|
قضية بينوشيه :هاتف يوقظ الطغاة والضحايا معاً
|
قضية بينوشيه :هاتف يوقظ الطغاة والضحايا معاً في ليلة 16 أكتوبر/تشرين الأول 1998 ألقت شرطة مدينة لندن القبض على الجنرال أوغسطو بينوشيه، بناءً على أمر قضائي إسباني بالقبض على الدكتاتور السابق بتهمة ارتكاب جرائم ضد حقوق الإنسان في شيلي إبان فترة حكمه التي دامت 17 عاماً؛ ورفضت المحاكم البريطانية ما زعمه بينوشيه من الحق في الحصانة، وحكمت بجواز تسليمه إلى إسبانيا لمحاكمته هناك.
ولكن قضية بينوشيه لم تبدأ في أكتوبر/تشرين الول 1998، بل بدأت في الواقع في أوائل سنوات حكم بينوشيه الدكتاتوري الذي استمر من عام 1973 حتى عام 1990، عندما شرع دعاة حقوق الإنسان الشجعان في رصد وتوثيق كل حالة من حالات التعذيب والقتل العمد و"الاختفاء" التي ارتكبتها قوات بينوشيه. وعندما عادت الديموقراطية إلى شيلي تشكلت لجنة رسمية لتقصي الحقيقة، فاستندت إلى ما أنجزه هؤلاء في إعداد البيانات التفصيلية الخاصة بما يربو على 2000 حالة من حالات القتل و"الاختفاء". ولكن الجنرال بينوشيه كان قد أقام لنفسه ولمعظم شركائه هيكلاً قانونياً يكفل لهم الإفلات التام من العقاب ـ أو قل إن ذلك ما كان يتصوره.
ففي عام 1996، قام المحامون الموكلون للدفاع عن ضحايا القمع العسكري في الأرجنتين وشيلي، بعد أن عجزوا عن رفع الدعوى في أي منهما، برفع دعاوى جنائية في إسبانيا ضد الحكام العسكريين السابقين لهاتين الدولتين، ومن بينهم الجنرال بينوشيه. وعلى الرغم من أن معظم تلك الجرائم كانت قد ارتكبت في الأرجنتين وشيلي، فقد سمحت المحاكم الإسبانية بنظر تلك الدعاوى في إسبانيا، عملاً بمبدأ "عالمية الاختصاص القضائي" بنظر الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان، وهو المبدأ الراسخ في التشريع الإسباني وفي القانون الدولي، ولو أنه نادراً ما يُطبَّق أو يستند إليه.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 1998، توجه بينوشيه إلى بريطانيا، وفي السادس عشر من ذلك الشهر طلب القاضي بلتسار غارثون، الذي كان يتولى التحقيق في إحدى القضايا الإسبانية، من السلطات البريطانية إلقاء القبض على الدكتاتور السابق؛ ولم يلبث أن اعتُقل في مساء اليوم نفسه في لندن؛ ثم قدمت إسبانيا طلباً رسمياً بتسليم بينوشيه إليها، وحذت حذوها كل من بلجيكا وفرنسا وسويسرا. وطعن بينوشيه في أمر اعتقاله بدعوى أنه يتمتع بالحصانة من الاعتقال والتسليم لبلد آخر باعتباره رئيس دولة سابقاً. ولكن مجلس اللوردات البريطاني، وهو أعلى محكمة في بريطانيا، رفض مرتين مزاعم الحصانة التي قدمها بينوشيه؛ فقضى في الحكم الأول، الذي ألغاه فيما بعد، بأن رئيس الدولة السابق يتمتع بالحصانة فيما يتعلق بالأفعال التي يقوم بها في إطار ما يؤديه من وظائف باعتباره رئيساً للدولة، ولكن الجرائم الدولية مثل التعذيب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية ليست من "وظائف" رئيس الدولة. أما في الحكم الثاني، الذي كان ذا نطاق أضيق، فقد أفتى مجلس اللوردات بأنه ما دامت بريطانيا وشيلي قد صادقتا على "اتفاقية مناهضة التعذيب" الصادرة عن الأمم المتحدة، فليس من حق بينوشيه أن يطالب بالحصانة من المحاكمة فيما يتعلق بالتعذيب. ومن ثم حكم أحد القضاة البريطانيين بجواز تسليم بينوشيه إلى إسبانيا بناءً على اتهامه بارتكاب التعذيب والتآمر لارتكاب التعذيب. ولكن الفحوص الطبية التي أُجريت على بينوشيه أظهرت، فيما قيل، أنه لم يعد يتمتع بالأهلية العقلية اللازمة لمحاكمته؛ ومن ثم أُفرج عنه في مارس/آذار 2000 وعاد إلى وطنه شيلي.
وقد وصفت منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" اعتقال بينوشيه بأنه "رنين الهاتف الذي يوقظ" الطغاة في كل مكان، ولو أن أحد الآثار المترتبة على هذه القضية، وهو لا يقل في أهميته عن ذلك، هو أنه يفتح باب الأمل أمام الضحايا الآخرين، في أن يتمكنوا من إحالة من عذبوهم إلى المحاكمة في الخارج. وسرعان ما تحقق ذلك إذ ساعدت منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" الضحايا من أبناء تشاد على رفع قضية جنائية في يناير/كانون الثاني 2000 في السنغال ضد حسين حبري، دكتاتور تشاد السابق المقيم في المنفى، الذي وُجِّه الاتهام إليه، وينتظر الآن محاكمته بتهم تتعلق بارتكاب التعذيب (انظر أدناه). ويحاول هذا الكتيب رسم الخطوط العريضة لأهم عناصر قضية بينوشيه باعتبارها سابقة قانونية، خصوصاً "عالمية الاختصاص القضائي"، وذلك حتى يتمكن الضحايا والمدافعون عن حقوق الإنسان من مواصلة الجهد لإحالة سائر الساسة المجرمين إلى العدالة في الخارج، وحتى يتفهموا العراقيل الكثيرة التي تواجههم في هذا الجهد.
|
|
|
|
|
|
|
|
|