لم أعرف لمَ وجد منصور في ندوة الشارقة في أبريل المنصرم في عقائد المحجوب في الثلاثينات في أن هوية السودان الغالبة عربية إسلامية في السودان مدعاة للهزء على اتفاقه معها بحذافيرها كما رأينا في الحلقة الماضية. بل وجدنا تعبيره عن نفس هذه العقائد، خلافاً للمحجوب، صخّاباً مجلجلاً بليغاً كعادته حين تحمله موجة عقيدة أخرى إلى نور جديد. وقلت في ما مضى أن منصور لم يقف بيننا في ذلك اليوم محاضراً يبتغي حسنها. فلو رغب في ذلك لقضى مبدأ الشفافية في البحث وطلب الحقيقة منه أن ينسب نفسه للمحجوب كابراً عن كابر. وأن يبكي على خطتهما في الهوية التي أقعدت الوطن، وحقنت غير عربه ومسلميه بالمرارات، وبذرت للفتنة، أو يتباكى. ولكنه آثر أن يقف بيينا ككوميدي يستل الإعجاب من جمهوره الإسلاموعروبي بإعادة الروتين الذي أتقنه منذ التحق في القسم العربي من الحركة الشعبية وهو دعك الملح في عار أجدادهم، فيتصاغرون، ويفرجون من شعواء خذيهم بالضحك أو التضاحك. عرض كلا المحجوب ومنصور قضيتهما بوجه صفوة متلجلجة عن قوميتها العربية الإسلامية. فأشتكي المحجوب من غربة العربية على لسان أهلها (121). ولكنه حذّر أيضاً من عروبة تابعة لمصر أو مستنسخة منها تحذيراً لا يأخذ به منصور كما رأينا فرايناه يستصرخ علماء مصر أن يستنقذوا السودان من تهافته على ثقافة الاستعمار الإنجليزي ومن شرور متعلميه. أما المحجوب فنسب لجيله الذي أحسن الإنجليزية والعربية قيام شعر سوداني استوحوا فيه مفردات البلاد الطبيعية والثقافية. فذكر منها "غابات كثيفة وصحراوت قاحلة" ثم حياة بدوية هادية، وحياة حضرية صاخية، ومن إيمان في "الكجور والسحرة" إلى إيمان بالله وحده لا شريك له، ومن حب للحسن "يعبر عن خلق عربي فصيح" (166-167).ومن ذلك عقيدة المحجوب في أدب سوداني لا يستنسخ أدب مصر. ومعروفة معارك المحجوب مع الأديب المصري حسن صبحي حول قومية للأدب السوداني الذي يتآخى مع أدب مصر بندية. وتجده إحتفى بإبداعية جيله القومي وميّز رفيقه، كما يحلو له القول دائماً، محمد عشري الصديق لأنه جهر برأيه نقداً للأدب المصري متمثلاً بكتاب المازني "صندوق الدنيا". بل عرض المحجوب نفسه ل"أديب" لطه حسن بندية لم تخل من "شغب". فمن رأيه أنه لم تقم حتى للأدب المصري دعامة حتى يتبعه السودانيون. فطه حسين ذاته في قول المحجوب شديد التأثر بالفرنسي أناتول فرانس في معالجته لتاريخ حياته في "الأيام". ورأى في ذلك عيباً ما أنقذه منه إلا طلاوة الأسلوب ومحسنات البديع "التي حملتني لأغفر له الزلة" .(173)وستجد منصور من جهته يقصر الصراع الثقافي على العروبي والغربي. فهو يذكر الوجود الزنوجي ثم سرعان ما يهمله كطرف لا ناقة له ولا بعير له في هذا النزاع. فبلادنا في قوله ممسوخة بالغرب ولن تسترد عافيتها حسب مقاله "الثقافة السودانية وأمساخ الثالودوميد" إن لم تضع في اعتبارها الأول عروبة السودان وقومية السودان وزنجية السودان. وعاب على المثقفين تسترهم وراء الثقافة الإنجليزية لجهلهم بلغتهم وتراثهم حتى "أن العروبة والتعريب عند كثير من المثقفين ظلت تحسب في عداد العار والشنار" وهو لا يستخف بالإنجليزية التي هي "سلاح عظيم يمكن لنا أن نستخدمه في صقل ثقافتنا العربية لإزالة ما ران عليها من صدأ بفعل قرون من الانحلال والتفسخ".نجمت عبارة منصور الصخّابة في قوميته العربية من استسخافه لتهتك الصفوة الفكري. فتقديس صفوتنا للفكر الغربي، في عبارة منصور القاطعة، "إنكار للجذور الثقافية للأمة، إنكار للعروبة، انكار للقومية، إنكار للإسلام" (165) . واستل من جرابه الإسلاموعروبي نكبة الأندلس نذيراً لنار تحت الوميض لها ضرام. فقال إن حالنا صار كحال العرب البيضان في الأندلس "والتقليد المهلك هو الذي أودى بالعرب البيضان في الأندلس" وقول ابن رشيق فيهم يعرفة تلاميذ المدارس الإبتدائية في السودان: مما يزهدني في أرض أندلس (ولم يكمل البيت) 165أما من جهة إسلامية الهوية السودانية فقد رأينا المحجوب أجهر بها من منصور. ولكن الأخير غالباً ما مزج العروبة والإسلام مزجاً يجعل الثقافة الإسلامية ركناً ركيناً في القومية السودانية. وركيزة منصور في هذا المزيج هي الثورة المهدية. فالإمام المهدي عنده هو المفكر السياسي الأصيل الأول والأخير من وضع حجر الأساس للزعامة السودانية. فشهدنا منه الزعامة السياسية الوحيدة التي "أدركت أن قيادة أي مجتمع للخير لابد أن تكون قيادة أخلاقية" (132-133). فمنصور شديد العزة بسودان الإمام المهدي الذي رسمت ثورته الكبرى معالم الطريق لأول ثورة عربية أصيلة تنبع من ضمير الأمة، وتستهدي بثقافتها، وتؤكد في السودان القديم مباديء تطرح نفسها اليوم في إلحاح داو، مباديء العدالة الاجتماعية الاستقلال الوطني والوحدة العربية الإسلامية.أضطررنا لمط المقال إلى حلقة خامسة تيسيراً على من شكوا من طول حلقاته الماضية. ونختم إن شاء الله في القادمة. أحدث المقالات
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة