|
Re: أيامي (Re: هشام آدم)
|
__________
تحدّث الجالسون عن قضايا لم تكن ذات أهمية لدي، كانت أغلبها تدور حول موتى فارقوا الحياة فترة غياب أمي عن كاتوشيا ورحيلها مع زوجها إلى أرتكاتا، وأناس هاجروا إلى بلاد بعيدة وانقطع ذكرهم بعدها، وأخبار الزيجات الحديثة التي وقعت مؤخراً، ونتاج بعضها الذي أسفر عن مواليد جدد. بينما كنت منهمكاً في مراقبة ورل ضخم كان يحفر لنفسه بكل همّة حفرة في منطقة رملية قريبة. ظننته تمساحاً في بادئ الأمر، غير أنّ أحدهم ربّت على كتفي مطمئناً وهو يقول "إنها المرة الأولى التي ترى فيها حيواناً كهذا .. أليس كذلك؟" وابتسم ابتسامةً جعلتني أخشاه. في اليوم التالي كان جورجينيو أمادو قد وصل في الصباح الباكر بعربته الأشهر على الإطلاق في المنطقة مطلقاً أبواقاً موسيقية لا أزل أتذكرها حتى اليوم. كان أهل القرية يعرفون كل سائق من صوت بوق سيارته، بل وإن الأطفال كانوا يتبارون في محاكاة تلك الأصوات الموسيقية بأفواههم. وكسيدة أرستقراطية تقدمت أمي لتركب في المقعد الأمامي بجانب السائق حيث لا يسمح لغير الوجهاء بالجلوس، بينما أخذ الجميع يفرشون حصائرهم في حوض العربة الخلفي. كانت السيدة كوربن بينهم، الأمر الذي جعلني أشعر بشيء من الشماتة تجاهها. كانت البادرة الأولى واليتيمة التي تحسب لها، أنها عرضت على أمي أن تأخذ أختي جوانيتا وتجلسها معها في الحوض. في مرحلة عمرية متقدّمة عرفت أنّ ما قامت به السيدة كوربن لم تكن إلاّ تقنية تربوية محترفة، فيمكن للبالغين معاقبة الأطفال بتجاهلهم والاهتمام بطفلٍ آخر. وما هي إلا دقائق حتى امتلأت الساحة بالمودعين، وامتلئ الحوض بالركّاب رجالاً ونساء وكأنهم نازحون أفارقة. هذا المشهد الاحتفالي يتكرر كل يوم أربعاء بذات التفاصيل تقريباً دون أن يقلل ذلك من أهمية طقوس الترحيب والتوديع لدى أهالي كاتوشيا.
غرقت قبعات الرجال ومناديل النسوة المودعات مع عليّات البيوت وهي تغيب عن الأنظار وتتلاشى تحت خيط شفقي أحمر، بينما اتجهنا شمالاً إلى كوينكا عبر وادي غوادا لاخارى الحجري الذي كان الأسلاف يعبرون خلاله بقطعان خرافهم إلى مراعي السافانا الخصيبة بينما يستحيل الوادي إلى مجرى نهري جارف خلال المواسم المطرية التي تستمر في بعض الأحيان لأكثر من ثلاثة أشهر. لم تكن بي رغبة فضولية لمراقبة الطريق ومعرفة معالمها ، لذا فإنني لم أر بيوت قبائل البتشو المنحدرة من أصول قوقازية، ولا جبل "عين الشمس" الذي تنفذ الشمس فيه من خلال ثقب هائل في قمته، بل قرأت عنها من رحلات بياتوس ودمنغو فيما بعد.
كنت أتعجّب لمقدرة أمي الغريبة على النوم مع حركة العربة المزعجة التي تسببها وعورة الطريق. كان يخيّل إليّ في كثيرٍ من الأحيان أننا في هودج على ظهر جمل عربي، يزيد من هذا الشعور قماشة حمراء منتهية بضفائر مخملية مطرّزة تتدلى من سقف كابينة القيادة يستخدمها أمادوا كزينة لعربته. واستيقظت أمي مذعورة لترسم بيديها علامة الصليب في ميكانيكية تعبّدية خاشعة عندما صاح أمادو فجأةً " لورِد"[1] كنت لا أعرف سر الخشوع الذي هبط فجأة على الاثنين وهما يطلان بنظراتهما على مكانٍ ما في الخارج. أخرجت رأسي من النافذة لأرى، وأنا ابتسم للعدوى الفضولية التي يبدو أنها انتقلت إليّ من السيدة كوربن. لم أجدى سوى صرح شبه هرمي عليه علامة الصليب، كان يبدو لي كدير لم يوفق بانيها في اختيار المكان المناسب. التفت إلى أمي لأجدها ما تزال في خشوعها الكاثوليكي فسألتها " ما هذا المكان؟ " فأشارت لي بيدها بأن أصمت. ابتسم أمادو وجذبني من ذراعي إليه، وجعلني إلى جواره:
- سوف أحكي لك يا بني .. يقال أن مراهقة كاثوليكية تدعى بيرنيدت سوبيروس أتت إلى غار ماسيبيل[2] - الذي تراه أمامك هناك - معتزلةً الناس والحياة، وطالبت السيدة العذراء بالمثول أمامها إن كانت تستطيع أن تفعل ذلك. - وهل ظهرت لها السيدة العذراء حقاً؟ - أظن ذلك؟
ورغم أنني كنت أعشق القصص من ذلك النوع الذي يتناول سيرة الغابرين والأسلاف، إلاّ أن رواية أمادو هذه كانت محبطة وتنقصها الكثير من التفاصيل، فلجأت إلى خيالي الطفولي لإضافة المزيد من المؤثرات لقصة أمادو المبتورة.
رغم خصوصية الجلوس في كابينة القيادة الأمامية، ودلالاتها البرجوازية؛ إلاّ أنني لم أكن مرتاحاً لذلك، فلم يكن بوسعي أن أتمدد أو أن أتحرّك أية حركة دون أن ترمقني أمي بنظراتها المتشددة، إذ كانت حريصة كل الحرص على أن نبدو في شكل مهذب أمام الآخرين لا سيما الكبار، وكنت أجاهد كثيراً لأحقق لها هذه الرغبة، غير أنها لم تكن تلاحظ إلاّ الهفوات النادرة.
في مكان ما توقف أمادو وأطفأ محرك سيارته، وأعلن استراحة لنصف ساعة. ترجلنا وبدأ البعض بمطّ جسمه المنكمش بفعل الزحام، بينما جثا البعض على ركبهم غير بعيد للتبوّل. كان البرد قارصاً لدرجة أن الرجال كانوا ينفثون من أفواههم أبخرة كأبخرة التنانين الأسطورية، بينما لفّت النساء وجوههن بمحارم قطنية. كانت تعجبني فكرة خروج الأبخرة من الأفواه فولّدت لدي رغبة انحرافية، فكنت أضم سبابتي والوسطى كما يفعل المدخنون المحترفون وأتظاهر بالتدخين. أشد ما أعجبني أنني لم أكن أخاف من أمي وأنا أفعل هذه الحركات. كانت جوانيتا تتوسل لأمي بأن تأخذها معها إلى كابينة القيادة، ليس لنزعة برجوازية، ولكنها - على ما يبدو - ضجرت من مرافقة السيدة كوربن. وأعجبني موقف أمي الصارم، رغم أنني كنت أشفق على جوانيتا أيّما إشفاق. تجمّع البعض في حلقات وبدأوا يتسامرون ويطلقون ضحكات كانت تهتك سكون المنطقة الموحشة. راح أمادو في كل ذلك يرتشف قهوته المسائية من حافظة كان يخبأها معه. كنت استغرب إدمان البالغين على القهوة والشاي وهذه المنبهات التي لم استسغ طعمها يوماً. كان يخيّل إليّ أنها مخصصة للكبار فقط، وأن تناول كوبٍ من الشاي الساخن هي إحدى دلالات البلوغ الأساسية. نحن - الصغار - كانت أمهاتنا يبرّدن لنا الشاي بعملية تكرير مضجرة وأحياناً بإضافة بعض الماء البارد عليه.على أي حال فأنا لم أشرب كوب شاي في حياتي؛ كنت أؤجل هذه المهمة لحين أكبر.
من جهةٍ ما سمعنا صوت فتاة عشرينية وهي تكيل لأحدهم الشتائم، عرفنا فيما بعد أنه حاول التحرّش بها بينما كانت تتبول. خيّم - عندها - سكون متوتر على المكان فيما كان البعض يتندّرون بهذه الحادثة ويتغامزون فيما بينهم. أحسست بشفقة ساذجة تجاه الفتاة عندما عاقبتها أمها بصفعة قوية وحكمت عليها بملازمتها طوال الرحلة. لم أعرف سر هذه العقوبة التي أوقعتها الأم على ابنتها الضحية، في حين اكتفى الجميع بتقطيب جباههم للجاني، واستيائهم الذي زال بعد دقائق معدودة. هذه الحادثة جعلت بقية النساء يطبّقن ذات العقوبة على بناتهن. شعرت بأنهن كقطعان ضأنٍ لا حيلة لها غير مصادقة الذئاب التي تمارس دوراً مزدوجاً: حمايتها والتهامها في آنٍ معاً !!
______________
[1] Lourdes صرح مخصص للحج إلى السيدة مريم العذراء أنشأ في عام 1858م [2] Grotto of Massabielle
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
أيامي | هشام آدم | 09-30-06, 07:15 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 09-30-06, 07:19 AM |
Re: أيامي | بكري اسماعيل | 09-30-06, 07:24 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 09-30-06, 07:31 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 09-30-06, 07:37 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 09-30-06, 07:43 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 09-30-06, 12:10 PM |
Re: أيامي | DKEEN | 09-30-06, 09:00 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 09-30-06, 12:11 PM |
Re: أيامي | هشام آدم | 09-30-06, 12:19 PM |
Re: أيامي | هشام آدم | 09-30-06, 04:49 PM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-01-06, 05:48 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-01-06, 01:28 PM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-01-06, 02:41 PM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-01-06, 03:51 PM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-02-06, 05:12 AM |
Re: أيامي | Sudany Agouz | 10-02-06, 08:44 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-03-06, 03:24 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-03-06, 04:28 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-03-06, 04:37 AM |
Re: أيامي | عبدالرحمن عزّاز | 10-03-06, 04:52 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-03-06, 07:56 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-03-06, 08:09 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-03-06, 08:19 AM |
Re: أيامي | Tragie Mustafa | 10-03-06, 09:45 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-03-06, 12:48 PM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-03-06, 01:09 PM |
Re: أيامي | Tragie Mustafa | 10-03-06, 02:05 PM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-03-06, 03:05 PM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-04-06, 07:15 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-04-06, 03:40 PM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-05-06, 05:10 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-08-06, 03:07 AM |
Re: أيامي | هشام آدم | 10-09-06, 06:30 AM |
|
|
|