ليس غريبا ان تؤول الاوضاع في بلادنا السودان لحالة جمود وإحباط يغذيهما إحساس كئيب بان كل الشعارات قد رفعت و كل المعارك قد خيضت، وكل المجهودات قد بذلت دن بلوغ المأمول. ذلك هو الإحساس الذي جثم على ذهن ومشاعر الإنسان السوداني اليوم، فالنضال من اجل الحرية والتغيير لم يعد سوى مصطلح يثير السخرية والتهكم، والذين ما زالوا يؤمنون بالحرية والتغيير اضحوا بلا عنوان و بلا شعار. لم يعد يعنيهم بل لم يعد يحتمل الواحد منهم ملامح التهكم التي تبعثها تسمية مناضل او مناضلين، في زمن خلخلة المفاهيم و فوضى التسميات، فلعلنا ندرك ان تخلق المفهوم في الاذهان اشد عسرا وتعقيدا من علوق التسمية بالذاكرة، فالذاكرة المفاهيمية تتغذى من العقل الناقد، بيد ان الذاكرة الحافظة تستمد من الذاكرة المفاهيمية مجرد تسميات لكينونة تشكلت واكتسبت صورتها الكاملة في العقل. الذي حدث ان خلخلة منهجية شديدة وأدت مشاريع بناء المفاهيم الجديدة و مراكز الذاكرة المفاهيمية القديمة فاصبحت كل المصطلحات والتسميات المحفوظة مجرد كلمات مفرغة مشوشة و مشوهة احيانا، فأختبأ حينئذ كل جيل العاملين " كي لا نقول مناضلين" وخفتت نبرة صوتهم في تماهي قسري مع موجة الإحباط العاتية، ظنا منهم بأن على قلوب الشعب أكنة و في آذانهم وقرا أن يفقهوا او يتذكروا في الحد الادنى ليس إلا. مصطلحات التغيير والنضال والحرية اضحت مرادفة للتجاهل والتهكم والنسيان من فرط استهلاكها من قبل الذين لا يعنون ما يقولون، قرأت كتاب شرعية السلطة في العالم العربي، للكاتب الصحفي احمد بهاء الدين، فوجدته قد اختط بيده في الصفحة الاولى بضع عناوين: معنى القانون. معركة حقوق الانسان. المسلمون متخلفون عن الاسلام. إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي. العالم كله ضد الوحدة العربية. المثقفون والسلطة. هذه العناوين الصغيرة كادت تصرفني عن متابعة القراءة لو لم احمل نفسي على ذلك بالعزم، كون هذه العناوين قد اختزلت كل ما يمكن ان يحتويه الكتاب او غيره من الكتب و قالت كل ما يمكن ان يتفوه به البشر اليوم عندنا او عنا... فلو قفزنا لقوله " إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي" سنجد ان واحدة من آفات عالمنا العربي والاسلامي تكمن في تاريخه الذي بين يدينا، وإعادة قراءة ومن ثم كتابة هذا التاريخ مثلت ضرورة حتمية في ازمنة التعرف على الذات وتمييز الهويات، أما و قد اصاب الإنسان ما اصابه من اللا مبالاة و الإحباط فلم يعد يسيرا اقناعه بأهمية إعادة كتابة التاريخ على نحو جديد، فهو لم يعد معنيا بقراءته... هنا يمكن ان نقفز للعنوان الاخير دون حاجة للمرور بالنقاط الاخرى: "المثقفون والسلطة"، جدلية المثقف والسلطة، تمثل اهمية مفتاحية في استيعاب حالة الدوران حول الذات التي استهلكت المثقفين، واصابتهم بالتشويش الشديد، فهم لا يستطيعون النظر لأنفسهم من الخارج، كما لا يمكن إصلاحهم من قبل أي فئة من خارجهم، و هم يقيمون – بوعي- حائط الصد بين المواطن والسلطة، و هم يمثلون جسرا طبيعيا وترجمانا بين المفكرين الكبار وبين طوائف الشعب وعامته بوعي ايضا... لا يظنن احد ان الجميع قد وصلوا لهذه المرحلة بشكل متزامن، ذلك غير صحيح. حالة الجمود والسلبية التي اعترت الشارع السوداني قد تعود جزئيا للحالة الاقتصادية التي يظن البعض انها كفيلة بإحداث حالة انفجار وثورة عارمة، ذلك لم يحدث ويصعب حدوثه في الحالة السودانية الآنية لو تحلينا بشئ من الموضوعية في تتبع نسق الحياة اليومي لدى السودانيين، كظاهرة زحف الريف على المدينة بحثا عن حلول، والقادمون الجدد للمدينة يكتفون من الحياة بأقل من الكفاف، و يرضون من فقر المدينة بما لا يتصوره عقل، ناهيك عن تكثيفهم للعدد و تخفيفهم للنوع، ما يبدد مجهودات القلة المدنية، والخلل – في ظني – يكمن في اتساع الهوة بين جماهير الامة من جهة وبين مثقفيها، وبين مثقفي الامة واحزابها والعاملين السياسيين والسلطة، بالإضافة لمحالولات التدجين والتطويع المنهجية التي تمارسها السلطة على المثقف وحالة التماهي والرضوخ و الإسترزاق من قبل طيف عريض من المثقفين الذين عكفوا على تقديم خدمات رخيصة للسلطة... ظنت طائفة المثقفين القابضين على الجمر ان كل شئ قد قيل وان كل شعار قد رفع وان كل طريق قد جرب، وان الاشعار والكتابات الفنية والرسومات الرمزية كلها تحولت للبواح و اتيح لها من وسائل التواصل ما لم يحلم الناس بربعه في فترة ما قبل الاستقلال وبعده لكن الناس لم يعودوا هم الناس! في الواقع ان المثقف السوداني قد بلغ هذه المرحلة وهو يحاول استيعاب واحتواء كل أللاعيب السياسة و إلتواءاتها دون المواطن وقد تمظهر بكل صوره الفكرية في سبيل مقاومة مشاريع القمع والفساد السلطوي والفشل الحزبي لكنه فشل في مجتمع غارق في الصوفية والدروشة والتقاليد الرجعية فلم يعد لديه وسائل، لكنه ظن ان لم يعد لديه طرح... فالطروح القديمة لم تحظى بوسائل و أدوات مناسبة فذهبت أدراج الرياح و لسوف تذهب كل الطروح التي نظنها جديدة في ظل تخلف الوسائل و الادوات، اذ لم يزل المواطن السوداني غارقا في اوهام بعيدة في ذروة ثورة المعلومات ولئن عبر ذلك عن سؤ فهم مقصود بين السلطة والمثقف، فإنه لا محالة يعبر عن فشل المثقفين في فهم شعوبهم دون قصد، فوصل المثقف المحطة الاخيرة دون ان يبلغ غايته ظانا بان الشعب قد وصل معه لذات المحطة بينما الشعب ما يزال يراوح في المحطات الاولى وقد استنزف وقتا طويلا ظانا بان مثقفيه معه في ذات الوحل فعبر ذلك عن الهوة الحقيقية بين هؤلا وهؤلاء وفي هذه الاجواء الفصامية يمكن للسلطة الغاشمة ان تتمطط وتتمدد حد الملل و أن تعيد انتاج ذاتها وفشلها، فتدور الامة كلها في دوائر مفرغة. فالمثقفون في دور الفكر يكونون طبقة، والحكم واهله يكونون طبقة اخرى، والشعب طبقة معزولة، فتتكون بذلك طبقية اخرى غير تلك التي اهدر الماركسيون اعمارهم في دراستها ومنافحتها. لا احد من هؤلاء يملك القدرة على التواصل مع الاخر، وتبقى طبقة المثقفين هي الطبقة الوسيطة التي فشلت في إيصال صوتها للحكومات في غياب دعم المواطن، وهي من قبل قد فشلت في اقناع المواطن ورفعه لمستوى الحدث كي يقف معها. المهمة هنا مهمة مثقفين والمحنة محنة مثقفين، اكتر من كونها مهمة حزبية او مهمة نخب سياسية لان النخب السياسية تحركها مصالح و اعتبارات سياسية يسمونها البراغماتية تتغير معها المفاهيم و المبادئ والتحالفات اما المثقف الملتزم فلا يمكن ان يراوغ او يساوم ... عبدالله عبدالعزيز الأحمر روما- ايطاليا 9 سبتمبر 2016
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة