لعل قضية ارتباط الدين بالسياسة ومؤسسة الحكم ظلت محور جدل سياسي وفكري مستمر لعقود عديدة، بيد أن النقطة المحورية في الخلاف في وجهات النظر حول ما يعرف بالإسلام السياسي يبدو أنه خلاف مفاهيمي؛ لكن هذا لا ينفي أن كثيرا من الخلاف بقي أسير التعصب السياسي والعقائدي.
وكون الجدال يعتبر أبعد مسافة بين وجهتي نظر، إلا أنه من الأفضل أن يتواصل التجادل في مسألة دون حسمها، من أن تحسم دون التجادل حولها. ولعل الخلاف القائم على التعصب السياسي والعقائدي - وهو مذموم - يسمى جدالا بينما الخلاف الموضوعي يمكن أن نسميه جدلا؛ فالجدل هو الأخذ والرد في الحجج ومبتغاه تحقيق المعرفة، بينما الجدال هو الأخذ والرد في الحجج بغيا في دحض الخصم بأي طريقة وكيف ما يكون.
البعض يقول في مسألة علاقة الدين بالحكم؛ أن ما يرتضيه الله عزّ وجلّ لعباده في الأرض إقامة العدل والمساواة وأولئك يرمون إلى عدمية ارتباط الدين بالسلطان والحكم. لكن الله تعالى قد أمر ووضّح في كل أديانه المنُزلة كيف يقيم الانسان -لاسيما صاحب السلطان- العدل والمساواة، فهذه نقطة مهمة وجوهرية. علاوة على ذلك فإن مصطلح (الإسلام السياسي) يحتاج لوقفة ومفاكرة متأنية.
فهل دولة الإسلام الأولى التي أقامها النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانت دولة يمكن أن نصفها بدولة (الإسلام السياسي) لأنه صلى الله عليه وسلم طبّق فيها مفاهيم الإسلام في حالات الحروب والسلم والتقاضي بين الناس والمعاملات التجارية والعلاقات مع الآخر أي الشعوب والأمم الأخرى المجاورة؟. هل الدولة السعودية الآن دولة إسلام سياسي، لأنها قامت على عقد اتفاق سياسي بين آل سعود ومحمد بن عبد الوهاب وتطبق أحكام الشريعة الاسلامية في الردة والسرقة وغيرها؟. هل باكستان دولة إسلام سياسي، لأن اسمها جمهورية باكستان الاسلامية. ومن المفارقة أن كلا من السعودية وباكستان حليفتان للولايات المتحدة والغرب عموماً. هل كذلك نظام الإنقاذ الحالي في السودان نظام للإسلام السياسي لأنه يزعم تطبيق الإسلام في قوانين مثل قانون العقوبات وقانون النظام العام؟ وهل من قبل كان نظام جعفر نميري (1969 - 1985) في سنواته الاخيرة نظاما للإسلام السياسي، لأنه أعلن تطبيق الشريعة الاسلامية في سبتمبر ١٩٨٣؟.
ما يمكن التأكيد عليه والإشارة إليه هو أن (الإسلام السياسي) مصطلح سياسي وإعلامي أطلقه الآخر (الغرب) واستخدمه لتوصيف حركات تغيير سياسية تؤمن بالإسلام باعتباره "نظاما سياسيا للحكم"، فالإسلام عندها ليس ديانة فقط وإنما هو عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات الدولة، وقد لا يجد المؤمنون بمفاهيم الإسلام السياسي حرجاً في هذا المصطلح -يفضلون مصطلح الحاكمية لله- إن كان يتضمن تلك المفاهيم.
ويطلق الآخر مصطلح (الإسلام السياسي) على تلك الحركات السياسية مصحوباً بوصفهم بمجموعة "المسلمين الأصوليين" ولاحقاً بـ"الإرهابيين" خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. في ذات الوقت لا يضع الغرب (الإسلام السياسي) في سلة واحدة، فهو غير راغب في مواجهة شاملة، فضلا عن أن أسلوب "فرق تسد" لابد أن يكون حاضراً. حيث يخشى الغرب من بعض ما يعتبره جماعات (الإسلام السياسي) لأن الإطار الفكري لها يقوم على أدبيات وتجارب تراكمية، أهم ما فيها أن الإسلام دين الوسطية وليس مجرد مجموعة شعائر وحركات ظاهرة مجوّدة بدون أي بُعد معنوي. لكن الغرب يطرب للإسلام السياسي في النموذج السعودي لأنه يعتقل التدين ضمن الإطار الفقهي الشعائري.
إن الغرب الذي يؤمن بالعلمانية نظام حياة شاملا يريد نظماً سياسية في الدول الإسلامية تتماهى مع ما يؤمن به، وهذا ما يصطدم تماماً مع رؤية (الإسلام السياسي)، ولذا يشيع عبر آلته الإعلامية الضخمة أن حركات الإسلام السياسي تسعى إلى الوصول إلى الحكم والاستفراد به، وبناء دولة دينية ثيوقراطية وتطبيق الشريعة الإسلامية التي لا تصلح في رأيه للعصر الحالي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة