|
مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي
|
عبد العزيز حسين الصاوي مدخل منذ يوم 25يناير الماضي الذي شهد رحيل بدر الدين مدثر يسأل صاحبنا نفسه فجر كل يوم جديد : كيف يمر مثل هذا الحدث ولا يتحرك ساكن قلمه بحرف واحد والصلة بالفقيد رفقة عمر، والاهم من ذلك، له موقعه الهام في حياة البلاد العامة ضمن صيغة حزبيه تشاركا فيها طويلا؟ ...لعل صاحبنا ظل يتوقع رد فعل مشابه لوفاة صديق-رفيق آخر قبل أعوام عديدة. صاحبنا كان قابل النبأ بما يشبه عدم الاكتراث وكأن عبد الله محمد عبد الرحمن الشهير بأنفزبل ( ) لم يكن أول من استجاب لصرخة الولادة التي أطلقها تيار العروبة السياسية في جامعة الخرطوم أوائل الستينيات. غداة صدور أول عدد من جريدة " الرائد " الحائطية ظهر عبد الله في حجرة بداخلية سوباط كان صاحبنا يتقاسمها مع شريكه في إصدار الصحيفة محجوب الشيخ البشير( توفي أوائل السبعينيات )، عارضا خدماته دون معرفة سابقه. كل من عرف عبد الله أحبه فقد كان تجسيدا لمعني كلمة إنسان، تهش له القلوب من أول وهلة. كل ساعات يومه ونبضات فؤاده مكرسة للآخرين شأنا عاما وأفرادا مدفوعا بمزاج رومانتيكي صوفي المنحي. وعندما أضحي عبد الله بعد ذلك ضمن مجموعات البعثيين الأولي ترسخت مكانته في وجدان صاحبنا. مع ذلك بقي نبأ وفاته في خاطره أسابيع دون أن يبدو عليه انه سمع به حتى عثر بمحض الصدفة علي صورة قديمة جمعتهما معا فانهارت سدود وبقي صاحبنا خارج مجري حياته العادية أياما. ربما غدا أو بعد غد سيبكي صاحبنا بدر الدين مدثر بهذه الطريقة أو بغيرها. تكوين شخصية بدر الدين مدثر كان نقيض تكوين شخصية عبد الله تماما وشبيهه في الآن نفسه. فهو سياسي وعملي حتى النخاع، امهر الروائيين لا يستطيع استخراج جرام رومانتيكية واحد من شخصيته أو سيرة حياته.. مع ذلك فقد كانت حياته مكرسة كلية للآخرين من خلال اختياراته السياسية الفكرية فلم تعرف له حياة ومتع خاصة.. حتى بعد أن تزوج وأنجب بقي الحزب حياته الحقيقية اليومية. وبشهادة أكثر منتقديه عداء وشده بقيت في بدر الدين نفحة من اللطف والأدب في تعامله مع الناس حتى بعد أن توغل في أجواء العمل السياسي عميقا حينما أصبح البعث في السودان حزبا بحق وحقيق، ثم أعمق وأعمق عندما توطد موقعه في سلطة البعث عراقيا. فالبعث، مثله في ذلك مثل أحزاب وحكومات التغيير الشامل والسريع أيا كان اتجاهها، تخالط إنسانيتها النابعة من مثاليتها تجاه الطبقات الشعبية قسوة قاسية تجاه من تعتبره عدوها تنتهي بمرور الوقت إلي استنزاف إنسانيتها حتى في سلوك القيادات لاسيما إذا امتلكت سلطة ألدوله في بلد مثل العراق بتاريخه المغمس في القسوة والعنف. ما هي مجموعة الروافد التي شكلت شخصية بدر الدين مدثر. أيهما أكثر أهمية من غيره؟ من حق الجميع ممن لهم الدراية والقدرة ثم الاهتمام أن تبقي هذه الأسئلة مفتوحة لمساهماتهم. فالشخصيات العامة ليست ملكا لنفسها أو أسرتها أو حزبها فاختيارها نمط حياة يؤثر في حياة الآخرين يعطي الجميع الحق بالتفكير فيها. بديهي طبعا إن الاهتمام ببدر الدين مفقود حاليا. هذا ما يفيدنا به الصمت الصامت حول الموضوع. ففيما خلا بضع كتابات بعثيه عند الوفاة لم تبق إلا محاولة الأستاذ محمد علي جادين الباسلة لإبقاء الموضوع حيا عبر سلسلته " بدر الدين: الصورة والإطار " المستمرة في الأضواء. مسئولية الصمت هي بالتأكيد انعكاس لغياب البعثيين ( عراقيين) و ( سوريين ) و ( سودانيين ) عن المجال العام. بعض هذا الغياب جزء من الضعف الكبير في فعالية كافة الأحزاب، بدرجات متفاوتة، تحت وطأة الغياب النوعي للقوي الحديثة وبعض أسبابه بعثي بحت. البعض الأهم من البعض الأخير، حسب تقدير صاحبنا، هو خروج حزب البعث العربي الاشتراكي بمجموعه من دائرة التفاعل مع النخبة العربية المستنيرة بتماديه المتمادي في الانغلاق علي نفسه منذ عقود متأثرا بتوجهات نموذجيه التطبيقين العراقي والسوري. أما البعض الأقل أهمية فهو إن تركيبة حزب البعث العربي الاشتراكي فوق- القطرية اقتضت غيابا طويلا للراحل عن السودان ( 25 عاما ) بحكم عضويته في القيادة القومية وهو غياب لم ينته بعودته للسودان عام 2003 بسبب الحالة المرضية التي داهمته حتى وفاته. تجربة البعد عن الساحة السودانية لم تعد غريبة علي الساسة السودانيين ولكن من يقبلون أو يتفهمون المنطق البعثي وراء خصوصية تركيبة الحزب فوق- السودانية هذه يدركون استثنائية الأعباء الباهظة التي تحملها بدر الدين ويقبلونها دون خصم علي دوره السوداني. آلاف السودانيين شاهدوه في شاشة التلفزيون محفوفا بمظاهر السلطة العراقية وفخامتها ولكن وراء ذلك كانت مسئوليات جسام تزداد جسامة دون توقف، أي وحزب البعث يتحول باضطراد محاكيا صورة سلطة دوله راحت تتطور شموليا فتضيق فيها دائرة اتخاذ القرار. وكلما ضاقت دائرة القيادة كلما ازدادت الأعباء كما وكيفا علي القياديين القلائل. وفي حالة بدر الدين مدثر توزعت الأعباء بين المتابعة اليومية اللصيقة لأحوال البعث في السودان وفي منطقة ممتدة من مصر حتى موريتانيا والمشاركة في بعض جوانب الحكم العراقي، لم يخفف منها هونا خلال السنوات الأخيرة إلا ثقل المرض المتزايد. كفاءات بدر الدين ومميزات شخصيته رشحته لصعود سريع في العلاقة مع القيادة العراقية وصدام حسين شخصيا، كما في هرمية القيادة القومية للبعث حتى أصبح نائبا للامين العام صدام متجاوزا بجداره شخصيات بعثية عربية عمرها ضعف عمره. الخلفية الأسرية ولد بدر الدين مدثر عام 1939 وولدت معه المسئولية وكذلك كعب أخيل الصحي الذي نفذت من ثغرته الضيقة يد الموت المبكر. فقد رحل الوالد الذي كان تاجرا في الجنوب في الأربعينات من عمره متأثرا بمرض السكر وضغط الدم، وهو وراثي في بعض الأحيان، تاركا ابنه البكر في العاشرة من عمره ومعه سليمان وإنعام وتيسير وأرملة شابه ينادونها في الأسرة " نينه ". وهو لقب مستعار من اللهجة المصرية قد يكون أثرا من آثار جذور مدثر سليمان شاهين النوبية أو اثر التلاقح العام مع الثقافة المصرية في أجواء قلب الخرطوم القديمة التي تنتمي إليها السيدة فاطمة عمر. هذه المنطقة كانت احدي البؤر الرئيسية لولادة الحداثة السودانية أطلق مخزونها المحلي التلاقح مع المصدر المصري فقدر لأهل العراقة المدينية هنا وبقية البؤر المشابهة تذوق ثمارها قبل غيرهم من أهل السودان ابتداء من الغناء الحضري كمظهر لنهوض ثقافي عام إلي السياسة الوطنية. وفي حدود ما يعرفه صاحبنا عن تاريخ الأسرة فأن هناك إشارتان واضحتان لمدي التفتح الذهني والنفسي للبيئة التي نشأت فيها السيدة فاطمة عمر. فمحمد عمر، شقيقها، كان ناشطا متميزا في الحركة الوطنية وثورة 24 كرم بعد وفاته بينما يرد ذكر شقيقته في تاريخ الغناء السوداني الحديث كملهمة لواحدة من اشهر أغاني حقيبة الفن. علي أن مدخل فاطمة عمر إلي تاريخ البلاد الذي سيبقيها في الذاكرة أجيالا وأجيالا، بعد عمر مديد نرجوه لها مخلصين بين ظهرانينا، كان في تأثيرها البناء علي أسرتها الخاصة. وهذه كانت توسعت لاحقا بذريتها من السيد كامل محمود: أحلام وخالد وعلي بينما بقي شقيقان توأمان عند سن السادسة عندما ذهبا يلعبان في ماء المطر. كنت عندما تدخل محيط الأسرة في بري اللاماب خلال الستينيات الأولي،حينما تعرف صاحبنا علي بدر الدين، تكتشف أن الأبواب مشرعة نحو مجموعة أصدقاء وليس عائلة سودانية تقليديه. أسرة متماسكة تنساب العلاقات فيها بنعومة ويسر بين الكبير والصغير، الرجال والنساء.. و " العم كامل " الذي اقترنت به السيد فاطمة بعد وفاة زوجها الأول، روح مرحة سهله أكثر شبابية من شبان العائلة وأصدقائهم. ليس عسيرا تصور ماكابدته هذه السيدة الجليلة من متاعب وما تنطوي عليه شخصيتها من مميزات لكي يتخلق من مجموعة أطفال تتوسع باضطراد مناخ عائلي بهذه الخصائص الايجابية. الأخوال والخالات لعبوا دورا بلا شك ولكن الأم هي التي كانت في قلب الأشياء يوما بيوم وعقبة بعقبه حتى شب الأطفال عن الطوق. شب بدر الدين ربا آخر صغيرا للعائلة قبل أن يبلغ مبلغ الشباب مجسدا قيم الشعور العالي بالمسئولية وقوة الاحتمال بما فاض عن الذاتي إلي العام ومن العائلي إلي الوطني مستلهما بشكل ما تراث أسرة والدته في هذا المجال ومستندا إلي ذكاء سياسي طبيعي حاد، هي مجموعة المكونات التي جعلت منه الأبرز بين مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان. ولكن الحقيقة هي أن الأسرة بكليتها كانت وراء هذا الدور التأسيسي.. مناخها الدافئ كانت قيمته مضاعفة لدي ثلة البعثيين أوائل الستينيات. هؤلاء كانوا وقتها يوشكون علي التجمد من صقيع برودة قصوى مصدرها مزيج العداء المكتوم والصريح أو ، ما هو اقسي علي المعنويات، الإهمال التام من حاضنتهم المفترضة في أوساط المتعلمين. في بري اللاماب كانوا يجدون الحاضنة البديلة. يتآنسون يبعضهم البعض من وحشة الصقيعة خارجها في وسط يرحب بهم كأشخاص وكبعثيين وفي قلبه قلب أم لم تكن غافلة عن المخاطر التي يتعرض لها بكرها ولكن ثقتها فيه وقد رأته ينضج قبل يومه رجلا مسئولا، وتكوينها الشخصي وارث الأسرة كان يجعلها ركيزة الحاضنة. المنزل كان مركزا بعثيا مكشوفا يمارس منه أيضا نشاط سياسي معاد لنظام نوفمبر 58 الدكتاتوري، والقادم الأعظم من الأذى لبدر الدين كانت نذره واضحة في الاعتقالات المتكررة التي يتعرض لها بينما ينجذب إلي دائرة قياديته الطبيعية والمكتسبة شقيقته إنعام ثم شقيقه الأصغر تيسير فيما بعد. بهذا المعني كانت الأسرة حقا أسرة البعث والآم أمه. اسر سودانية كثيرة وأمهات كثر تحملن ضريبة العمل العام من خلال البعث بعد ذلك بسنوات وسنوات عندما نما الحزب وانتشر وبعضهم ممن فقدوا أحباءهم دفعوا ثمنا اغلي، ولكن بمقياس فضل الرياده وغرس البذور الأولي تظل فاطمة عمر وأسرة مدثر- كامل مستحقة التوصيف. بدر البعث جادل صاحبنا ويجادل بأن مستحق صفة المؤسس الأول للحزب هو بدر الدين مدثر بما لاينتقص من ادوار الآخرين ولاسيما شخصية مثل شوقي ملاسي كان لها حضورها المميز نسبيا بالمقارنة للآخرين ممن قدر لهم أن يكونوا ضمن الصيغة العبثية الأولي بعد مرحلة الإرهاصات منذ منتصف الخمسينات سواء بفعل فعلهم أو مجرد الصدفة. أحزاب المدى التاريخي تنشأ عادة لمقابلة حاجة مجتمعية تاريخيه ولكن التوقيت يبقي رهينا بظهور شخصية ذات خصائص استثنائية في تلافيف تلك العلاقة الغامضة والمعقدة بين التاريخ الذي يصنع الإفراد والإفراد الذين يصنعون التاريخ. كذلك فأن التأسيس في الحركات التي تمر بمنعطفات هائلة لظروف خاصة بها أو الواقع الذي تتأثر به له أكثر من مرحله وتاليا أكثر من مؤسس. في سياق هذه التحفظات علي طبيعة الدور الفردي، حدوده وطبيعته، تنهض الصور التالية في سيرة بدر الدين مدثر سليمان شاهين كما يرسمها صاحبنا: الصورة الأولي: تحت شعر رأس لافت بغزارته والشارب الكث تطل عليك ملامح وجه مريح بتناغم ملامحه مركبا علي جسد متناقض بين ترهله وحركته الدائبة حتى أن احد أقربائه قال لأهله مرة إن ابنهم مثل العفريت تجده في كل شوارع الخرطوم. هكذا وقع نظر صاحبنا علي بدر الدين طالب الحقوق بجامعة القاهرة الفرع لأول مره، أي قبل ماينوف عن العشرين عاما من سياسة الترشيق التي طالت كبار المسئولين في عراق صدام أوائل الثمانينيات وإجراءات مكافحة أمراض ضغط الدم والسكر وأدت إلي تخفيض وزنه. غير أن الوقت لم يطل بصاحبنا ليهتدي إلي أن سر اجتماع الترهل والحركة في شخصية واحده يعود إلي أن مركزا ما في المخ كان يرسل إشارة واحدة لا غير إلي الجسد فينزاح كعقبة أمام الحركة، هي : لابد من إنجاح التجربة البعثية. تلك، بعبارة أخرى، كانت احدي إمارات عديدة لقوة الإرادة في تكوين شخصية بدر الدين مدثر فيما خص السلوك الشخصي. وإمارة ثانيه : الرشيد الطاهر، وكانا في احد الاعتقالات المتكررة لبدر الدين يتقاسمان عنبرا في سجن كوبر مع آخرين، قال مازحا إن " فلان له شهية للأكل ولكن بدر الدين له شهوه " . ووجبة دسمة كان آخر ما فعله بدر الدين قبل أن يسلم نفسه لقبضة نمير ي الدموية وربما للمشنقة لان الحزب وقتها لم يكن قادرا علي إخفائه اثر فشل انقلاب يوليو 71 بينما السلطة متأكدة من ضلوعه فيه. مع ذلك فأن صوم رمضان كان عادة متأصلة فيه منذ الصغر حتى وفاته مع أن الإفطار أو الصوم المتقطع لم يكن أمرا نادرا في الأوساط المدينية. وفي زمن ستيني كان عامرا بقيم الدين في المعاملات الخاصة والعامة، قبل أن يطرده الإسلاميون من القلوب إلي الألسنة والمظاهر، كان ارتياد الأزقة الحمراء ومقاربة المسكرات من قبل معظم الشباب أمرا عاديا بينما قائمة ( رذائل ) بدر الدين الشاب العازب كانت تشمل الآتي : زجاجة جعة واحده من حين لآخر، سفت صعوط، سيجاره وارتياد السينما. ومع الزمن القصير لم يبق من هذه القائمة إلا التدخين. الصورة الثانية يذكر صاحبنا جيدا، وكان خلال فترة طويلة في بداية البدايات عضوا في القيادة ومسئولا عنها أحيانا، كيف كانت شرارة مبادرة من بدر الدين مدثر هي التي تحيي موات جمرات تكاد تندثر. الواقع السوداني، لاسيما في أوساط المتعلمين كان ولا يزال أكثر ازورارا عن صفة العربي بالمقارنة لواقع أقطار الوطن العربي الاخري. إضافة لذلك فأن البعث في المشرق كان آنئذ محاصرا حد الاختناق بسطوة الناصرية الشعبوية وببداية سلسلة من التصدعات الداخلية نتيجة صراعه معها. من هنا كانت البدايات متعثرة تعثر احتضار في بعض الأحيان. يبلغ بنا اليأس قاعا مظلما فنبقي شهورا دون اجتماع واحد ويكون بدر الدين غالبا هو الذي يكسر حالة الاستسلام للعقم هذه. حتى عندما استوي العمل علي وتيرة استقرار ما كانت فكرة ( مجنونة ) من بدر الدين نقطة اختراق أوصل البعث فيما بعد إلي عتبة جماهيرية ما في غرب السودان لم يحققها في منطقة أخري. مثل كافة القوي السياسية السودانية، كبيرها وصغيرها، قديمها وحديدها، كان إفراد المجموعات البعثية الأولي يدعون وصلا بليلي الثورة المهدية بيد أن سدا منيعا متعدد الطبقات في عقليتهم ونفسيتهم كان يمنع أي تفكير جدي بإمكانية التعامل مع كردفان ودارفور منعا مطلقا وباتا. مزيج من الخلفية الأسرية الحتمية- الاتحادية والتنشئة المدينية زائدا قلة ا لمعرفة بالولاءات السياسية للقبائل البعيدة كان يلخص الغرب في مخيلة معظمهم بحزب الأمة المعادي لمصر والعروبة وفي الأنصاري المخيف حامل الكوكاب جندي جيش الرجعية الريفي. وعندما طفق بدر الدين في مخاطباته المنابريه يتجاوز الإشادة الروتينية العادية بالثورة المهدية إلي الحديث عن جماهيرها بنغمة ايجابيه بدا الأمر غريبا علي كافة إفراد المجموعة، وفي أفضل الأحوال عدوه ضربا من التشويش علي حزب الأمة، عدونا الأوحد وقتها. لعل تفكير بدر الدين الواعي نفسه لم يذهب في مطالعه ابعد من هذا المدى ولكن مداومته علي الكلام حول الموضوع كان بالتأكيد ينطلق من حدس ما بأن للمسألة بعدا أعمق وأرحب. بعد كانت بعض ملامحه تتضح رويدا رويدا تطويرا للفكرة تحت ضغط اضطراره للاهتمام بكيفية تنويع طريقة طرحه لها منعا لملل للتكرار. وهكذا هي الملكة القيادية : لا يشترط أن تكون عبقرية خارقة تنتج الأفكار متكاملة من أول وهلة وإنما هي دفع نحو أفاق غير مطروقة بمزيج من الخيال والواقع مضبوط المقادير لا يتوفر بنفس القدر لدي الآخرين ويؤتي أكله بعنصر مكمل للملكة القيادية وهو قدرة التأثير في من حوله حتى دون تعمد. في هذا السياق شرع صاحبنا، وكان موكلا إليه الجانب الثقافي، بمحاولات تقعيد للفكرة أفضت فيما بعد إلي " الثورة ا لمهدية مشروع رؤية جديدة " متلاقحة مع مجهودات وبحوث جادين وعتيق ومهاجر وغيرهم بينما توالد عشرات الناشطين الكردفانيين والفوراويين من مراكز للحزب في الأبيض والدلنج وأم روابة ومضارب المسيرية والزريقات بدر الغياب والتاريخ في سودان اليوم . سودان القسوة المرة المفروضة علي التوادد السوداني التقليدي بضغط الظروف يعز علينا الاعتراف بأن البال ، وبالتالي الوقت، لم يعد يتسع لمن يطول مرضهم مهما كانت رغبتنا عكس ذلك. تراكمت علينا فجائع الموت المبكر والإمراض المقعدة لأقرب الأقربين وأحب الأحباء فبقي الإحساس بالصدمة والمأساة مقصورا علي أولئك الذين يعيشون هذه التجربة لأول مره. أوضاع صاحبنا الشخصية الاستثنائية كانت تتيح له البقاء مع بدر الدين بعد عودته للسودان لفترات تطول أحيانا. يزداد إحساسك بالفجيعة عندما يعود إليك للحظات خاطفة كما عرفته قبل أن يهجم عليه تحالف السكر والضغط والكولسترول. في لحظات معينه يصفو ذهنه ويعود إلي مخزون الذاكرة القديمة المشتركة بينكما مستخرجا منها مالا تسعفك به حتى ذاكرتك أنت الصحية الصاحية. الذهن الذي يلاحظه الجميع مشوشا مضطربا يتفجر بتفاصيل عن أول مؤتمر للفرقة ( الشكل التنظيمي في البعث بعد الخلايا ) ومحاولات النقد الذاتي الساذجة التي كادت تتحول إلي ملاسنات شخصية بين فلان وفلان. تكاد تبكي فرحا وتحاول جاهدا الإمساك بهذه اللحظة المضيئة ولكنها تفلت منك فيعود الذهن إلي متاهات لا تعرف طريقك فيها. يطلب منك الحصول علي ممنوعات مهلكة في مثل حالته كالسجائر. يخالف كافة البديهيات والنصائح الطبية لمن يعانون مثله من كوكتيل، قاتل صاعق تفجيره عدم الانضباط التام في المأكل والمشرب قبل العقاقير وبعدها. كأنه كان يستعجل الرحيل ليحتفظ بصورته في الأذهان بهية عنفوانية أو يمارس نوعا من الانسحاب اللاشعوري كرد فعل للانهيار المريع لعالمه البعثي ( العراقي ). آخرون مثله ظلوا علي ولائهم لحزب البعث كما أعادت قيادة صدام صياغته ويسعون لإعادة بناء هذا العالم بحجارة ( المقاومة )، بعكس صاحبنا وآخرون ممن يعتقدون بأن الأفضل استخدام حجارة الديموقراطيه، لماذا لم يعد معهم بدر الدين ليبقي كما عرفناه حتى ولو بعدت بيننا المسافات السياسية؟ مهما كانت دوافع المحبة والتقدير الشخصيين والوفاء لذكريات الشباب يتعذر الهروب من فكرة أن رمزية بدر الدين مدثر ظلت فاعلة في مرضه أيضا كإشارة لمرحلة يتفق جميع البعثيين علي أنها انتهت وان اختلفوا في أسباب ذلك بين المسببات الداخلية والخارجية. مرحلة التأسيس والصعود كان بدر الدين رمزها الغني بلا منازع وأبت أقدار المرض إلا أن يكون أيضا رمزا لمرحلة الانحسار فماذا يبقي منه للتاريخ: هل تجب حقيقة كونه، حسب ما يعتقد صاحبنا ومن يشاركونه آراءه، ظل جزء فاعلا من التراجع المضطرد للتجربة البعثيه ما قدمه في المرحلة السابقة؟ وفق هذه الرؤية أهدرت قيادة صدام آخر فرصة لتعديل المسار نحو الأفق الديمقراطي بعد نهاية حرب الثمان سنوات مع إيران عام 1988 . وجاء غزو الكويت أوائل العقد التاسع ليكشف عن التكرس النهائي لوجهة الانغلاق ضد الآخر العراقي السياسي- الفكري مدشنا تحول الحزب إلي تركيبة عائلية- عشائرية تنافس الإسلاميين في الخطاب الديني. لماذا بقي بدر الدين مدثر متمسكا بقيادة صدام؟ هل هي القناعة أم الوفاء الشخصي لصدام حسين؟ هل خالطت إنسانيته ومبدأيته شبهة الحرص علي الأوضاع السلطوية المريحة بأكثر من وجه علي متاعبها وأعبائها؟ هل .. وهل ... وهل . هذه أسئلة لا يمكن لصاحبنا إلا أن يطرحها علي نفسه لأنها مطروحة من قبل الكثيرين بعثيين وغير بعثيين يتحدثون بلسان تاريخ سيكتب يوما ما بموضوعيه وتوازن. يوم يعود فيه البعث وبدر الدين إلي دائرة الاهتمام كجزء من عودة التطور السياسي السوداني إلي مجراه الطبيعي. وحتى لو لم تنجح محاولة إحياء حزب البعث الجارية الآن علي مسارين احدهما من داخل الصيغ السابقة والآخر من خارجها، فأن التفكير الموضوعي لا يمكنه تجاهل المساحة البعثية في تاريخ السودان المعاصر لاسيما خلال الثمانينيات. إن أعظم تكريم لشخصية ما هو أن تبقي مصدر الهام للأجيال اللاحقة. واهم شرط لذلك أن تقدم بصورة واقعيه بشريه فيها السلبي والايجابي وليس كأبطال الأساطير المجبولين من طينة الإيجاب المطلق. بهذا وحده يمكن للبشر الآخرين القادمين مستقبلا أن يتعرفوا علي أنفسهم فيها ويتأثروا بايجابياتها. في نعي بدر الدين ينعي صاحبنا نفسه شخصا وتجربة بعثية. جزء من أي إنسان يموت عندما يفقد عزيزا عليه خاصة في شطر العمر الأخير عندما يصبح الماضي وقاطنوه، أشخاصا وذكريات، اعز وأجمل مما كانوا عليه في مرحلة سابقه. أما التجربة فرغم أن إسهام صاحبنا فيها لا يساوي قطرة في محيط بالمقارنة لإسهام بدر إلا أن النزف العاطفي لنهايتها في مسارها القديم يبقي موجودا ومحزنا. فمع ما أعتبره صاحبنا أخطاء مزمنة فيه ، مما أدي لانسحابه منه، كانت هناك بطولات وصداقات ونوايا حسنه. بتاريخ 15 فبراير 1999 كتب صاحبنا رسالة مسهبة إلي بدر الدين مدثر شرح فيها تفكيره حول ضرورات تغيير المسار جاء فيها بالحرف : " فقد ظللت أمام الآخرين أقول دائما، عندما تأتي المناسبة، انه لولا بدر الدين مدثر لتأخر نشؤء الحزب في السودان عشرة أعوام علي الأقل ". وهي قناعة ستظل باقية دوما لدي.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | عثمان حسن الزبير | 05-25-06, 04:33 AM |
Re: مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | حسين يوسف احمد | 05-25-06, 12:39 PM |
Re: مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | حسين يوسف احمد | 05-25-06, 12:46 PM |
Re: مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | حسين يوسف احمد | 05-25-06, 12:50 PM |
Re: مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | حسين يوسف احمد | 05-25-06, 12:57 PM |
Re: مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | حسين يوسف احمد | 05-25-06, 01:04 PM |
Re: مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | حسين يوسف احمد | 05-25-06, 01:09 PM |
Re: مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | حسين يوسف احمد | 05-25-06, 01:13 PM |
Re: مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | حسين يوسف احمد | 05-25-06, 02:16 PM |
Re: مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | حسين يوسف احمد | 05-25-06, 02:20 PM |
Re: مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | عثمان حسن الزبير | 05-27-06, 02:04 AM |
Re: مائة يوم علي وفاة بدر الدين مدثر -سأبكيك .. سنبكيك غدا -عبد العزيز حسين الصاوي | عثمان حسن الزبير | 05-29-06, 01:44 AM |
|
|
|