|
برونك نصب على الامم المتحدة
|
ما وراء إبعـــاد المبعــوث الأممي من الخرطوم :هــل ضحــك يان برونــك على الجميـــع ؟؟
* لم يعد يحفل احد في وسائل الاعلام المختلفة بالقضية الأكثر سخونة خلال الشهر المنصرم، وهي قيام الحكومة السودانية بطرد او بابعاد - بلغة دبلوماسية اكثر تهذيبا - ممثل الامين العام للامم المتحدة يان برونك من الخرطوم على خلفية اتهامه بتجاوز العديد من الخطوط الحمراء التي تم تحذيره منها مرارا، ومن ثم تجاوز صلاحياته الممنوحة له كمسؤول أممي في السودان. وآخرها تجرؤه على المساس باحد اقدس الساحات السودانية التي لن تقبل أن يعبث بها؛ القوات المسلحة. وكما يعلم الجميع بقية الحكاية، فان برونك قد طرد مباشرة بعدما قال في مدونته الالكترونية (ان المتمردين ألحقوا خسائر جسيمة بالجيش السوداني في معركتين بشمال دارفور)، مشيرا الى مقتل المئات من الجنود وأسر عدد كبير منهم. مضيفا (ان معنويات الجنود السودانيين منخفضة للغاية، ويرفض بعضهم تنفيذ اوامر القتال، فيما تم اعفاء عدد من القادة برتبة لواء من الخدمة!).
الى هنا تبدو القصة منطقية ومتسلسلة ومفهومة ولكن - دعونا - ننظر بزاوية اخرى الى حسابات الربح والخسارة في هذه المسألة.
* الانطباع العام لدى الناس أن الحكومة قد خرجت رابحة من هذه المعركة الدبلوماسية فهي اولا، قد حققت نصرا معنويا كانت في أمس الحاجة اليه مع الامم المتحدة - التي تحاول ان تجد طريقة ما لتنفيذ قرار مجلس الامن رقم 1706 القاضي بنشر قوات من الامم المتحدة في دارفور ومن ثم اعلانها عدم تراجعها عن القرار بالرغم من الضغوط التي مورست عليها من الداخل والخارج من اجل السماح لبرونك بالعودة وممارسة مهامه، وانتهاء بقبول الجميع بالأمر الواقع، الذي فرضته الحكومة السودانية.
وثانيا، ان الحكومة قد نجحت في (جس نبض) المجتمع الدولي بالقيام بهذه المغامرة، والاصرار عليها. وبالتالي، فهي - اي الحكومة - يمكن ان تقوم بمغامرات سياسية اخرى حيال تعاملها مع الامم او واشنطن دون ان تخشى من عقوبات محتملة او ردود فعل غير متوقعة (ولهذا السبب فهي ما زالت ترفض حتى الآن نشر قوات من الامم المتحدة في دارفور).
وثالثا وهو الأهم، انها قد أرضت غرور القوى المتنفذة والضاغطة في المؤتمر الوطني، بتحقيق مبتغاها بالحصول على هذا النصر، وهو ما ظهر جليا في التصريحات الصحافية التي اعقبت طرد المبعوث الأممي، وما ظهر في كتاباتهم الصحافية. ولكن هنالك من يعتقد ان المستفيد الاول والاخير من عملية الطرد هذه هو يان برونك نفسه! كيف ذلك؟
خطط مدروسة!
يجدر بنا ان نتابع، وبدقة، تصريحات برونك وسلوكه قبيل وبعد ابعاده من الخرطوم. فالرجل كتب على مدونته الالكترونية (وهي بدعة جديدة ابتكرها برونك بانشاء مدونة خاصة به لم يكن مبعوثو الامين العام للامم المتحدة لهم مثل هذه المدونات) حديثه عن الجيش السوداني - وهو يعلم تماما ان الجيش لن يسكت اطلاقا على هذه الاساءات البالغة، ومن ثم عمد الى تسريبها الى بعض وكالات الانباء العالمية وبعض صحافتنا المحلية وبعد ان تم استدعاؤه من قبل وزارة الخارجية السودانية لم يعتذر - كما هي عادته في المرات السابقة بل أصر على ما كتبه هو الذي حدث على الارض فعلا!! ولقد علمت (السوداني) ان هنالك محاولات حثيثة عديدة جُربت مع برونك - من داخل بعثته والحكومة السودانية - لتقديم اعتذار علني للمؤسسة العسكرية الغاضبة، لكنه رفض ولما لم تجد اصوات الاجاويد هذه مفرا انصاعت لضغط الجيش وصدر قرار طرده من الخرطوم!
وحينما قامت الحكومة السودانية بتسليم قرارها الرسمي بطرد برونك بواسطة وزير خارجيتها لام اكول الى الامين العام للامم المتحدة كوفي عنان قام هذا الاخير باستدعاء ممثله بالخرطوم للتشاور معه في ما حدث.
برونك وقبل مغادرته للخرطوم قبل انتهاء المهلة المحددة له من قبل السلطات السودانية (72 ساعة) كتب الى موظفيه في البعثة رسالة وداع مؤثرة (نشرناها في السوداني في عددها بتاريخ25 اكتوبر الماضي) بالرغم من تأكيدات الامين العام بان مبعوثه في الخرطوم باقٍ في منصبه ولن يتغير اطلاقا!!
وقبل ذهابه الى نيويورك حرص برونك على زيارة موطنه هولندا فاستقبل هنالك كأحد الابطال، بل ان احدى الاذاعات المحلية اجرت معه مقابلة لتوضيح اسباب طرده، فانتهز برونك الفرصة، وقال: (ان الحكومة السودانية قد طردته ومعه بعض المراقبين حتى يتسنى لها القيام بهجمات جديدة ضد المتمردين في دارفور!). وهنا مرة، اخرى اربك كل الحسابات الخاصة عند منظمته التي عينته، والتي كانت تأمل في ان تقود وساطاتها التي تجريها مع الحكومة السودانية بالعدول عن قرار طرد المبعوث الاممي من الخرطوم!
وفاجأ برونك الجميع مرة ثالثة عندما اكد في تقريره الذي قدمه لمجلس الامن، في جلسة طارئة، اواخر الشهر الماضي، ان الحكومة السودانية تقوم باعمال قتل عشوائية مستخدمة الطيران الحربي وانها غير جادة في تطبيق اتفاقية ابوجا التي وصفها بانها في حالة احتضار في وقت سابق!! وعند هذه النقطة بالذات اغلق تماما الباب من خلفه، في امر عودته الى السودان مجددا، الا من باب لملمة اغراضه الخاصة، وانهاء عمليات التسليم والتسلم لنائبه الاول امانويل دا سلفا. وهو الامر الذي سمحت به السلطات السودانية لاحقا.
ويحق للناس، ان يتساءلوا لماذا يتصرف برونك على هذا النحو؟ ماذا سيستفيد من طرده من منصبه الاممي الرفيع؟ لعل كثيرا من الناس لا يعرفون ان برونك ليس موظفا متدرجا بالامم المتحدة، وانما هو مجرد مبعوث للامين العام تنتهي علاقته بالمنظمة الدولية بانتهاء مدة ولايته (وطبقا لقوانين المنظمة فان مبعوثي اي امين عام تنتهي صلاحياتهم بانتهاء مدة الامين العام الذي عينهم، مما يعني ان برونك سيغادر مع كوفي عنان نهاية هذا العام)، وهذه المعلومة مهمة لانها قد تعطينا بعض التفسير لسلوكيات برونك.
الامر الآخر وهو الاكثر اهمية، ان برونك ومنذ ان تولى مهمته رسميا قبل اكثر من ثلاثة اعوام، لم ينجز شيئا يذكر له في ما بعد، وبعبارة اخرى ان برونك قد فشل في ادارة بعثته في الخرطوم، الفشل الاول هو في عدم سيطرته ومراقبته الجيدة لاطراف اتفاقية نيفاشا (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) ومرونته غير المبررة تجاه الشريكين حيال بعض التجاوزات في الاتفاقية مثل مماطلة المؤتمر الوطني في حل قضية أبيي، والتجاوزات الامنية والمالية التي تلاحق الحركة الشعبية في ادارتها لجنوب السودان. ولعل هذا السبب هو الذي جعل شخصا مثل كوفي عنان يقول في سبتمبر الماضي ان اتفاقية نيفاشا قابلة للتقويض لان اجزاء اساسية منها لم تطبق! الفشل الثاني الذي لاحق برونك هو عدم مقدرته على اقناع الحكومة السودانية بالقبول بالقوات الأممية في دارفور من جهة، وفشله في اقناع رافضي ابوجا بالالتحاق بالاتفاقية بل في عدم مقدرته في مقابلة قادة الحركات الرافضة مثل ما حدث مع عبدالواحد محمد نور الذي رفض لقاء برونك في اسمرا من جهة ثانية. الفشل الثالث عند برونك كان متعلقا بادارة شؤون موظفيه، فبرونك حتى الآن لم يستطع ان يقنع رابطة العاملين بالامم المتحدة من السودانيين بالتراجع عن تهديدها بالاضراب عن العمل نتيجة لضعف مرتبات الموظفين الذين بدأوا بتقديم استقالات متلاحقة، وهو امر فريد في بعثة اممية في دولة ما بالعالم، بل ان معظم الموظفين قاطعوا اجتماعه الاخير الذي دعا له لمناقشة امر الرواتب بسبب اعتقادهم ان برونك ليس لديه ما يفعله حيالهم! واخيرا، قصة الفساد المالي التي فاحت رائحتها في اروقة البعثة وعرقلة برونك لعمل المحاسبين والمراجعين القادمين من نيويورك، حسبما اكدته رئيسة هؤلاء المحاسبين في تقريرها الى الامين العام.
تحسين الصورة!
ولكل هذه الاسباب مجتمعة فان برونك كان مصرا على مغادرة معقدة وهو في صورة بطل مطرود من مهامه، (وهو الآن كذلك في نظر الغرب وفي بلده، وفي نظر بعض ابناء دارفور!)
هنالك سبب آخر، وهو اقل اهمية، هو ان برونك يسعى الى زيادة ثروته المالية من الامم المتحدة، ذلك لأن المبعوث المطرود، ووفقا لقوانين الامم المتحدة، سينال راتب ستة اشهر اضافية. مع العلم ان راتب برونك الشهري يقارب الخمسين الف دولار اذا ادخلت فيها نثريات سفره المتواصلة وبدلاته المتعددة!
كتب:المحرر السياسي ..... الخرطوم صحيفة السودانى
|
|
 
|
|
|
|