا أو لم نرد، فما من الله بد!!
    ولن يتم ما نحن به موعودون، إلا بعد أن نتخلص من الخوف، ومن الانقسام، ونفض التعارض القائم في ذواتنا، بين العقل الواعي والعقل الباطن، ويزول بذلك الصراع القائم في بنيتنا، ويحل محله أصل فطرتنا: الحب والسلام.. وفض التعارض بين العقل الواعي، والعقل الباطن، إنما يتم عن طريق، المعرفة التوحيدية، التي بها يتم فض التعارض بين الفرد والمجتمع، وبين الإرادة الإلهية والإرادة البشرية.. وكل صور التعارض هي وهم!! ولا يوجد تعارض في الحقيقة، وإنما التعارض في وهم العقول القواصر.. والتعارض جهل، وليس الجهل علينا بضربة لازب، ونحن بفضل الله علينا، في خروج منه كل حين.. والله تعالى هو المتكفل بأخراجنا.. مرة أخرى نذكر بالآية: "هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ".. يخرجنا من ظلمات الجهل والخوف، إلى نور المعرفة به تعالى، حيث ينتفي الجهل والخوف، ويحل محلهما العلم بالله، والرحمة الرحيمية، والمحبة.. فالمحبة هي أصل الحياة، الأصيل.. بل هي ما تقوم عليه طبائع الأشياء في الوجود.. فقد خلق الله تعالى الوجود كله بالمحبة.. فمن المحبة صدرنا وإليها نعود.
    أصل الحياة محبة:
    قلنا إن القلب هو بيت الرب، وأنه ذات الحي، وسويداء القلوب هي الحرم الآمن من الخوف، والخوف إنما هو على حواشيه: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ".. كما ذكرنا أن مكان النفخ الإلهي إنما هو في القلب.. وذكرنا أيضاً أن العقل هو قوة الإدراك الشفعي.. وفي مرحلة الإدراك الشفعي يكون النفخ من الخارج، والخوف هنا حاضر.. أما في مرحلة الإدراك الوتري، فيكون النفخ من الداخل: "أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد".. ها هنا نفخ الذات في الذات.. نفخ الذات الإلهية في القلب البشري.. وليس للخوف ها هنا مجال.. ونذكر بأن العقل الواعي هو قوة الإدراك الشفعي.. والعقل الباطن – القلب – هو قوة الإدراك الوتري، والعقل الواعي والعقل الباطن، مصطلحا دين، وليس لهما علاقة بعلم النفس المدني.
    قلنا إن العبد إنما يكون في سلام مع نفسه، حين لا يكون العقل الواعي في تضاد وتعارض، مع العقل الباطن، ويومئذ تتحقق سلامة القلب، وصفاء الفكر، وبعبارة أخرى، تتحقق حياة الفكر وحياة الشعور، وتلك هي الحياة العليا، حياة الإنسان.. وخلاصة الشعور المحبة.. فالحياة العليا هي حياة المحبة، وهي خالية من الصراعات، لا في الداخل ولا في الخارج.. هذا هو مقام الإنسان (الخليفة).. والإنسان "لن يبلغ مبلغ الخلافة إلا إذا شب عن العداوات، وعلم أنه أكبر من أن يعادى، ولم يصبح في قلبه مكان إلا للمحبة.. فإن الله يحب جميع الخلائق.. غازها، وسائلها، وحجرها، ومدرها، ونباتها، وحيوانها، وإنسانها، وملكها، وإبليسها.. فانه تبارك وتعالى إنما خلق الخلائق بالإرادة.. والإرادة (ريدة) وهي المحبة.. ولن يكون الإنسان خليفة الله على خليقته إلا إذا اتسع قلبه للحب المطلق لكل صورها وألوانها، وكان تصرفه فيها تصرف الحكيم، الذي يصلح ولا يفسد.. ولا يعوق الحب في القلوب مثل الخوف.. فالخوف هو الأب الشرعي لكل الآفات التي إيف بها السلوك البشري في جميع عصور التاريخ.. ولا يصلح الإنسان للخلافة على الأرض، ولا للتصرف السليم في مملكته وهو خائف.. وليس هناك أسلوب، ولا نهج للتربية يحرره من الخوف غير الإسلام..".. وقد تحدثنا عن التخلص من الخوف بما يكفي.
    القاعدة الأساسية في التعامل مع الآخرين هي: أن تعامل كل إنسان كغاية في ذاته.. وهذه تقتضي أن تحب المخطيء، وتكره الخطأ، أن تحب الكافر، وتكره الكفر.. فالكافر، والمخطيء، وكل صاحب عيب، لم يخرج عن إرادة الله.. أما كراهيتك للكفر، وللخطئية، فمن عملك بمرضاة الله، فإنه تعالى أوجد الكفر، ولا يرضى إلا الإيمان.. أوجد الفرع ولا يرضى إلا الأصل.. "إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ".. ومن محبتك للآخر، أن لا ترضى له النقص، وإنما ترضى له الكمال، هذه هي المحبة العالمة!! وهي أن تحب الإنسان الآخر لذاته، ويقتضي ذلك أن تحب له الخير، وتعمل في توصيله إليه، وتكره له الشر، كما تكرهه لنفسك، وتعمل على صرفه عنه.. فالمحبة ليست سلبية، وإنما هي إيجابية وخلاقة، تحب للآخرين الخير، وتعرف الخير، وتعمل على توصيله إليهم عن علم.. هذه المحبة هي الدين، وهي الحياة!!
    وكما أن الرحمة عامة وخاصة، كذلك المحبة، بالنسبة لله تعالى.. فهي تقع في مستويين: محبة عامة، ومحبة خاصة.. المحبة العامة تشمل جميع الخلائق، وتقابل الرحمة الرحمانية التي يدخل فيها العذاب.. أما المحبة الخاصة، فهي محبته تعالى لأهل قرباه.. وهذه الأخيرة هي خلاصة الخلاصة، وغاية الغايات بالنسبة للسلوك الديني، وبها تكتمل الحياة، وتصبح جميعها حياة، موصولة بالله.
    الأصل في المحبة هو محبة الله، وكل صور المحبة الأخرى تتبع.. فالله تعالى لا يحب في فراغ، وإنما يحب في خلقه.. فمحبة الله تعالى موصولة بمحبة خلقه ولن تنفك.. ومن المهم جداً أن نعلم أن المحبة بالنسبة للإنسان، هي الأصل الذي منه صدر، وإليه يعود.. والنهج العملي في المحبة إنما ينطلق من الحقيقة الأساسية، وهي أن كل إنسان يحب نفسه.. وهذه هي الأنانية التي تحدثنا عنها، وقلنا إنها تقع في مستويين: الأنانية السفلى، والأنانية العليا.. والمحبة التي نتحدث عنها هي المحبة التي تقوم على الأنانية العليا (الأنت).. قال تعالى عن الإنسان: "وإنه لحب الخير لشديد"، وهذا ما يجعل المحبة العليا ممكنة، متى ما توفر العلم، والعمل، الذي يفضي إليها.. يقول الأستاذ محمود، عن هذه المحبة، كثمرة للعمل السلوكي في العبادة والمعاملة: "وسبيل الإنسان إلى تجويد التوحيد، تجويد العبادة.. والعبادة معاملة.. والمعاملة، كالعملة، ذات وجهين: من أعلاها معاملة الرب.. ومن أدناها معاملة الخلق.. وأعلى معاملة الرب (الصلاة).. وأعلى معاملة العبد صلة الرحم.. وليست الرحم هنا قرابة الدم، (وإن كانت هذه موجودة في أدنى المنازل)، وإنما الرحم هنا بمعناها الواسع، وهي رحم العبودية للمعبود الواحد.. قال تعالى، في ذلك: (إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى.. وينهى عن الفحشاء، والمنكر، والبغي.. يعظكم لعلكم تذكرون).. قمة الصلاة أن تكون صلة بينك، وبين الله، حتى تكون معه كما هو معك.. وهيهات.. وقمة المعاملة أن تنشأ الصلة، بينك، وبين الأشياء، والأحياء، فتتصرف فيها وأنت تتوخى الحكمة التي ترضي خالقها، في تصريفها.. وهذه دائماً ممكنة، في مستوى من المستويات، للعارفين الذين تبلغ بهم المعرفة منازل المحبة - محبة الأحياء، والأشياء.. وبالمحبة نتحرر من الخوف، ونتخلص من الحجب، التي رسبها هذا الخوف، في صور عقد نفسية".
    منهاج المحبة، هو المنهاج الذي كنا نتحدث عنه دائماً (طريق محمد) صلى الله عليه وسلم.. وقد جاء عن هذا المنهاج قول الأستاذ محمود: "طريق محمد هـو الطريـق، لأنه طريق (المحبـة) الخصبـة، الخلاقـة.. قال العزيـز الحكيم عنـه: (قل إن كنتم تحبـون الله فاتبعـوني يحببكـم الله).. بطريـق محمد أصبح الديـن منهاج سلـوك بـه تساس الحيـاة لتـرقى الدرجات نحو الحيـاة الكاملة.. حياة الفكر، وحياة الشعور".. ومنهاج (الطريق) يقوم كله، وفي جميع مراحله، على المحبة!! وإذا خلا من هذه المحبة، فهو لا قيمة له، ولا جدوى منه.. يقول الشيخ العبيد ود بدر، الصوفي السوداني: "الما عندو محبة، ما عندو الحبة".. يعني من ليس له محبه ليس له شيء من الدين.. ومن أجل ذلك، أخذ الله تعالى على السالكين في طريق محمد، الأدب معه، ومحبته.. يقول الأستاذ محمود: "وأيسر ما يقوم عليه التقليد النافع أن يكون صدر المقلد منطويا على قدر كبير من التقديس، والتوقير للنبي، وهذا ما من أجله أخذ الله الأصحاب بالأدب معه، وأمرهم بالصلاة عليه، فقال، عز من قائل: (إن الله وملائكته يصلون على النبي، يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)..".. وسوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، قد يبطل عمل المؤمن!! قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ".. وعلى المؤمن أن يدرك أن النبي أولى به منه!! يقول تعالى: "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ".. فالمؤمن في درجة النفس اللوامة أو ما بعدها.. والنبي في حقيقته، في النفس الكاملة.. والنفس الكاملة أولى من النفس اللوامة بها منها.. فالنبي أعرف بخيرنا منا، وأقدر على توصيل الخير إلينا منا.. فإذا عرفنا ذلك، لا بد أن نحبه.. ثم أن النفس بطبيعتها، تحب (البطل)، تحب الكمال والجمال.. ورد أن أحد الأصحاب، سأل النبي: "متى الساعة يا رسول الله قال:وما أعددت لها؟؟ قال: والله ما اعددت لها كثير صلاة ولا كثير صيام، ولكني أحب الله ورسوله.. قال النبي: المرءُ مع من أحب".. فقد جعلته محبة الله ورسوله معهما، رغم أنه لم يعد كثير صلاة، ولا كثير صيام!! وكل العمل بالمنهاج، غايته الوصول إلى القلب السليم، حيث الحب الخالص.
    بعد كل هذا لماذا علينا أن نحب؟؟ ما هي الفائدة من الحب؟؟ الإجابة القصيرة والمباشرة: علينا أن نحب، لأننا بالحب نحقق كمالنا، نحقق حياة الفكر والشعور، التي هي موطن إنسانيتنا!! وبالطبع سبق الحديث عن هذا الأمر.. فعن طريق المحبة (طريق محمد)، يحقق الفرد كمال حياته، وذلك بردها إلى أصلها، إلى الفطرة السوية، حيث سلامة القلب وصفاء الفكر.. فمن ينتفع بالمحبة نحن، ومن نحبهم من خلق الله.. أما الله تعالى، فهو غني عن العالمين.. فعن طريق المحبة نحقق العلم النافع – العلم بالله.. وهذا العلم هو سبيلنا الوحيد إلى الحياة الكاملة، وهي الحياة الموصولة بمصدرها، منه تستمد في كل حين، المزيد من الحياة.. وعن طريق المحبة نتخلص من العداوات، وأسباب العداوات، التي أقعدتنا زمناً طويلاً، عن كمال حياتنا، وعن سعادتنا.. فالحياة السعيدة هي غايتنا، وهي ما من أجله خلقنا الله.. قال الأستاذ محمود: "أما أنت فأعلم أنها إنما هي نفسك.. فأنت أناني، ومغرض.. وكمالك إنما هو في أن تكون أنانياً، ومغرضاً.. فإننا لا نعمل لغير غرض.. نحن لا نعبد الله إلا لغرض.. ومن ظن غير ذلك فهو جاهل.. إن غرضنا من عبادة الله هو سعادتنا، و من أجل ذلك خلقنا الله.. وهو حين قال، تبارك وتعالى: (وما خلقت الجن، والإنس، إلا ليعبدون).. إنما عنى ذلك.. فإنه هو تبارك، وتعالى، الغني الحميد.. هو غني عن العبادة، والعباد، ولكننا نحن المحتاجون.. وقوله، إذن، إنما يعني: وما خلقت الجن، والإنس، إلا ليسعدوا علي بمعرفتهم إياي، وذلك بوسيلة العبادة..".. فالسعادة هي معرفة الله، والحياة وفق هذه المعرفة.. هذه هي السعادة الوحيدة والباقية!! وأي سعادة غيرها، هي زائفة، وموقوتة، وهي حتماً إلى زوال!!
    طريق المحبة هو طريق العبودية لله.. فالعبودية هي روح العبادة.. والعبادة وسيلة، والعبودية غاية.. وعن طريق العبودية، نصل إلى محبة الله، وهي خلاصة الخلاصة، في الكمال الإنساني، إذ بها تتحقق قمة الحرية.
    ولأهمية محبة الآخر قال المعصوم: "والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء أن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".. وقال: "من سره أن يجد حلاوة الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله".. وقال: "لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".. و (أخيه) هذه في مستوى الأصول، تعني الأحياء والأشياء!! تعني الأخوة، في رحم العبودية للمعبود الواحد.. وهذه لا يخرج منها مخلوق.. أرجو الرجوع إلى الحديث الذي سبق أن أوردناه، عن المقربين، وقد جاء فيه: "رحماء، طيبين، متسامحين، محبين للأشياء، والأحياء، في سلام مع ربهم، ومع أنفسهم، ومع الناس.. يدعون إلى الرضا بالله، والمصالحة مع الناس، وينشرون الحب، كما تنشر الشمس النور، والحرارة، والدفء".. هم ينشرون الحب من غير تكلف، لأنه طبعهم الأصيل – وهو طبع كل إنسان – وقد غطى عليه الرين.. وهم بفضل الله، ثم بفضل اتباع المنهاج، وإدخال الفكر في العمل، وصلوا إلى هذا الطبع الأصيل.. ومصير كل إنسان أن يصل إليه، إن عاجلاً أو أجلاً!!
    قلنا إن طريق المحبة، هو طريق العبودية لله، فالعبودية خلاصته.. قال تعالى في الحديث القدسي، لسيدنا داؤود: "بلغ أهل أرضي، أنني حبيب لمن أحبني، وجليس لمن جالسني، ومؤنس لمن أنس ذكري.. وما أحبني عبد من قلبه إلا قبلته، وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي.. من طلبني بالحق وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني.. أهل الأرض!! هلموا إلى كرامتي وأنسوا بي أونسكم.. وأسارع في محبتكم".. وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا".. قال تعالى في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه،ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته. ".. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة، بمكانهم من الله تعالى قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم؟؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)..".. هذه هي الحياة في الإسلام.. حياة الإنسان.. وهؤلاء هم أهلها، الذين ينالونها برضا ربهم عنهم، ومحبته لهم.. "ما هم بأنبياء ولا شهداء، ويغبطهم الأنبياء والشهداء".. "وإن وجوههم لنور، وأنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس".. فمن أراد أن يكون منهم، عليه بطريقهم، طريق محمد صلى الله عليه وسلم.. ولعظمة المحبة، كان النبي، يدعو ربه، يطلبها، فيقول: "اللهم أسألك حبك، وحب من أحبك، وحب ما يقربني إلى حبك".
    هكذا، في أصول الإسلام، أصبح الحب ديناً يدان به!! وهو حب شامل لله تعالى، ولجميع خلقه.. وللحب هذا منهاج، يمخضه، ويزيل كل ما يعلق به من شوائب، فيكون خالصاً وطبيعياً، لا تكلف فيه، وليس فيه مقابل دنيوي.. فهو حب لله، والله تعالى أغنى الشركاء عن الشراكة!! فهذا الحب الذي نتحدث عنه، هو جوهر حياة الإنسان، وخلاصة التجربة الدينية، منذ أن كان الدين، في الأزل.. ومجتمع الحب هذا، هو مجتمع (الأخوان) الذين بشر بهم، النبي عليه السلام، وقد سبقت الإشارة إليهم.. ولا يدخل في زمرة الأخوان إلا من تطهر من دنس الكراهية والحقد، والغل، يقول تعالى: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ".. هذا هو الحد الأدنى، من شروط جنة الأرض الموعودة: "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ".. وهذه الجنة قد اكتملت الأشراط المادية لقيامها، وليس بيننا وبينها، إلا صدور الإذن الإلهي بها.. وبالحب الشامل، يتحقق الوجه الإيجابي للسلام.. فالسلام ليس التخلي عن العنف والحرب والعدوان، فحسب، بل هذا هو الوجه السلبي للسلام، وجه الترك!! أما الوجه الإيجابي للسلام، فهو وجه المحبة الخصبة الخلاقة، التي تسود جميع أفراد المجتمع البشري، في الأرض – راجع كتابنا (السلام).
    والمحبة الخصبة الخلاقة هي الدين _دين الحب_، وبدين الحب هذا تغنى كبار مشائخ الصوفية.. فقد قال الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي:
    أدين بدين الحب أنى توجهت
    ركائبه فالحب ديني وأيماني
    وعن شمول المحبة وفيضها الغامر، قال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل:
    وكيف يصبح عنها الطرف محتجباً * وحسنها في جميع الخلق يلقاني
    فإن غيبت ذاتها عني، فلي بصـــر * يـــرى محاسنها في كــل إنسان
    الجمال:
    الحديث عن الحب، يقودنا للحديث عن الجمال، فهو بعد أساسي من أبعاد الحياة الإنسانية.. فالجمال أصل في الوجود، وهو من صفات الذات الإلهية، فالله تعالى جميل يحب كل جميل.. أما القبح، فهو فرع، وهو لا وجود له في الحقيقة، وإنما وجوده في الشريعة فقط، في الظاهر.. في الحقيقة لا يوجد أي قبح.. كل شيء في الوجود جميل ويستمد جماله، من جمال موجده.. فإن عميت النفس عن جمال الأشياء، فإنما ذلك بسبب، التشويش الداخلي، أو قل القبح الداخلي، الذي تسبب فيه الانقسام والخوف.. فإذا كانت المرآة التي نرى فيها الأشياء، غير نظيفة، ومليئة بالخدوش، فمن الطبيعي أن تجعل رؤيتنا للأشياء مشوشة.. وإذا تم صقل المرآة، وتمت إزالة التشويش _الرين_ عنها، فمن الطبيعي أن ترى جمال الأشياء، بقدر صفائها!! الأشياء كل الأشياء بطبيعتها جميلة، وعندما نرجع إلى طبيعتنا الأصلية، نرى طبيعتها الأصلية!! الحجر في الجبل، قد يبدو إلى الرآئي غير جميل، ولكن إذا نظرت إليه بالمنظار الذي يستخدمه الجيولوجي، تجده أروع ما يكون، من الجمال، وهو غنى بالألوان الجميلة.. فعندما ننغم ذواتنا، ونزيل عنها الفوضى والاضطراب الداخلي _وهذا يتم في أحسن أحواله في مرحلة الإنسانية_ وقتها يدهشنا جمال الوجود، الذي يتبدى في كل شيء.. يقول العارف بالله عبدالغني النابلسي: كل شيء عقدُ جوهر * حلية الحسن المهيب
    دع جمال الوجه يظهر * لا تغطــي يـا حبيب
    ومن أبيات نجم الدين بن إسرائيل التي أوردناه:
    فإن غيبت ذاتها عني فلي بصر * يرى محاسنها في كل إنسان
    فمن يُكشف عنه الغطاء، يرى الحقيقة – حقيقة الأشياء – والحقيقة كلها جميلة في ذاتها وفي تجلياتها!!
    والنفوس السليمة بطبيعتها تعشق الجمال.. والجمال: حسي ومعنوي.. والجمال الحسي مظهر للجمال المعنوي.. والكمال أن يكون جمال المظهر والجوهر معاً، فيكون جمال المظهر ، معبر إلى الجوهر..
    إن غيبت ذاتها عني فلي بصر * يرى محاسنها في كل إنسان
    فمحاسن الإنسان من محاسن الذات.. فالجمال في الحقيقة للذات الإلهية – كما سبق أن ذكرنا – فهذا هو أصل الجمال، وهو الجمال الوحيد.. وكل جميل، من الخلق، جماله من جمال خالقه، وهو مظهر لهذا الجمال.. ودائماً مقدار التجلي، إنما يكون حسب استعداد المحل عند المُتجلى عليه.. وأهم من ذلك، دائماً رؤية الجمال، في المتجلى عليه، تكون حسب حال الرائي، وحضوره مع المتجلي، في موضع تجليه!! فعند النابلسي مثلاً:
    كل شيء عقد جوهر * حلية الحسن المهيب
    وقد قال الشاعر السوداني إدريس جماع:
    حاسر الرأس عند كل جمال * مستشفٌ من كل شيء جمالاً
    هذه هي حال العارف بالله.
    والوصية في هذا الصدد: كن جميلاً ترى الوجود جميلاً.. كل نفس طبيعية تحب الجمال، وتستمتع به، ومن هنا تأتي أهمية الجمال للحياة.. فالحياة شعور، وخلاصة الشعور المحبة.. فالمحبة هي اللذة والمتعة الصافية من كدر.. وكذلك الجمال الذي هو صنوها، ومن أهم بواعثها.. فالنفوس الطبيعية تحب الجمال وتستمتع به، بقدر ما فيها من استعداد.. وكل نفس لا ترى الجمال، ولا تستمتع به، هي نفس ميتة!! ونحب أن نؤكد هنا، أن اللذة والإستمتاع، لا يتعلقان بالموضوع فقط، وإنما هما علاقة بين الموضوع والذات.. ففي هذه العلاقة الذات هي الأصل، والموضوع فرع.. وقد ضربنا لذلك مثلاً بسيطاً وواضحاً، المريض بالملاريا، مثلاً، قد يجد أشهى الطعام مقززاً، لدرجة أنه قد يتقيأ لمجرد رائحته!! هذا في حين أن السليم، يستمتع بمجرد رائحته!!.. والخائف يعجز عن الالتذاذ، بأعظم اللذات مثل لذة الجنس!! وهذا من أهم أسباب شكوى الغربيين من أن الجنس لم يعد ممتعاً.. ولذلك السبيل الوحيد للإلتذاذ بالحياة، هو الصحة الداخلية!!
    يجب أن يكون واضحاً أن جميع اللذات هي لذات حسية!! أما موضوع اللذة، فقد يكون حسياً أو معنوياً، أما اللذة نفسها فهي في الحالين حسية.. واللذة الحسية التي موضوعها معنوي، أكمل من اللذة الحسية التي موضوعها حسي.. فأعلى اللذات على الإطلاق، هي رؤية الله "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ".. وموضوعات التجلي المختلفة، إنما يكون موضوع الجمال فيها، وموضوع الالتذاذ بها، هو بالقدر الذي يجده الفرد، من رؤية الله فيها، أو عبرها.. وهذا في الحقيقة كائن لكل فرد، في مستوى من المستويات، فما تبدّى غيره!! ولكن العبرة بتطابق الشريعة مع الحقيقة..
    قلنا إن الحياة الحقيقية، هي الرجوع إلى الله، والحضور معه، والصلة به تعالى، لأن فيه وصل الحياة بمصدرها.. وهذه هي حقيقة الجنة.. أما جنة المباني فتتبع.. وفي قوله تعالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ".. (عند مليك مقتدر) هي أعلى الجنان.. بصورةٍ مبدئية عامة: جنة المعاني، أكمل من جنة المباني.. والجنان درجات جد متفاوتة، بتفاوت أصحابها، في قربهم من الله.
    الحديث عن الجمال يقود إلى الحديث عن الموسيقى، فهي في عموم أحوالها، التنغيم، الذي يظهر جمال ما هو جميل.. وما من شيء إلا وهو جميل، ولذلك ما من شيء إلا وهو موسيقى!! وفي مرحلة حياة الإنسان، تحتل الموسيقى مكانتها، بسبب التنغيم الداخلي عند الأفراد، الذي يؤهلهم للإستمتاع بالموسيقى، في كل صورها.
    من الخير أن نختم بهذا النص، من أقوال الأستاذ محمود، الذي يلخص موضوع الحياة وكمالها، وتعلق ذلك بالتخلص من الخوف.. يقول: "الخوف قد كان صديقاً في ثياب عدو.. والمحاولة، كل المحاولة، أن ندرك حقيقة الخوف، وكيف أنه صديق.. وننتهي إلى المواءمة بيننا وبين بيئتنا، لا العداء، والمناجزة.. ولا يستقيم لنا ذلك إلا عندما تقوى العقول، فتدرك الأمر، على ما هو عليه، ويومئذ يحل الحب، والأنس، محل الخوف.. ويومئذ ينطلق القلب من الانقباض الذي أورثه إياه الخوف، فيدفع، بانطلاقته هذه، دم الحياة قوياً، إلى كل ذرات الجسد، وكل خلايا الجلد، تلك التي كان الخوف قد حجرها، وجعل منها درقة، ودرعاً لوقاية الحياة البدائية.. ويومئذ يعود الشعور لكل الجسد، ويعود الحس المرهف لكل الجلد.. فيكون الجسم حياً كله، لطيفاً كله، جميلاً كله.. وتكون أرض الجسد الحي، يومئذ، هي المعنية بقوله تعالى: (وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت، وربت، وأنبتت من كل زوجٍ بهيج..).. قوله: (من كل زوجٍ بهيج) إشارة إلى الحواس.. فإذا بلغنا هذه المرحلة فقد بدأنا نرد المورد الذي عنه صدرنا، يوم قال عنا، عز من قائل:(قلنا أهبطوا منها جميعاً، فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون).. وقد جاءنا هذا الهدى بالتوحيد، والصلاة: (إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه).. وإنما نرد، بظهور الحاسة السابعة، مورد الحياة الكاملة.. وليس للحياة الكاملة نهاية كمال، وإنما كمالها، دائماً، نسبي.. وهي منطلقة دائماً، متطورة دائماً، تطلب الحياة المطلقة الكمال، عند الكامل المطلق الكمال - عند الله - وهذا مطلبها السرمدي..".
    وبعد، سيقول أقوام إن هذا أمر بعيد، ومثالي، غير قابل للتحقيق.. ونقول إنه أمر قريب جداً، إن شاء الله.. وهو حتمي التحقيق، لأن تحقيقه ليس على أحد منا، وإنما هو على الله، الذي لا يتعاظمه شيء.. وهو تعالى، قد وعد به، في معنى وعده بنصرة الإسلام الأخير (إسلام أمة المسلمين)، فقد قال عز من قائل: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا".. وبشر تعالى، عن طريق نبيه بعهد (الأخوان)، الذين ليسو بأنبياء، ويغبطهم الأنبياء، لمكانهم من الله.. بل إن هذا الأمر، قد تحقق بالفعل، عند طلائع البشرية، من أنبياء الحقيقة، وفي ظروف تاريخية صعبة..
    فالأمر، إذن، يقوم على أرض ثابتة، من المعرفة بطبيعة الوجود، والطبيعة الإنسانية.. كما يقوم على منهاج منبثق عن الطبيعتين، ومبني على كتاب الحياة: القرآن.. ثم هو منهاج يقوم على اتباع أكمل حياة جسدت القرآن (طريق محمد).. ومحمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن الحي.. وإلى جانب كل هذا، فإن الله أعد الأرض، لاستقبال هذا النبأ العظيم، بقيام أكبر حضارة عرفها الإنسان: الحضارة الغربية.. فبهذه الحضارة، قام البناء التحتي لحياة الإسلام، وتم الاستعداد لها، بالحاجة إليها، والطاقة بها، فانفتح بذلك حكم الوقت، لظهور الإنسان، وحياة الإنسان، وأصبح الأمر ليس منه بد.. وليس بيننا وبينه، إلا صدور الإذن الإلهي بالتطبيق، وظهور آيته التي تخضع لها الأعناق، وظهور تأويله "هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ".. ويوم الوقت المعلوم، سيدعو لسان الحال، ولسان المقال، بقول الكبير المتعال: "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ".

    ۱6/۱2/۱9م























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de