كان من اكبر نعم الله علي بسبب خزان الحماداب وحملتنا لمقاومته، ان جمعتني هذه الحمله باهلنا النوبين، وصدقوني لو لا خبرتهم ودعمهم وموازرتهم المتواصله لما بلغت حملتنا كمتاثرين ما بلغته. لم تكن الحمله هي اول ما جمعني بالنوبيين، فقد زاملت الكثيرين منهم في عطبره الحكوميه وكانت المدرسه تعج بشبابهم، منهم صديقي عازف الاورغن الاشهر محمد عثمان ساطور ولاعب الكره المميز سعيد خاطر وغيرهم كثيرين فرقتنا الحياه منهم وتفرقواهم في مناحي شتي. كنت طفلا صغيرا اقف بجانب والدي ( رحمه الله) علي ضفة النيل في قريتنا نتابع الباخره الثريا تسافر عكس التيار في رحلتها الاخيره وهي تحمل الكثير من الاسر النوبيه التي اغرقها خزان السد العالي. وبداء لي ان والدي يتمتم بكلمات لم اعرف كنها، فتطلعت الي وجه ولاول مره رايت عيناه تدمعان، واستغربت الامر، فقد كان رحمه الله يقول لي ان الرجل لا يبكي...! ولم اعرف وقتها ما هو سبب بكائه... وقد كنت لحظتها فرحا بمنظر الباخره التي اشاهدها لاول مره، بل انتابني شعور ان من بداخلها هم اسعد الناس فقد بداء لي منظرها رائعا وهي تشق المياه العاتيه باقتدار مسببة امواج عاتيه لم نشاهدها من قبل... امضي والدي ورفاقه في القريه ذلك المساء في إكتئاب بالغ، وبينما كنا نحن فرحين نتحدث عن الباخره وروعتها و ( بوريها) الذي يختلف عن ( بوري) القطار، كان الكبار مجتمعين في ( الخلوه) مذهولين واجمين، امتد حزنهم لبعد صلاة العشاء حيث كانوا يتحدثون بحزن عميق عن ماوقع علي اصدقائهم من جور وظلم. كانت حلفا في ذلك الزمان هي قبلة اهلنا التي يسافرون لها بحثا عن الرزق ولم يكن لهم اهتمام بالخرطوم وبما يدور فيها من مؤمرات سياسيه وبيع للاوطان. لقد كانت صدمتهم بالغه، وقرر الكثير منهم البقاء في القريه وترك السفر نهائيا، اذ كانت حلفا هي عالمهم الخارجي، ولم تكن غالبيتهم وقد تقدم بها العمر في رغبة للتعرف علي عالم اخر لايعرفونه ولن يكون باي حال مثل حلفا. لقد دمرت بحيرة الخزان عالمهم الصغير عليهم واختلت حياتهم، ولم يصدقوا ما جري حتي لقوا الله.
وانا اقلب بعض الاوراق التي مدني بها اصدقائي النوبين ( وما اكثرها) وجدت من بينها قصيدة شاعرنا الكبير جيلي عبد الرحمن ( عبري)... وهي قصيده مشهوره...وللاسف كانت تدرس في المدارس بدون اسقاطات وخلفيات عن ما جري للنوبيين بل كانت قصائد لشعراء اجانب مثل احمد شوقي ومعروف الرصافي والمقنع الكندي وابو العتاهيه تحظي بالشرح والتوضيح اكثر بكثير من قصيدة شاعرنا الفحل.
كثيرا ما يخالجني سؤال إن كان السودانيون شعب متبلد الاحساس! فبالنظر لماساة حلفا، بالرغم من ان ردة الفعل العامه حيالها ساهمت في اسقاط حكومة الجنرال عبود، إلا ان الناس للاسف انصرفوا بعد ذلك لحالهم وتركوا النوبيون يكابدون قضيتهم وماساتهم لوحدهم.. فماساءه ضخمه مثل طمر حلفا، لا تولد عند الباحثيين السودانيين و( المهتمين) اي ردة فعل للكتابه عنها وتبيان فصولها وشرح معاناة النوبيين. وفي غير ما كتبه الراحل حسن دفع الله، وهو كتاب وصفي يسرد الاحداث من وجهة نظر رسميه بحته، لم تقدم النخبه علي اختلاف اهتماماتها اي مجهود فكري ولو بسيط يوثق للماساءه ويعكس روح التضامن مع مجموعه من اعرق شعوب الارض إن لم تكن اعرقها علي الاطلاق.. ولازالت الدوله السودانيه تبيع الكذب للنوبيين... كان اخر البيع في زيارة البشير لحلفا الجديده قبل حوالي الاسبوعيين، وكما كان متوقعا لم يتردد في تقديم الوعود الجوفاء كمن سبقوه لتستمر الماساءه... في مؤتمر بيرقن للدراسات السودانيه في ابريل الماضي قدم باحث من ابرز المهتمين بالبيئه ورقه هامه جدا أشار فيها الي ان المهندسين والمختصين الذين صمموا خزان القربه كانوا يعلمون ان العمر الافتراضي للخزان سينتهي بعام1989. بمعني اخر كانوا يعلمون ان بحيرة الخزان ستمتليء بالطمي وكنتيجه لذلك سيفقد المشروع معناه وتتدهور الحياه التي تعتمد عليه بصوره مضطرده وهو ما يحدث الان في حلفا الجديده. للاسف لم تسبب الورقه اي ردة فعل عند المهتمين، ولا يدري الانسان لماذا يعقد السودانيون ورش العمل والمؤتمرات العلميه وحلقات النقاش التي ينتهي مفعولها بنهايتها... غير ان اكثر ما يحيرني هو عدم وجود دراسه في السودان تبين تاثير غرق حلفا علي الاقليم الشمالي، علي حركة السكان علي دخلهم علي نشاطهم، علي معيشتهم.. الخ... لم تنهض الدوله ولم ينهض الباحثون بل لم تنهض حتي الولايه الشماليه بشيء من هذا القبيل... كل ذلك وما ينفك السياسيون يصكون اذاننابالحديث الاجوف عن معاني القوميه والوطنيه، وكان الوطن هو الخرطوم او هو شيء علينا ان نتخيله ونكذب صباح مساء عن حبنا له وانتماءنا اليه وحشد الدهماء بالخطب الفارغه لمقاومة القوات الامميه التي جاءت لتنهض بمهمه اساسيه فشلت الدوله المزعومه في النهوض بها... تري ما هو معني الانتماء ان كان الساسه السودانيين يفشلون في مثل هذه الاختبارات الاسياسيه... اليس للنوبيين مليون حق ان طالبوا بالانفصال او الخروج عن الدوله السودانيه... فماذا جنوا من بقائهم جزاءا منها غير التشريد والاهمال... عنت لي هذه الخاطره وانا اقلب مجموعه من الارواق صادفتني فيها هذه القصيده الرائعه التي اعادتني الي قريتي..... ولكل النوبيين صادق احترامي وحبي ومودتي، واعتقد مخلصا انكم في الدوله الخطاء... ورمضان كريم...
أحن إليك يا عبرى حـنينا ماج فى صدرى وأذكر عهدك البسام عهد الظل.. فى عمرى! تطوف بخاطرى الذكرى من الأعماق..من غورى وتبدوفى بهاتتها كطيف.. خالد.. يسرى عليه غلالـة سوداء ذابت فى رؤى الـفجر طيوف لست أنساها ورُب يعافها غيرى! *** أنـا ظمآن يا عبرى إلى الأمواه والطير إلى كثبانك الغرقى هناك... بحافة النهر يذهَبـها سـنـا الشمس بأكوام من التبر! ونخـل رامق النـظرات ملء السفح.. والجسر يطل على ربى النيل ويحمل أطيب الثمر غذاء.. دائم.. حلو لنا فى البرد..والحر وأطبـاق مبعـثرة على أكواخك السمر تلألأ مثل آمال نمت فى جدبـة القـفر جـبـالك الثكلى عتاة الجن والشر وأعـراب.... وألغاز تحير عالم الفكر تخوفـنى بـها أمى تقول طويلة الشعر وأرجلها من الـطـين وأعيـنـها من الجمر ! *** وساقـية مرنحـة تجرجرها قـوى الـثور تدلـت أذنـه تـعـبـاً من الإنهاك ..والـسير ويمشـى خـلـفـه الـفلاح وهومقـوس الـظهر تـغيم بعينه الدنيا ويلعن ذلـة الـفـقر! وتجثم خلفها الأخرى وتشـكوقسـوة الهجـر أجل قد ماتت الأبقـار ...والمحصول لا يغرى ونجرى نحن أغراراً ونلقى الطوب فى البـئر ونـبنى كوخـنا المخـتار بالـطـين .... وبالـصـخـر فمـأدبـة بـلا خـبز وزيـجـات بـلا مهر ! ويوم غرقت فى النهر وأختى ولولت تجرى وصـاح الـنـاس من هول ومـاج الـجمع فى ذعـر وأنـقذنـى من الـموت فـتى قـد هـالـه أمرى ! أكلـنا لـحم تمسـاح وذقـنا أرنب الـبر وعيـشـا قـد عرفـنـاه حثـالات من الـبر نجـهز ذبحـة الـضـأن لـعيـد الـفطـر ...والنحر! ونشـبع فـيهما لحما ونعـطى الـبعض للـغير. أنـا ظـمآن يـا قـلـبى إلى صـاى ... إلى عـبرى إلى عـنـزاتـى الصغرى إلى لـيـلاتى الـغـر أقـضـيها بـلا قـيد مـع الأطـفـال ... والـبدر ! سـذاجـات ... وأخـيلـة تـظـلـلها يـد الـطـهر نـشـاوى مثـل أسـماك تـعـوم بـرائـق الـنـهر حنـيـنى جـارف.. عـات بـرغم الـمسـلك الـوعـر تراثى !! كـيـف أنـساه ؟ وقـد أودعـتـه عـبرى
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
Asskouri
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست