دلفت عبر المدخل المخلوعة بوابته لمدرسة السكة حديد الإبتدائية بود مدني قاصداً النيمة العتيقة حيث تجلس تحتها (ست الفطور) التي رأيتها تعمل منهمكة في تجهيز السندوتشات للتلاميذ، ويبدو أن وقت خروج التلاميذ في فسحة الفطور قد أزف لذلك هي تسابق الزمن لإعداد أكبر عدد من الساندويتشات قبل هجومهم لشراء ما لديها، لذا لم تتنبه لوصولي ووقوفي أمامها قبل أن ألقي عليها السلام، ولم ترفع بصرها عما في يدها من الخبز والطعمية عندما ردت السلام، إلا بعد هنيهة وبطريقة سريعة ومباغتة- وكأنها استوعبت لحظتها فقط أن صوتي ليس مألوفاً لها- وارتبكت عندما رأتني (يبدو أنها ظنتني موظفاً في المجلس المحلي جئت لأرمي برأسمالها- الحلة والصحون والخبز والفول والسلطة- في برميل القمامة)، ولكن عندما لم تجد وجهي مكفهراً ولا نبرتي حادة ومهددة؛ هدأت نفسها، وتحولت تعابير وجهها الى وضع التساؤل عما جاء بي، دون أن تترجم ذلك الى كلمات. سألتها عما إذا كان هناك تلاميذ لا يجدون ما يفطرون به، فأجابت بالإيجاب، فمددت لها يدي بورقتين نقديتين من فئة العشرة آلاف جنيه، فلم تمد يدها لاستلامهما، وبدأ على وجهها الحذر والتردد، بل وشئ من التوجس والريبة، فأدركت على الفور ما تفكر فيه. - ديل قروش فطور للأولاد الماعندهم حق فطور - لكن ديل كتار - فطري بيهم الليلة وبكره لغاية ما يكملوا - كان كدي معليش
توجسها وريبتها التي ظهرت على وجهها في البداية نبهتني إلى أنها في مثل سني تقريباً، أي لم تكن (حبوبة ستنا) التي كانت تبيعنا الفطور منذ ثلاثين عاماً في هذا المكان نفسه، تحت هذه النيمة بالذات.. حبوبة ستنا.. وفي ثوان كنت على متن (آلة الزمان) في رحلة الى أواخر ستينات القرن العشرين.. وأنا أقف على مقربة من حبوبة ستنا والتلاميذ يتدافعون ويتزاحمون حولها لشراء فطورهم منها، ولما انفض الجمع من حولها وبدأت تعد قروشها، كانت حلة الفول وصحن سلطة الأسود وكورية الشطة وكذلك قفة الخبز، كلها خاوية.. لم أزاحم مع التلاميذ لأحصل على ساندوتش، لأنني ببساطة لا أملك قرش الفطور، كنت أطمع فقط في قطعة خبز صغيرة تغمسها حبوبة ستنا في (موية الفول) وتعطيني إياها لأسد بها رمقي، لكن لم يبق شئ من فول ولا (موية فول). وجلس التلاميذ تحت الشجر وفي ظل الفصل يأكلون طعامهم، ذهبت للمزيره لأشرب الماء ظناً مني أنه يمكن أن يُسكِت جوعي، لكنني لم أستطع أن أتجرع شيئاً منه، فقد جعله الجوع يؤلمني في فم المعدة، فرجعت لأجلس تحت ظل الشجرة، تصارع مصاريني نفسها في معركة خاسرة أحس نتائجها في لعابي الذي يسيل بلا لقمة توقفه.. راقبت عمر وهو يقضم من ساندوتش ضخم لا يتناسب وسنه الصغيرة، ولكن يبدو أن أسرته الثرية تحشو له الساندوتش بما لذ وطاب حتى تكاد الخبزة تتفجر مما في جوفها.. ويسيل لعابي أكثر، وأحس بالجوع أكثر فأكثر لدرجة الغثيان. ويضع عمر ما تبقى من ساندوتشه على الأرض ويذهب، لقد شبع وترك أكثر من نصفه.. لم يعد لي شئ أفكر فيه غير بقية الساندوتش الذي تركه عمر.. لا أستطيع أن أقاوم تلك الرغبة العارمة في الأكل.. ***
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة