لو لم يلق ربه مجمداً من برد القاهرة على رصيف دار القضاء لكان المرحوم محمد أحمد سليمان (لوكا-دكه) بين ظهرانينا لاجئاً سياسياً موطناً في الولايات المتحدة: يمشي في طرقاتها ومولاتها. فقد كان تقرر ترحيلة إلى أمريكا في ديسمبر من العام المنصرم. ولكن تأجل السفر. وحصل القدر. ولا يغلى على ربه. كنت عزمت على تقطيع حزني عليه في حشاي برغم أنه لا يموت كل يوم سمكرجي شيوعي مثله. فلا يعرف أحد مهما أدعى كيف يخرج علينا رجال مثله ونساء أندر من الكبريت الأحمر (والجناس غير مقصود). قال راثيه عن هذا السمكرجي الشيوعي: "بدأت أسئلة الحياة تضج داخله. آفاق جديدة وجرئية تفتحت كأزاهير الربيع داخله ليقرر ذات صحو نبيل الالتحاق بصفوف الحزب الشيوعي السوداني". وصار من يومه في "عمر طويل (وهو قصير بالفعل) من العدو". إن لأمثالي من نذروا عمراً للطبقة العاملة السودانية نشيجاً استثنائياً على موت رفيق منهم لا نعرف كيف رزقنا الله به. إنتظرت العزاء فيه من جيله كما توقعت لينتهي عند سوءة الإنقاذ. هذا ما أسقمنى في فقدنا لبهنس الذي أخذه منا شتاء القاهرة في العام الماضي. وصار هذا الشتاء مثل الأتبراوي له في كل فيضان غريق عريس. ولم يصدق مثل من وصف موت عرسان هذا الشتاء الكناني ب"نفوق" الحيوان. ولكن لم أطق صبراً على التكتم بعد أن قرأت بياناً لفرع تجمع شباب السودان الحر بالقاهرة يجرم الإنقاذ التي شردت شباب السودان في الآفاق ينفقون على الأرصفة الباردة. وأزعجني أن كاتب بيان الفرع الشبابي في القاهرة لم يطرف له جفن وخذ أو تبكيت وها هو شاب آخر ينفق في نطاق مسؤولياته السياسية. وبدا لي إن التذرع بالإنقاذ مجرد قناع لنمنع تسرب الخجل على الوجوه. والخجل عاطفة ثورية ومن تفاداها غش . فليس منا. للأجيال من بعدنا صوت عال في الترويج لسوءة من سبقوها. ولها صدام حسن مع الإنقاذ وتضحيات. ولكن بدا لي أن خطابهم وصدامهم قد حجبا عنهم لوم النفس وحسابها. فكيف يعيد النفوق الصقيعي عند دار القضائية نفسه. ويأخذ السقط مناضلاً وسيماً آحراً كبهنس له عرق قوي في الثقافة ثم لا يسأل أحد كيف لم نستبق إلى ترتيب زمالي يأوي إليه من تقطعت بهم الأسباب في القاهرة؟ تتزاحم مكاتب الأحزاب والحركات في القاهرة ولها رأي في كل شيء سوى الزمالة الحقة الماجدة: كم يكلف إيجار شقة بسطوح الدرب الأحمر يلوذ إليها من سُدت الأبواب الأخرى في وجهه. رطب نفسي من عيب الجيل من بعدنا أنني قرأت في أيام مقتل لوكا-دكه عن اجتماع الشباب يحيطون بحمدي بدران، من المنظمين لمبادرة شارع الحوادث شندي، خلال العملية الجراحية الحرجة التي جرت له. ورأيت الوجوه المشفقة عليها طابع العرفان السوداني للزمالة والنبل والمبادرة. ولطّف من حرائق النفس ما قرأته عن مبادرة ذو اليد سليمان بإنشاء مكتبة بكتم التي لم نسمع من جهتها سوى صليل الموت وصهيل الرصاص. وأسعدني شباب رفاعة يحتفل بسنوية الفنان وقيع الله بمعرض للزهور ضمن دورة مهرجانية ثقافية كاملة. وقواني على التفاؤل ما كتبه السر سيد أحمد عن التنمية المحلية الذكية بقرية ود بلال أو الأخرى بقرية حلة البئر من الجزيرة المروية. وهدأ خاطري. يا شباب المهاجر ومن في طريقهم إليها حبوا شيئاً بجانب كراهيتكم الغراء للإنقاذ، حبوا بعضكم. فليس من حسن الزمالة ولا المعارضة أن ينتهي عزاء رفاق لكم مثل بهنس ولوكا-دوكا عند نذالة الإنقاذ. سأل من رثى لوكا-دوكا بقوة: كيف أغمض عينه ذلك اليوم؟" ليس لدي الشجاعة حتى لأحدس.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة