أسأل الله تعالى، له القبول والرحمة والمغفرة وحُسن مآب، فقد تُوُفّـِيَ في أوّل أيام عيد الفطر المبارك، الأحد، أول شوال1438ه الموافق 25 يونيو2017 عبدالقدوس الخاتم؛ وكان من كِبار المُساهمين في حقل النقد الأدبي السوداني. كتَب عدداً من المقالات النقدية في الأدب السـوداني، ونشرها أوّلاً ببحر سبعينيّات القرن العشرين، بالخرطوم؛ وهي مقالات مائزة، اتّسمتْ بنصوع موهبته الفنية في حقل النقد الأدبي (الثقافي) السوداني. ثم شاءَ القدرُ له، من بعد، أن يُغادر السودان (مُغترباً) إلى أوروبا، ومنها مباشرةً إلى إحدى دُوَل الخليج العربي. ليعود بعد فترة غياب امتدّت إلى ما يُقارِب رُبع قرنٍ من الزمان لعلّها.
في مارس 2010 تكرّم مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي – أمدرمان، بإعادة نشر تلك المقالات، في كتابٍ بعنوان "مقالات نقدية" قدّم له الناقد، الكاتب، المؤلِّف بنفسه/ المرحوم عبدالقدوس الخاتم، تغمّده الله برحمته؛ وكتب توطئة أفاد فيها بأنّه سعيدٌ بنشر مقالاته النقدية، وممتنٌّ لمركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، في اضطلاعه بهذا العمل. كذلك فقد أفاد، بأنّه سيدَع مقالاته على حالتها الأولى، بعُجرِها وبُجرها؛ مُضيفاً: (وقد يرى البعضُ فيها شططاً أحياناً، ولكنّها ثمرة الشباب)..إهـ .. ثم وَقّعَ بذيلِ التوطئة اسمَهُ وتاريخ ومكان كتابته: أمدرمان 2009م.
لكم أأمل أن أرفق امتناني بامتنان المرحوم، وأتقدّم بوافر آي الثناء لمركز عبدالكريم ميرغني الثقافي – أمدرمان؛ على اضطلاعهم بهذا النشر الثقافي الرائد، والوطني في آن؛ إعلاءً لِقِيَم التنوير ونشراً لفضائل العِلم والمعرفة بين السودانيين. في ظلّ جانبٍ رسميٍّ خامدٍ قاتِم..! لم يُبرِز يوماً – ولو – أدنى اهتمامٍ بنشر المعرفة والتنوير بين الناس، هُموا في حاجّة ماسَّة إليهما، هذا إن لم يكن أكثر خام هذا الخمود، مدعاةٌ لإغلاق منافذ الفكر، وإطفاءٌ لشموع الضوء؛ ذاك الذي بزغ في وطننا من قديم. ثم لمّا لم يجد اهتماماً من أُولي الأمر الثقافي بالوطن، تبدّد سريعاً في الهوى الغلّاب. أو يكاد أن يتبدّد في شِعاب أودية التفالحات السياسية والثقافية والفنّـِية والرياضية والصحافية والـفضائية الفضوائية السّائدة..! تلك التي أشاعتْ في البلاد من أدناها لأقصاها، ثقافات غريبات دار، بل قل غريبة وجهٍ ويدٍ و لِسان، ظلّت تُعين الشرور علينا، وتمنعنا أن نتنفّس "هواء" هُويّتنا المفَضّلة عند غالب شعبنا. ذلك أننا لم نرعَ للنقد والنُّقّاد فينا، إلّا ولا ذِماما.
كتب المرحوم الناقد، عبدالقدوس، رؤاه النقدية الرصينة، ولا تخلو من حَرارةٍ لها وَهَج، حول العديد من النماذج الإبداعية لأكابر مُبدعي الأدب السوداني، تلك الأيّام، في حقوله المتعددة من شِعر، قصة، دراسات أدبية إلخ,,, وقد حَمَل مِشكاةٍ له أشبه بــــــ" الماشـَّة " مُسَلــّـِــطاً حراراتها المُنضِجَة على بعض أعيان المنتوج الإبداعي. لاؤلئك الذين رأى أنهم - فيها - قد أخطأوا النّجعَة، أو ضَلّوا الطريق أو ربما أساءوا الصِّـنْعَة. ذلك مع احتفاظِه ذات الآن، بذائقة إبداعية مُتَميّـِــزَة، تسمو بالعدل فتجهر بالحقّ، لا تخشى فيه لومة "فاضي" أو "قاضي"..! وَ تمكّنه ألّا يتمادى في الإقرار وسريعاً، متى ما كان للمبدع ال منقود بعضَ أعيانِ منتوجِــه، فتحاً إبداعياً يسمو بالذّائقة الأدبية العامّة، ثم يكون له ما وراءه من مُجتَنَىً يصُبُّ في بحر العموم.
النقدُ، من ثقافي لأدبي، هو عِلمٌ وَ فنٌّ وموهبةٌ وصقلٌ ضروريٌّ جداً. في سيرورة المجتمعات إلى مراقي المعرفة الحاضّة، إلى بلوغ الحقّ والخير والجمال. وقد ارتبط العِلم النقديّ في قديم نشأتِه بالحِدَّة النظرية والتطبيقية. ذلك أنه يقوم على الفحص والاختبار؛ بل ويتوسّل بالتقويم والتقييم. ثم يمنح إجازاته في المُنتَهَى، للمنتوج الإبداعي الجيّد وَ القابل للزيادة والنّماء، ويمنع ذات الشهادات عن المنتوج الإبداعي الضعيف المرزوء..! يدحضه ويُفنّد نواقصه حتى لا يؤذي الناس فيزيد من حالة التـّـَــوَهان.
وحيث أن ذيّاك التعاطي الثقافي في حقل النقد الأدبي والثقافي عموماً، يتمُّ وِفقاً لقواعد وتقنيات مُتَّفَق عليها من جانب شريحة قطاعية كبيرة، فقد ازدحم حقلُ النقد بالمعارك وتكاثرت فيه زعازع الخصومات بين المبدع والناقد، وأحياناً بين أنصار هذا ومُحَالفِي ذاك. وقد لا نستغرب طبيعية التعارك في مجال العمل النقدي..! إذا ما تذكّرنا خلافية فيلسوفـَـيـْن حكيمين إغريقيِّين كــ "أرسطو" الذي يقول بــارتباط الشـِّعرِ بالبهجَة والإنشراح؛ بينما لا يرى فيه "أفلاطون" إلّا كونِه دَنَساً وأكاذيب لا نفعٌ فيها. وبصرف النظر عن تنازعات تلاميذ الحكيمين في ذاك العهد الموغل في القِدَم، إلّا أنّ القارة العجوز أوروبا قد شهِدت انقساماً في عدد من بلاطات حُكمها وتياراتها السياسية، الإمبراطورية في عهدها القديم حوالَى القرن السادس عشر الميلادي، جرّاء الاختلاف الأرسطو- أفلاطــونيّ حول طبيعة الشـِّعــر (واعظِم به من إبداع يهزّ العروش) أو - على الأقل - على هَديِ عُلالةٍ نارِه من اختلافٍ رؤيويٍّ سحيق.
ختاماً، ومع ثنائي الكبير على جهود الأخ الصديق، الصادق عبدالله، ولفيفٍ من الأصدقاء الزملاء بمنبر عام سودانيزأونلاين، ينعون ويؤبِّنون الراحل عبد القدوس الخاتم، بل ويحيّون ذِكراه بنشرِ البعض من مُساهماته النقدية الرّصينة في تأتٍّ هُمام، فإنني لأرجو، بل وأعمل بمشيئة الله تعالى، ألّا يكون مقالي هذا في الترحّم على روح الفقيد الراحل، مقالاً فرداً، بل له توالٍ أعرِضُ فيها نقاطاً تعليقية على مُساهمات للناقد الذي رحل عن دُنيانا، في يوم عيد .. فاللهمّ يا إلاهنا القدّوس، ارحَم عبدك عبدالقدّوس، وتولّاه برحمتك ومغفرتك.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة