بمغيب شمس هذا اليوم، تتدحرج الذكرى الثانية لرحيل الشيخ المُجدد حسن الترابي، من بين زوايا العُتمة، فلا الدمع يُكفكف آلام الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس يُخفف لوعة الفقد الجلل ، ولا التوقف عند محطات الذِكرى يمحو ما علق بالنفس من حُزن ولو بعد حين، فكل ما من حولنا يوحي بالذبول، حتى الكلمات تتحشرج فنستعيدها من قاع التردد لتبقى على خيط الحياة وكذلك تتجدد ذكرى الرحيل كل عام .!! الذين ذهبوا إلى ربهم لا يجزعهم الموت ولا تحضُرهم الذكرى، من يجزع وتلهبُه الذكرى بمشاعر الحزن هم المتعظون من الموت لغد آت لأن الراحلين قد انطفأت شموعهم في حياتنا، ويبقى ما خطوه من إرث (كثروة) الترابي الضخمة من الفكر والعلم والمعرفة، هو من يسعى بين الناس حضوراً بأنفاس الغِياب، وأمثال هؤلاء العظماء ذكرى رحيلهم تُعد أقوى موعظة وتعد إعلانا كبيرا بأن قطار العمر ماض، والأيام حُبلى، والقدر محتوم والموت آت لا محال. تذكرتُ شيئا قرأته لإبراهيم المازني وأنا أتدبر مسيرة الراحل الترابي، فقال المازني هذا الأديب الرائع الذي رحل وهو على مشارف الستين، وترك تراثا أدبياً جميلا يستحق المطالعة كلما كان في الوقت متسع، المازني قال في كتابه (قصة حياة) بعد أن بلغ الخمسين من العمر قال (وطال تفكيري بالموت، وخامرني خاطره، فهو لا يفارقني في يقظة أو منام، وإني لأحلم به وإن كنت بلطف الله أصبح ناسيا ما تراءى لي من الصور والأحداث في رقادي، وما غمضت عيني ليلة إلا وأكبر ظني أن أفقد نفسي فلا أعود إلى الشعور بها) وهكذا كان الراحل الترابي في أُخريات أيامه، كان يرى الموت في كل لحظة، ظل مُذكراً ومُوعظاً حتى في آخر جمعة في مسجد القوات المسلحة، بعد عقد قران لأحد إخوته، كان يخطب في المُصلين وهو مقبلاُ على الموت ، مهتم بالسودان وشأنه وجاء يردد( أريد أن أطمئن على البلاد قبل أن أموت). الترابي لم يسأم الحياة، ولا فتر عنها يوماً، ولم يكن عاجزاً عن مسايرة الدنيا والناس، و كان يحسُ بميقات الرحيل، بدنو الاجل لكنه مطمئن ومسرور بأنه ذاهب الى دار البقاء بإيمان عميق!! لم أر حيوية ونشاطا وقوة بدنية وعقلية، رغم تقدم السنين كما رأيتها في الشيخ الجليل، ودوماً كان مشغولا بإنفاق هذه الحيوية الزاخرة في هموم الناس يُفكر فيها بعقلُه وينظرلها بقلبهُ ويدير عينيه في الماضي، والحاضر، ويمد بصره في المستقبل ويرى انه يدلُف إلى النهاية! لا أشك لحظة أن كموت الترابي ورحيله، وتجدد ذكرى الرحيل كل عام تعظ وتُلين كثيرا من القلوب التي صارت بقَسوة الصخر أو الحديد، لا ذاكرة الموت تنفعهم ولا انحدارهم من قمة العمر لأسفله يوطن نفوسهم على بذل الخير أو كف الظلم والأذى، اليوم يتداعى كل محبي الراحل الترابي الذين فجعهم الرحيل بالأمس بغصة في الحلق، وانحسارا لمدد الرفقة في المسير الطويل، ليقفوا عن ذكرى رحيله الثانية، الترابي انطفاء لومضة نُبل إنساني، وإذا اجتمع في المرء النبل وحب الخير وكرامة النفس والوقوف عند الحق، فقد ترك الدنيا وهي أحسن مما وجدها، وفي هذا عزاء لنا وأي عزاء.... فكل ما خطرت على نفسي خواطر الرحيل، أو مرت ذكرى رحيله أيقن أنه ترك الدنيا أحسن مما وجدها، ووجدتني أجتر من ذاكرة الايام مواقف كثيرة للراحل الترابي، أستعيد عباراته الخالدة ، ومواقفه التي لا تُنسى، يمر بطيفي اجتهاده وفكره وهو الذي جمع بين الفكر و السياسة وأصبح من القلائل الذين دفعوا فاتورة الاجتهاد بلا نقصان، قد رحل عن الدنيا وهو زاهد فيها زائد عليها، ولم يكن زيادة عليها، وقد تركها أحسن مما وجدها، أضاءها بعلمه ومعرفته وجراءته المعهودة التي غابت عن رصفائه من علماء المسلمين ومفكريهم، فحينما تتجدد الأحزان كل عام، لا نقل إلأ... و طبت مع الخالدين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة