بسم الله الرحمن الرحيم (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلآئِكَةُ، وَقُضِيَ الأَمْرُ، وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمور) الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية
الإنسان في الحضارة الغربية الباب الخامس البيئة والوراثة
موضوع الوراثة والبيئة، موضوع لا يعنينا هنا، إلا في حدود موضوعنا عن التعرف على الإنسان وطبيعته.. ولقد تمَّ تناول الموضوع منذ زمن طويل، ودارت حوله الخلافات.. ولكن عندما تمَّ اكتشاف الشفرة الوراثية للإنسان (الجينوم)، قفز الموضوع إلى قمة الإهتمام العالمي.. ففي السادس والعشرين من يونيو من عام 2000م، تم إعلان الوصول إلى (مسودة الجينوم)، فكان فتحاً علمياً خطيراً، في أهميته، وانبنت عليه آمال عريضة في مجالات عديدة، يعنينا منها فقط معرفة الطبيعة البشرية.. وفي هذا المجال، يقول د. أحمد شوقي، في كراسته المسماة (هذا هو الإنسان: حوارات حول الطبيعة والثقافة).. يقول: "إتفقت الأغلبية، على أن الإعلان المذكور، يمثل خطوة هامة على طريق التدقيق العلمي في فهم الطبيعة الإنسانية، بشكل يتجاوز النظريات الفلسفية، والأنثربولوجية، والتاريخية وغيرها" (10 ص 13).. من المؤكد أن اكتشاف الخريطة الجينية، من أعظم الاكتشافات العلمية، ولكن ما هو الجديد الذي يمكن أن يقدمه، في مجال معرفة الإنسان لنفسه، ولطبيعته؟؟ بالطبع القضية الأساسية التي يثيرها موضوع الجينوم هي قضية الوراثة.. وهي قضية من المستحيل فصلها عن قضية البيئة، وهذا أمر واضح جداً، عند الحديث عن الجينوم، فهل الوراثة كما تظهر في موضوع الجينوم، هي التي تحدد الطبيعة الإنسانية؟؟ هل طبيعتنا موجودة في جيناتنا، بحيث إذا عرفنا هذه الجينات نعرف الطبيعة الإنسانية؟؟ وما هي علاقة البيئة، بعمل الجينات؟؟ دار حوار علمي طويل، حول هذا الموضوع، ولا يزال هذا الحوار يجري.. انقسم العلماء إلى فريقين: الفريق الأول، يغلب الوراثة، وذهب بعض هؤلاء إلى القول بأن جيناتنا هي التي تصنعنا، وجميع ما يكون طبيعة الإنسان، موجود في جيناته.. فظهرت بذلك، حتمية بيولوجية جديدة.. والفريق الثاني يعارض هذه الرؤية، ويتحدث عن أهمية الثقافة والبيئة.. وهنالك فريق يربط بين الموضوعين.. كنموذج للفريق الأول، أورد د. أحمد شوقي كتاب إدوارد ويلسن عن (الطبيعة الإنسانية).. حيث يقول ويلسن في الفصل الأخير، حسب ما أورده د. أحمد شوقي: "يقول المؤلف في الفصل الأخير، وبعد استعراض معضلتين أساسيتين تواجهان الإنسان، هما: عواقب فقدان الثقة في الدين عند الكثيرين، كمحصلة للتقدم العلمي التكنولوجي بوجهه المادي الصارخ.. والثانية تتمثل في الحلقة المفرغة للخيارات الأخلاقية في ضوء احتياجات طبيعتنا الإنسانية، لأن هذه الخيارات نفسها محكومة بالطبيعة الإنسانية ذاتها.. ثم يشير إلى مشكلة ثالثة تتمثل في تقدم دراسات الوراثة البشرية، بالشكل الذي يسمح للإنسان أن يطور نفسه ويغير طبيعته الخاصة.. وتساءل: ماذا سنختار حينئذ؟ هل سنستطيع أن نحاكي صورة الكمال الوراثي الإنساني التي نتخيلها؟ أنه يشير إلى إمكانية التحسين الوراثي (اليوجينيا)، وإحداث انتخاب سريع عن طريق الاستنساخ" (10 ص 22).. كان هذا، في السبعينات من القرن الماضي، وهو يبين المدى الذي وصل له الخيال البشري، في تصور ما يمكن أن ينبني على الجينوم والاستنساخ من إمكانات، تسمح إلى حد يسمح للإنسان بأن "يطور نفسه ويغير طبيعته الخاصة"!! وعندها ينفتح الباب لكمال وراثي، جعل ويلسن يتساءل: "ماذا سنختار حينئذ؟؟ هل نستطيع أن نحاكي صورة الكمال الوراثي الإنساني التي نتحصلها؟".. فالكاتب يتصور أن هنالك كمال وراثي.. وأن هذا الكمال، يمكن أن يحققه الإنسان بنفسه عن طريق الاستنساخ!! المشكلة الأساسية لهذا التصور، والتصور العلمي، بصورةٍ عامة، هي أنه ينطلق من مبدأ أساسي هو أن طبيعة الإنسان، وجميع الأحياء، هي طبيعة بيولوجية!! ويمكن معرفة هذه الطبيعة، بل وتغييرها، عن طريق المعرفة البيولوجية، مثل تلك التي تعطينا إياها معرفتنا بالجينوم!! هذا هو الوهم، والخطأ الأساسي.. كون الإنسان ظاهرة بيولوجية، وطبيعته لا تخرج من المجال البيولوجي، هو الخطأ الجوهري، في تصور الحضارة الغربية للإنسان، ولطبيعته.. هذا التصور، يجعل الحضارة الغربية، بصورةٍ مبدئية، تبحث عن الإنسان في غير مظانه.. وبسبب من ذلك، هي لن تظفر بشيء ذي بال في معرفة الإنسان وطبيعته، مهما تطورت المعرفة بالنواحي البيولوجية. مشروع الجينوم، أثار الإهتمام بفهم الطبيعة البشرية، على اعتبار أن به _الجينوم_ تمَّ التوصل إلى (كتاب الإنسان) فبمجرد أن نستطيع قراءة هذا الكتاب، ومعرفة أسراره، نعرف أنفسنا، ونستطيع وفق هذه المعرفة، أن نطور ذواتنا، بل نطور كل الكائنات الحية!! تصور أن الجينوم، هو (كتاب الإنسان)، تصور شديد الخطأ، ويقوم على مبالغة في التبسيط، كما يقوم على مبالغة في رفع مكانة البيولوجيا، وربطها بقضايا، هي أساساً خارج أختصاصها!! في تعليق على كتاب ويلسن، نقله لنا د. أحمد شوقي يقول أحد القراء: "إن ويلسن يزيل كل هذه الأوهام العقيمة بالصورة التي يذكرها عالم الاجتماع فالفريد باديتو عندما يقول: (تمضي القرون، وتبقى الطبيعة الإنسانية على ما هي عليه) إن ويلسن يوضح في كتابه صحة رأي باديتو" (10 ص 25).. ويقول أحمد شوقي عن المعلقين على كتاب ويلسن: "إن المداخلات السابقة توضح قبول أصحابها لفكرة (ثبات الطبيعة الإنسانية المتجذرة في برنامجنا البيولوجي).." (10 ص 25). بغض النظر عن رأي أصحاب المداخلات، هل الطبيعة البشرية فعلاً ثابتة، ومتجذرة في البرنامج البيولوجي؟؟ـ الرأي الديني سنبينه في موضعه، وسنحصر نفسنا في الرأي العلمي. لقد تطور العلم بعد كتاب ويلسن، وزاد إتضاح الرؤية العلمية، فيما يتعلق بالجينوم، وأصبح هنالك نقد علمي، من المختصين، يبين بصورة جلية، خطأ ويلسن، وأصحاب الرؤية المشابهة لرؤيته.. مثلاً، أورد لنا مات ريدلي في كتابه (الجينوم السيرة الذاتية للنوع البشري)، موقفاً علمياً، يقول بعدم ثبات الوراثة، ما نصه: "إن التأثيرات الوراثية لا تتحدد عند الولادة، وإن التأثيرات للبيئة ليست تراكمية على نحو متصل فقابلية التوارث لا تعني الثبات" (11 ص 103). ويؤكد ريدلي أن الجينات لا تعمل وهي منعزلة، وإنما تعمل في علاقة مع بقية الجسد، ومتأثرة بالبيئة.. كما أن الجينات لا تعمل من ذاتها.. فهو يقول مثلاً: "إلا أن أي جين ليس بالجزيرة.. كل جين يوجد كجزء من إتحاد كونفدرالي هائل، يسمى الجسد.. وقد حان الوقت لنعيد تركيب الكائن الحي ثانية، وحان الوقت لأن نزود جيناً يتصف بأنه اجتماعي بدرجة أكبر.. جين وظيفته كلها، هي أن يدمج بعض من الوظائف الكثيرة المختلفة للجسد، حين يدحض وجوده ثنائية العقل/الجسم، التي تحط كالبلاء في صورتنا الذهنية عن شخص الإنسان، فالعقل والجسد والجينوم، تتماسك هي الثلاثة معاً في رقصة واحدة.. والجينوم محكوم بالأثنين الآخرين، بمثل ما هما محكومين به.. وهذا هو السبب جزئياً، في أن الحتمية الوراثية مجرد أسطورة.. ومن الممكن أن يكون تشغيل وإيقاف تشغيل الجينات البشرية، أمراً يتأثر بفعل خارجي واعٍ أو غير واعي" (11 ص 174).. ويقول: "يقرون ضمناً أن الجينات إذا كان لها دور، فإنها ستكون في القمة من تراتب الأدوار.. وينسون أن الجينات يلزم أن نضغط على زر لتشغيلها، وأن الأحداث الخارجية أو السلوك بإرادة حرة يمكن لها أن تشغل الجينات.. ونحن أبعد ما نكون قابعين تحت رحمة جيناتنا الجبارة.. وكثيراً ما تكون جيناتنا هي القابعة تحت رحمتنا" (11 ص 180). اما عالم البيولوجيا الخلوية: بروسي ليبتون، في محاضرتيه بعنوان: (البيولوجيا الجديدة: عندما يلتقي العقل بالمادة)، فيوضح الصورة، على نحو أدق وأوضح.. ففي بداية المحاضرة الأولى يرد على ما أسماه الاعتقاد الشائع الذي يقول لك: (أنت محكوم بالجينات)، ليبين خطأ هذا الإعتقاد ويقرر: "أنك لست محكوماً بالجينات في الحقيقة، وإنما (بتصوراتك عن البيئة) في واقع الأمر"!!.. وهو يورد أدلة علمية عديدة، لبيان صحة موقفه.. ونحن سنتناول بعضها في نقاط.. من أهم هذه الأدلة: 1/ الخلية يمكن أن تعمل بعد تدمير الحمض النووي DNA: يقول د. بروس ليبتون: "كنت أعمل في استنساخ الخلايا وما بدأت ألاحظه كان بسبب أن جزءً من تجربتي يتطلب تدمير الحمض النووي ومراقبة سلوك الخلية بعد ذلك.. الجانب المثير للدهشة كان يتمثل في إمكانية تدمير الحمض النووي مع استمرار الخلية في حياتها وسلوكها!! إذا كان الحمض النووي هو المتحكم في الخلية، فما الذي يتحكم في الخلية بعد ذهاب الحمض النووي؟ هذا ما قادني لكي أفهم الدماغ الحقيقي للخلية" (12 ص 2). 2/ البيئة تقوم بتركيب الخلية: يقول د. ليبتون: "أنت مكون من ما يتراوح بين 50 إلى 70 تريلون خلية في جسمك.. فأنت في الواقع (مجتمع) من الخلايا.. لقد كنت أقوم بإستنساخ خلايا الناس، وفي بعض الأحيان، كانت الخلايا تنمو وهي في قرص الزراعة، بشكل أفضل مما كانت تنمو داخل جسم الإنسان، وهذا يعني أن البيئة تقوم بتغيير تركيبة الخلايا" (12 ص 5).. ويقول عن البيولوجيا التقليدية: "الكل سمع (بأسبقية الحمض النووي) فماذا تعني؟ إنها تقول: بما أنكم عبارة عن بروتينات، فمن أين يأتي البروتين الخاص بكم؟ حسناً، أنه يأتي من الحمض النووي باعتباره خارطة الأساس.. الحمض النووي يستنسخ نفسه على شكل (حمض ريبي نووي) والنسخة المصورة تذهب إلى داخل الخلية، ثم تتم قراءة خارطة الأساس وتحول إلى بروتين. فإذا كانت شخصيتك تقع داخل بروتينات فمن أين يأتي ذلك البروتين؟ أنه يأتي من الحمض النووي.. إذن، وبناءً على ذلك، سيبدو أن شخصيتك قد تم تحديدها بواسطة الحمض النووي.. إذاً الاعتقاد بأسبقية الحمض النووي تقول بأن كل شيء عنك قد تحدد مسبقاً في خارطة الأساس (الحمض النووي)، فأنت لست سوى (قراءة) للحمض النووي. وعندما نقرأ موضوعات مثل هذه في مجلة لايف Life فأنها ستؤكد لك بأن تلك هي الطريقة التي ولدت بها.. الآن بدأنا ندرك أن ليس فقط تركيبتنا الطبيعية هي ما يبدو أن الحمض النووي من قام بتحديدها، ولكن سلوكنا كذلك!! أشياء مثل: العدوان، التوتر، السعادة، الإدمان على الكحول، السمنة، كل تلك الأشياء، يعزى السبب فيها الآن لأحد الأنماط التي اكتسبها الفرد.. فإذا بدأت تشعر بالمرض في وقتٍ ما، فسيقولون لك: (أتعلم إن لك موروثات هناك تتسبب لك بذلك).." (12 ص 18). هذه هي الصورة التقليدية، التي تجاوزها العلم.. ويرد عليها د. ليبتون، ومما قاله: "إن ما كنا نبحث عنه هو دماغ الخلية، وكما قلت، فإن لكل خلية على حدة، نفس الوظائف التي في جسمك.. ومثلما أن لديك أعضاء تقوم بوظائفك، فهنالك أيضاً داخل الخلية أعضاء مصغرة، تسمى (العضيات Oranells)، وهذا يعني أن الخلية جهاز عصبي، وهذا الجهاز العصبي هو مركز القيادة.. الجهاز العصبي هو الآن نواة الخلية.. لماذا؟ لأن البيولوجيا التقليدية تقول بأن النواة هي مركز قيادة الخلية فماذا يعني ذلك؟ لأنها حيث توجد الجينات.. وبما أن الجينات هي التي تتحكم بهويتك فأن النواة كمستودع لجميع الجينات، ستكون مركزاً للتحكم.. وهذا يقودنا للإستنتاج بأن النواة هي نظير الدماغ.. هل يبدو ذلك معقولاً؟ حسناً أستمعوا لهذا، لأن كل ذلك سيتداعى الآن.. أستمعوا إلى هذا السؤال البسيط والمنطقي: إذا قمت بإستخراج الدماغ من أي عضو حي، فستكون هنالك نتيجة طارئة وحتمية لذلك الفعل، ما هي؟ الموت. وها هي النقطة المهمة: بإمكانك إستخراج النواة من الخلية، ولكن الخلية لن تموت.. بإمكان الخلية أن تعيش لشهرين أو أكثر بدون أي جينات بداخلها على الإطلاق.. أنها لن تبقى قابعة هناك، بل ستتحرك، وستأكل، وستنمو، وستلتقي بخلايا أخرى وتتواصل معها، فتتعرف الخلية على السموم وستتجنبها.. وبعبارات أخرى، فإنني لم أحدث تغييراً في سلوك الخلية بأي شكل من الأشكال حتى بعد إزالتي لجميع الجينات منها ماذا يعني ذلك؟ فكروا معي بطريقة منطقية.. هل يمكن للجينات أن تتحكم؟ هل يمكن أن تكون بمثابة الدماغ للخلية؟ نعم أم لا؟ ونأتي الآن لهذا الجانب المهم، حيث أن مفهوم (انتزاع النواة) قد تمَّ العمل به في مستويات عالية جداً في علم البيولوجيا، ومن الواضح أن أولئك الذين يعملون به يعلمون أن الجينات لا تتحكم بالخلية.. ولكن لا بد وأن جميعكم قد سمعتم في وسائط الأعلام أن الجينات هي التي تتحكم بالخلية!! الخلاصة إذاً، هي أن الافتراض القائل بأن الجينات تتحكم بالناتج البيولوجي افتراض خاطيء.. ولكن ذلك يترك لنا تساؤلاً مهماً: إذا كانت الجينات لا تتحكم بالخلية فما الذي يتحكم بالخلية" (12 ص 19). 3/ يوضح د. ليبتون الاختلاف بين كلمتي (ارتباط) و (تسبيب)، فيقول: "الارتباط يعني وجود علاقة ما.. فالجينات لها ارتباط مع جسمك، تلك حقيقة.. أما (التسبيب) فهو (الفعل)، أو ما يؤدي لحدوث النتيجة.. الحقيقة هي أن الجينات لا (تتسبب) في أي شيء.. ولذلك فأن الافتراض المذكور هو افتراض خاطيء" (12 ص 19).. ويواصل فيقول: "إذا كان لديك خارطة أساس لمنزل، فهل هناك خاصية (فتح/إغلاق) في تلك الخارطة؟ الإجابة (لا)، لأن خارطة الأساس لا تفتح أو تغلق، ولكن من يفتح أو يغلق هو من يقوم بقراءة تلك الخارطة.. والنقطة هي: الجينات هي خرط أساس، وهي لا تحدد ما إذا كان سيتم قراءتها أم لا.. فما الذي يحدد القراءة إذا؟ والإجابة: الإشارة القادمة من البيئة" (12 ص 20).. ويقول: "أنت لست تحت سيطرة الجينات قبل وصول الإشارة إلى تلك الجينات من البيئة، والتي تؤدي لتنشيط عملية تفعيل الجينات" (12 ص 22). 4/ مما تقدم يتضح أن هنالك علاقة أساسية بين الجينات داخل الخلية والبيئة، وأن الإشارة الواردة للخلية من البيئة هي التي تنشط الخلية.. يقول د. ليبتون: "هنالك بيئتان تؤثران علينا جميعاً.. هنالك بيئة داخلية تحت جلدك، وهي بيئة لوظائف أعضائك: تركيبة دمك، درجة حرارة جسمك، كمية السكر في جسمك، كمية الغذاء المتاحة، المعلومات، تلك هي البيئة في الداخل.. ما هي البيئة الأخرى؟ هي البيئة في الخارج.. البيئة في الخارج هي التي تتحكم في ذلك.. لماذا؟ لأننا عندما نعيش في تلك البيئة، فأنه يتوجب علينا أن نكيف أنفسنا لكل ما يحدث فيها. ولكي نكيف أنفسنا فأننا نغير جيناتنا لتوائم إشارات البيئة، لأن إشارات البيئة تدفع الجينات للعمل. فأين إذاً يوجد دماغ الخلية؟ الإجابة هي أن دماغ الخلية هو غشاؤها، إنه الطبقة الجلدية للخلية" (12 ص 22).. ويواصل فيقول: "النواة هي القوة التناسلية للخلية لماذا؟ لأن وظيفتها هي صناعة البرامج وخرائط الأساس لإستبدال الأجزاء.. إذاً، النواة هي للتكاثر، وهي ليست الدماغ" (12 ص 23). 5/ ويواصل د. ليبتون، ليقول إن البروتينات تقوم بالحركة _تقوم بالوظائف.. ويوجد نوعان من البروتين في غشاء الخلية.. النوع الأول والمهم يعرف باسم (المستقبلات).. وهو مثل الحواس عند الإنسان.. فالبروتينات تتميز بوجود هوائيات في سطحها.. وأي شيء مختلف بالنسبة للخلية يكون له بروتين مختلف، وهوائي مختلف يقوم بإستقباله.. فهنالك مستقبل يتعرف على الأنسولين، وآخر على الجلكوز، وآخر على الضوء.. فكل شيء يمكن للخلية أن تراه يوجد له بالمقابل مستقبل داخل الخلية.. والمستقبلات، تستقبل الإشارة من البيئة.. وعندما يتم إستقبال الإشارة، لا بد من سلوك، سلوك معين كإستجابة لتلك الإشارة.. "عندما تأتي الإشارة يتخذ البروتين الإستقبالي وضعاً توافقياً معيناً، وعندما تذهب الإشارة بعيداً، يعود البروتين إلى الوضع الذي كان عليه.. أي أنه عند وصول الإشارة يقوم الهوائي (المستقبل) بتغيير تركيبته" (12 ص 25). الخلاصة: "الإشارات القادمة من البيئة الداخلية أو الخارجية، يتم تجميعها بواسطة المستقبلات.. أي أن المستقبلات تقوم بقراءة البيئة، سواء أكانت البيئة الداخلية أو الخارجية.. بمجرد وجود إشارة، ستكون هنالك إستجابة لها.. والسلوك هو (إستجابة)، والإستجابة تتم عبر وسائط بين البروتينات المتلقية والخلية، ومثال تلك الوسائط هو (بروتينات القناة). فالخلاصة إذاً هي أن الإشارات البيئية تُنتج سلوكاً.. فإذا أزلت الإشارات البيئية، فما السلوك الذي سأحصل عليه؟ لا شيء لا (سلوك).. وتلك نقطة مثيرة للإهتمام.. كما سبق أن ذكرت، أن بإمكاني أستئصال النواة من الخلية دون أن يتغير سلوك الخلية مطلقاً.. ولكن إذا أخذت الخلية وقطعت هوائياتها، فستصبح الخلية عديمة السلوك.. إذن ما هو السلوك الذي يصدر عنك؟ أنه إنعكاس للإشارات التي تتلقاها من البيئة" (12 ص 27).. يُسمي د. لبتون، إدراك الخلية للإشارة من البيئة بالإدراك الحسي، ويعني به (إدراك البيئة عبر الحواس الطبيعية).. وعلى ذلك أصبحت الأداة التي تتحكم بالخلية هي (الإدراك الحسي).. يقول: "هل أنت خاضع لسيطرة الجينات؟ كلا فالإدراك الحسي هو الذي يتحكم بك. والإدراك الحسي هو كيفية قراءتك أنت للبيئة، ومن ثمَّ تعديلك لسلوكك، لأن السلوك لو كان مرتبطاً بالبيئة، فستعيش بشكل متناسق مع البيئة.. أما إذا كان سلوكك منفصلاً عما يجري حولك في البيئة، فأنت تعيش خارج النسق، وهذا في الواقع يخلق مشكلة عصبية لك في كثير من الأحيان" (12 ص28).. ويتحدث د. ليبتون عن المجتمع، والإتصال بين وحداته والتكامل بينها، وهو يبدأ بمجتمع الخلايا في الجسد الواحد.. فقد رأينا أن البيئة عنده: بيئة داخلية، وبيئة خارجية.. يقول عن المجتمع: "عندما أنضم لمجتمع فسيصبح لعبارة (مجتمع) معنى، وهو يعنى (الإتصال)، أنه يعني (التماسك).. هذا يعني أنني وكخلية واحدة في المجتمع، لن أتمكن من القيام بما أود القيام به منفرداً، بل يستوجب علي القيام بما يتفق عليه المجتمع، وذلك جزء من الصفقة" (12 ص 28).. ثم يبين كيف تتواصل الخلايا في المجتمع.. ويقول: "الخلايا تعمل سوياً في مجتمع، وعندما يتفكك ذلك المجتمع تبدأ عوارض (المرض) في الظهور، لأن ذلك يعني أنه لسبب أو لآخر، أن الدعم قد توقف عن الخلية، وهذا يؤدي بدوره لانهيار المجتمع.. أن أي خلية لها دماغ.. وأي خلية يمكنها قراءة البيئة وتعديل طبيعتها بحسب رؤيتها.. ولكن عندما تنقسم الخلايا كمجتمع، فأنها تتنازل عن نظمها (الاعتقادية) الخاصة بها ـ أي نظام رؤيتها الخاصة للبيئة ـ لصالح (قيادة مركزية).. هذه القيادة المركزية هي الدماغ.. فالدماغ يحدد لكل خلية وظيفتها، بعد التنسيق مع جميع الخلايا ليحدد لكل خلية ما يتوجب عليها فعله حتى تعمل سوياً لتحقق النجاح للعضو الحي الذي تتبع له.. أذاً هنا يتدخل الدماغ فيما بين البيئة والخلايا" (12 ص 29/30). 16/1/18م
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة