إجراء الانتخابات في السودان بدون الدعم السياسي واللوجستي والمادي لن يكتب لها النجاح السودان مازالت أسيرة لمربع عدم الاستقرار السياسي رغم سقوط نظام عمر البشير
ماذا بعد اعتراف الجانبين، المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في السودان بأنهما قد وصلا إلى طريق مسدود بخصوص ترتيبات الفترة الانتقالية؟ كلا الطرفين يتمترس حول مواقفه، بينما تستمر التعبئة وسط تيار أنصار الشريعة الذي يمثل القوى الإسلامية، لتبقى البلاد أسيرة لمربع عدم الاستقرار السياسي رغم سقوط نظام الرئيس عمر البشير. نائب رئيس المجلس العسكري وقائد الدعم السريع، استنكر دعوتهم للرجوع للثكنات العسكرية، وتسليم السلطة بالكامل للمدنيين وفورا، وقال إن عودة العسكر مربوطة بإقامة انتخابات نزيهة وأن القوات النظامية هي ضمانة لاستقرار البلاد. ويبدو أن الصادق المهدي زعيم حزب الأمة وعضو تحالف قوى الحرية والتغيير في ذات الوقت، يميل لوضعية مميزة للمجلس العسكري في الفترة الانتقالية، الأمر الذي يعد اقترابا من رؤية المجلس نفسه، وقال إن الفترة الانتقالية فترة مؤقتة تحكمها ظروف استثنائية يجسدها (تحالف عسكري مدني) في إطار إعلان دستوري . بيد أن المجلس العسكري يسير في اتجاه خيار قلب الطاولة والإعلان عن انتخابات مبكرة خلال ٦ أشهر، بينما قوى الحرية والتغيير لوحت في مقابل ذلك بخيار إعلان العصيان المدني الشامل، وأيّاً كان المنتصر فأين هي مصلحة البلاد في تفكير كلا الطرفين والشعب ينتظر وهو يئن تحت وطأة الوضع الاقتصادي المُزري، الذي كان سببا في ثورته، وهو بكل تأكيد غير معني بالجدل النخبوي وترتيبات الفترة الانتقالية. من المعيب أن دولة مثل السودان لم تستطع في ظل العبث السياسي استثمار مواردها الطبيعية، وتسخير قدراتها وثرواتها للنهضة والتقدم. فقد ظل عدم الاستقرار السياسي، أو ربما الفوضى السياسية، علامة مميزة للأوضاع في البلاد. ومعلوم أن عرى العلاقة بين معاش الناس، وبين الفعل السياسي جدُّ وثيقة. خارجيا انتقلت العدوى السودانية إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية بشأن السودان، فالخارجية تفضل حكومة مدنية ومجلس سيادي مدني، به تمثيل عسكري، بينما وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات والأمن القومي يفضلون مجلسا عسكريا قويا وحكومة مدنية ذات سلطات محدودة. قوى الحرية والتغيير تبدو متناقضة في طرحها السياسي؛ فبينما تبدي ضيقا بالمجلس العسكري في ذات الوقت لا تساند خيار الانتخابات المبكرة، بل تفضل صفقة سياسية معه تمكنها من حكم البلاد حكما مطلقا خلال فترة انتقالية مدتها 4 سنوات، حيث وافق المجلس العسكري بعد نقاش مطوّل على 3 سنوات. والتفسير الوحيد أن نخب قوى الحرية والتغيير أصبحت نهبا لعقلية القطيع، وهي مثل الماء العكر يحلو الصيد فيها لحزب بعينه ظل متخفيا ومعكرا لصفو ماء التغيير الذي حدث. يقول جوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير": إن من أهم خصائص الجماهير هو انطماس شخصية الفرد وانخراطه في شخصية الجمهور، والذي يترتب عليه تخليه عن عقله الواعي ومنطقيته حتى يتماشى معهم، إذ إنه ليس من السهولة السباحة عكس التيار. ويمضي لوبون قائلا: وعندما تغيب شخصية الأفراد ووعيهم في موجة الجماهير العاطفية يمكن لنا أن نفسر انسياق بعض النخب الواعية والمستقلة خلف آراء وعواطف الجمهور حتى وإن كانت مخالفة لأبسط قواعد التحاكم العقلي التي عرفت بها تلك النخب، لا سيما وإن كانت مخالفة تلك الجماهير ستجلب عليها الانتقاد والتقريع. إن كان السياسيون في السودان جادين وحريصين على إقالة البلاد من وهدتها وكذلك عازمين على عدم الوقوع في أخطاء الماضي، فعليهم دعم فكرة إقامة انتخابات في أسرع وقت. وهم بذلك يمتحنون صدقية المجلس العسكري، وفي ذات الوقت يحسمون الجدل فيما بينهم حول أحقية من يحكم. وكذلك إن كان المجتمع الدولي والقوى المؤثرة في العالم حريصة على عدم انزلاق البلاد نحو الفوضى والحروب، أن يدعم وبقوة فكرة هذه الانتخابات التي بدون الدعم السياسي واللوجستي والمادي لن يكتب لها النجاح.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة