في مثل هذا اليوم من قبل اثنتي عشر عاما (11/4/2006) انتقل أبي رحمة الله عليه إلى الرفيق الأعلى . توفي بالخرطوم التي جاءها مستشفيا ، لتلحق به أمي بعد أكثر من عشرة أعوام مستشفية بذات المكان ، وينضم إليهما قبل أيام العم خلف الله في الخرطوم نفسها ، فأضحت الخرطوم بحق "مقبرة الأسرة" .
نحن مدعوون لذكر محاسن موتانا ، ولكن ينبغي ألا نضخم تلك المحاسن أو نختلقها ، ويمكننا أن نغض الطرف عن العيوب ولكن لا يمكننا أن نمحوها . كان أبي ـ رحمة الله عليه ـ من نوعية الآباء الذين يسهل التعامل معهم ، لم يعاقبنا في طفولتنا سوى مرات قليلة جدا .
رغم أن تعليمه اقتصر على الخلوة إلا أنه حرص على تعليمنا حرصا شديدا . رياضيا كنا هو وأنا متوافقين إذ كان مريخابيا أيضا ، لذلك كان غريمي في الجدالات الرياضية هو أخي الأكبر جمال .
لكننا كنا أبي وأنا مختلفين سياسيا ، فقد كانت الفكرة الجوهرية الراسخة عند أبي أنه ضد الطائفية وأحزابها ، رغم أنه ترعرع في قرية البركل حيث الولاء التقليدي للختمية . الفكرة الجوهرية الثانية عند أبي أنه كان معجبا بالعساكر ، فقد أعجب بـ جمال عبد الناصر إعجابا شديدا لدرجة أنه أسمى ابنه البكر "جمال" تيمنا بعبد الناصر ، رغم أنه لم يكن قوميا عربيا . ولما تمت ولادتي في أبريل 1970 بعد نحو 11 شهرا من ثورة مايو ، أسماني "جعفر" تيمنا بجعفر نميري ، رغم أنه لم يكن يساريا . وعندما بدأ يتشكل وعيي الشخصي وجدت نفسي ضد جعفر نميري وانقلابه . وأظن أن ولاء أبي لنميري قد تقلص مع مرور السنوات .
وقد كان بيتنا يعج بالتباين السياسي غير الحاد ، ففي انتخابات 1986 صوتت أمي لصالح الحزب الاتحادي الديمقراطي ربما تأثرا بأعمامها الذين عادوا للحزب الاتحادي بعد أن توحد وكانوا قد تمردوا عليه مناصرين للأزهري ، كانت أمي أقرب إلى أعمامها من أبيها الذي أفنى عمره منظما في الحزب الشيوعي ثم الحزب الشيوعي القيادة الثورية . وصوت أخي جمال لحزب الأمة ربما معجبا بالسيد الصادق المهدي وقتذاك . أما أبي فقد صوت للجبهة الإسلامية القومية ، إذ أن رفضه للحزبين الكبيرين كان بائنا بينونة كبرى . وقد كنت أنا أقل من سن التصويت بعامين . ولم يكن أي من أفراد أسرتنا الصغيرة منظما سياسيا .
ولما حدث إنقلاب الإنقاذ أيده أبي ، إذ ظل يرى أن مخرج السودان من أزماته في أن يحكمه عسكري ود حلال ، وقد شهدت مرحلة ما بعد الإنقاذ نقاشات حامية وغلاطات كثيرة بيننا . ولم نكن دوما صائبين ، مثلا كنا نكذب الإنقاذ بأنها ستستخرج البترول وكان يرى أنها ستفعل وقد كان الحق معه . وقد تقلص تأييده لعمر البشير مع مرور الزمن .
كان الوالد خضر يعمل تاجرا بحي ديم النور بمدينة القضارف الذي يحظى بتنوع إثني فريد قل أن تجد له نظيرا ، والذي يجدر به أن يعتبر ليس سودانا مصغرا فحسب بل أفريقيا مصغرة، كان دكانه في المنطقة المقابلة لكلية التربية الحالية قبل تخطيط الحي ، ثم انتقل بعد التخطيط إلى منزلنا الحالي ، كما كان يعمل مزارعا صغيرا بمنطقة القدمبلية التي له فيها مائتان من الأفدنة ، قبل أن يهجر الزراعة ثم يهجر التجارة في أخريات عمره .
إن الميزة التي مات أبي دون أن يُدرك أنه تميز بها طوال حياته هي: أنه كان عديم العنصرية! إذ أنه لم ينتقص من قدر قبيلة قط ، لا جهرة على الملأ ، ولا أسر لنا بها في ونساتنا ، ولا أفلتت منه في غلاطاتنا الكثيرة . وإنني لم أنتبه إلى هذه الميزة عند أبي خريج الخلوة إلا مؤخرا عندم انتشرت هذه الأمراض عند الشباب وخريجي الجامعات حتى أصبح البعض يظن بالناس الظنون .
اللهم أنت تعلم أن أبي لم يكن ينتقص من قدر أحد من خلقك فبهذه وجاه سيدنا محمد أرحمه وأدخله الجنة دون حساب ولا سابق عذاب .
نسأل الله لوالدكم الرحمة والمغفرة والجنة ، وهل هناك مزية أعظم من سلامة القلب وترك الخلق وشأنهم وعدم التفريق بينهم على اساس النوع واللون والجنس اللهم أرحمه انه كان رحيم بعبادك ويخافك فيهم
04-12-2018, 07:19 PM
جلالدونا
جلالدونا
تاريخ التسجيل: 04-26-2014
مجموع المشاركات: 9412
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة