دوقلاس جونسون. الأسباب الجذرية لحروب السودان الأهلية. دار جامعة إنديانا للنشر، بلومنقتون، 2003. نشرت العرض في المجلة العالمية لدراسات التاريخ الأفريقي، 37، 3، 2004.
(في سياق نقاشي حول فساد مفهوم العقل الرعوي كتشخيص لمحنتنا المشاهدة رأيت إشراك القراء في قراءة هذا الكتاب الذي نظر لمتاعبنا من زاوية الزعزعة التي ضربت الرعاة في ظل حوكمة سودانية قال إنها تاريخية اثقلت فيها المدينة على الريف فردوا عليها بالتمرد. ومهما كان الرأي في تحليل جونسون فهو تشخيص مداره تدافع الناس حول مصالح مادية مشاهدة لا تهويمات في منشأ جينات العقل رعوي وغير رعوي. علاوة على توطينه مسألة الهوية في هذا التدافع لا كما يزعم البعض أنها طبع في الأرومة وبرمجة سابقة لديناميكية كسب العيش).
هذا واحد من أكثر الكتب التي قرأتها رصانة في تناول نزاع جنوب السودان. فخلافاً لمعظم الدارسين الذين يتعاطون مع الحرب الأهلية الدائرة في السودان كواقعة مقززة إنسانياً، فدوقلاس جونسون يقبلها بوصفها حقيقة وتاريخاً مستذكِراً الحرب الأهلية الأمريكية "حرب العشرة آلاف واقعة مزرية" كما قال. ولتمهيد الأرض لنهجه المختلف المعتدل تجده يؤاخذ الإعلام ولوبيات حقوق الإنسان والأكاديميين. فمن رأيه أن الصحفيين يغطون حرب السودان بمفهوم عودة أهله إلى حالة التوحش الأصل فيهم التي بالكاد غادروها. أما لوبيات حقوق الإنسان فهي رومانطيقية وأسيرة مثال للعدالة مجرد ومطلق معاً. والاكاديميون، من الجهة الأخرى، يكتبون تاريخ السودان من زاوية المؤسسات المركزية وأفقها الشمالي المسلم فيسفلون ببقية القطر ليبدو هامشاً غرائبياً. ويسقط أول ما يسقط بفضل نهج جونسون الفهم المفضل المقدس الطاغي بأن نزاع السودان ناجم عن مواجهة قديمة بين الثقافات التي في الدم، وتجري مجراه، كما تجسد في نزاع بين العرب والأفارقة. خلافاً لذلك يزكي جونسون بأن جذر النزاع مما يمكن البحث عنه بصورة أوفي في تقاليد الحوكمة في البلاد التي سماها "الدولة السودانوية". فأول من أنشأ هذه الدولة الأتراك في 1821 وظلت تعيد إنتاج نفسها على مر السنين تحت حكام أجانب أو وطنيين. لا فرق. فهذه الدولة الضرائبية المستغلة في الشمال تبدأ بإفقار شعبها المسلم الذين يعوضون عن خسائرهم بتحميلها أهل الهوامش. فدولة النميري استثمرت في الزراعة الآلية في كردفان ودارفور مما سارع بزعزعة الرعاة والمزارعين المحليين اقتصادياً واجتماعياً. ورمى هؤلاء المزعزعون من البقارة مثلاً بثقلهم على أهل الهوامش الأبعد في جبال النوبة والجنوب ينازعونه الموارد المحدودة. ومن رأي جونسون أنه حتى البنك الدولي وصندوق النقد العالمي متواطئان في شغل الدولة السودانوية بتمويل الحكومة في مشروعاتها التنموية الحداثية. فحتى تجدد ممارسات الرق في سياق الحرب الأهلية مما يعزوه جونسون إلى إفقار البقارة الذين عوضوا عنه باسترقاق الجنوبيين. فبأخذ البقارة للأسرى الجنوبيين يعزز البقارة قوة العمل لاقتصادهم ويتربحون من التجارة في الرقيق. يضع جونسون الحوكمة، لا سياسات الهوية، في مركز أي تحليل ذي مغزى لمسألة الجنوب الشائكة. ولا منجاة لأحد من مثل تحليله. فلما أعلى من الحوكمة على ما عداها استرد الفاعلية الجنوبية، أي إرادة الجنوبيين في ما هم فيه. وهذا خلاف دراسات شائعة استبعدت هذه الفاعلية وصورتهم كضحايا خاملين للشمال المسلم. وسيرحب أول من يرحب بهذا التحليل المستجد للإرادة الجنوبية ثوار الحركة الشعبية الذين هم أقرب من حبل الوريد لتولي مسؤولياتهم في الجنوب بعد اتفاقية السلام في 2004. ولا يتردد جونسون في مسار تحليله أن ينقد الحركة الشعبية متى استحقته بمنظوره المستجد. فهو يرى أن تبني الحركة حرب الغوريلا، وهي التكتيك الثابت لأجيال من القوميين الجنوبيين، مردود إلى فشل ساساتهم المدنيين في رعرعة رؤية للجنوب تنهض بهم للتصدي سلمياً لحيل الشماليين وتلاعبه بهم. وخلافاً لصفوة الجنوب فجونسون لا يلقي بكل اللوم على نميري في هشم اتفاقية أديس ابابا (1972) كحلقة في المسلسل المعروف ب"نقض العهود" الشمالي. فكثير من تدخل نميري في سياسة الجنوب، الذي أودى بالاتفاقية، تم بمرضاة قادة الجنوبيين ومساهمتهم. فانقسامات اولئك القادة مكنت لنميري منهم ليملي إرادته. وزاد بأن نميري ربما امتنع من كثير من تطفله على شأن الجنوب والإطاحة بعهد أديس أبابا لو لقي من يلجمه في الجنوب. وليس في تحليل جونسون لمسألة الجنوب بالنظر إلى الدولة السودانوية مما يستوجب استغراب الحركة الشعبية لو تمسكت بميثاقها الأول في 1983. فقد حلل الميثاق مشكلة الجنوب كأثر من آثار النمو غير المتوازي الاستعماري: فطَوّر الإنجليز الأمكنة التي طالوها لمنفعتهم وأهملوا ما عداها لضعف المردود الاقتصادي. وبالطبع فاقم الوطنيون من المناطق التي أخذت بنصيب من تنمية الاستعمار، والذين ورثوا الدولة الاستعمارية، من هذا النمو الأخرق. ففي بيانه لمظالم الجنوب قال الميثاق إنهم ضحايا لذلك النمو غير المتوازي، بل هم الضحايا الأشد مصيبة. ولذا رأى الميثاق أنه، لرد الأمور إلى نصابها، وجب إعادة صياغة الدولة المركزية في الخرطوم بقيام نظم للحكم الذاتي أو الفدرالي في بقاع الوطن المختلفة بالتزام المركز بحرب العنصرية. وفي هذه العودة إلى تحليل الحوكمة كالجذر الاول في أزمة الجنوب ما بالوسع وصفه برد الحركة الشعبية إلى ماركسيتها الأولى على عهد ميثاق 1983. فمنذ ذلك الميثاق، الذي كانت مسألة الحوكمة لبه، جنحت الحركة الشعبية إلى تبني سياسات الهوية كجوهر تظلماتها والباب إلى حلولها. هذا كتاب جاء وقته. فنظراته النافذة، التي هي ثمرة معرفة وثقى بسياسات القوميين الجنوبيين، مرشحة لشفاء وطن يقترب من بعضه بعد طول هجران بفضل اتفاقية السلام. ومن المطمئن أن نعرف أن بيننا ما يزال من يحسنون إصابة التحليل بعد حرب أهلية طويلة جعلت دارسي المسألة طوائف وشيعاَ متخندقة مثل المتحاربين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة