قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-29-2024, 11:31 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-14-2006, 10:23 AM

Kamel mohamad
<aKamel mohamad
تاريخ التسجيل: 01-27-2005
مجموع المشاركات: 3181

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع (Re: Kamel mohamad)

    إدريس جماع:


    المصدر: مقال للكاتب حسن إبراهيم الأفندي بمجلة أزمنة عربية






    لعل أول اللحظات الباقية المحفورة داخل الصدر والعقل معاً هذا الموضوع نفسه, إذ قررت أن أكتب فيه منذ وقت مبكر من الشهر حتى يصل إلى المجلة في وقت مناسب يمكن الجهاز الفني القدير بها من تصميم إخراج جيد لموضوعي, وبما يرضي غرور شاعر يتمتع بشيء غير يسير من الصلف والكبرياء الزائفة أو الحقيقية, فكلاهما سيان والمثل يقول: (كله عند العرب صابون).

    جلست لساعة ونصف الساعة قبل يومين خلياً وكتبت سبع صفحات كاملة منسقة, وكان الحديث ينساب في سلاسة ويسر ودونما كلفة أو تكلف. كتبتُ شيئاً أُعجبت به كثيراً وظننت أنه سيلقى رضى وإعجاب القراء, ولكن... يبدو أني ضغطت على مفتاح طباعة على لوحة المفاتيح بدلاً من أن أضغط على مفتاح الحفظ, وأسرعت مغلقاً الجهاز للذهاب إلى النوم والمتابعة مساء اليوم التالي. كانت الطابعة مغلقة وفي العادة لا أفتحها إلا عند الحاجة, ومن عادتي أني أحفظ ما أبدأ كتابته على سطح المكتب ريثما تتم مراجعته وتكامل عناصره لأحوله بعد ذلك إلى حيث ينبغي أن يحفظ, ومن حرصي أنني أسجل جديد كتابتي وشعري على ما يشبه القلم ويمكن أن يستوعب ما تحفظه مائة وثمان وعشرون من الأقراص المرنة, وذلك أيضاً بعد الانتهاء من العمل بكامله.

    جئت في اليوم التالي مساءً وبعد أن تواصلت عبر الإنترنت بابني بالسودان والسعودية وأردت مواصلة الكتابة. كان عجبي واستغرابي كبيرين عندما وجدت الملف على سطح المكتب وليس به من سطر واحد ولا عنوان حتى. جُن جنوني ولعنتُ حظي العاثر ألف مرة, والمنحوس يجد العظم في الرئتين كما يقولون:



    إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه

    ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه

    إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه

    ولعل هذه الأبيات من الأبيات الشهيرة يحفظها الكثيرون حتى من الرجرجة والدهماء وسواد الناس ولكنها صادقة معبرة, مثلها في ذلك مثل الأبيات التي قال فيها الشاعر المرحوم هاشم الرفاعي:

    مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها

    ومن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها

    وأرزاق لنا متفرقات فمـن لم تـأتـه منا أتـاهـا

    ولعل البيت الأخير مما لا يحفظه إلا القلة والراسخون في ميادين الشعر والحفظ. عموماً كل شيء بقضاء, وعسى أن نكره شيئاً وهو خير لنا, وعسى أن نحب شيئاً وهو شر لنا, والله يعلم ونحن لا نعلم. ولابد أن نستفيد مما يمر بنا من تجارب وممارسات في مستقبل أيامنا إن تبقى منها شيء. ولابد أيضاً من أن أعاود الكتابة من جديد للموضوع محاولاً تذكر عناصره وما سبق أن كتبت, وإن كنت أؤمن أني لن أفلح في كتابته على النحو السابق, فالمزاج والحالة النفسية تختلف من وقت لآخر, ولكنها محاولة جديدة ربما لا تمتّ إلى ما سبق أن كتبت بصلة, فلله ما أعطى ولله ما أخذ, وإني والله على ما ضاع مني لمحزون كليم. ولست أملك ذلك الذكاء الوقاد الذي يجعلني أستعيد بسهولة ما ضاع, ولست كذلك خلي قلب ولا خلي عقل, وربما كان من نعم الله ألا أكون بذلك الذكاء الذي يقرب المرء من الموت أو ينبئ أن صاحبه إلى موت قريب, فالوسطية خير جعلتني على مشارف السنة الأولى بعد الستين. قيل أن أبا العلاء المعري عندما قال:

    وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل

    قال له صبي صغير: جاءت العرب بثمانية وعشرين حرفاً, فزدها. أعجز ذلك طبعاً أبا العلاء, ولكنه رأى في الصبي ذكاءً خارقاً. ويقال أن أبا العلاء تنبأ بموت قريب لذلك الصبي, وقد كان. ولعلي أذكر أن أحد أبناء خال أولادي كان ذكياً جداً وكان منضبطاً وجاداً في حياته رغم صغر سنه, وتعودت النساء عندنا في السودان أن تقول الواحدة منهن: سجمى. ذلك اللفظ دليل على وقوع شيء ما لا ترغب فيه عليها وتعتبره مصيبة, وقد قالت إحدى عماته ذلك اللفظ, فأجابها بكل جدية: والله لا أدع السجم يأتي إليك. كان حازماً, ولفتت عبارته تلك انتباهي, ولكني لم أكن أربط بين سلوكه المنضبط وذكائه والموت.

    كان يسكن في منزل جده لأبيه عمي أو حماي أو صهري بمفهومها لدى مختلف الأطياف في البلدان العربية, وفي يوم من الأيام والتيار الكهربائي كان مقطوعاً عن الحي, ذهب ليملأ وعاءً بلاستيكياً من الجازولين لتشغيل مولد الكهرباء الذي يقبع حتى تاريخه في فناء العمارة. كانت خبرته غير كافية لسحب الجازولين بخرطوم من برميل كبير, شُرق بالجازولين ودخل إلى رئته. تجبنت الرئة حسب إفادة الأطباء بهذا المصطلح الطبي. حاولوا إنقاذه, ولكن الموت كان أسرع من جهودهم, وبلغني الخبر فتذكرت ذكاءه الوقاد, وقصة ذلك الصبي مع أبي العلاء المعري, وعجبت كيف لم أستفد مما قرأت وعلمت.

    نعود إلى موضوعنا, فالعنوان يوحي لكل سوداني له إلمام متواضع بالأدب والثقافة, أنني ربما أود الحديث عن شاعر سوداني كبير هو الأستاذ "إدريس جماع", فعنوان ديوانه كذلك, ووددت فعلاً أن لو كان حديثي هذا عن ذلكم الشاعر الرقيق المرهف المشاعر والأحاسيس, والذي عاش معلماً للغة العربية بالمدارس الثانوية بالسودان, وكان من فحول المعلمين. لم يحتمل على ما يبدو الحياة وتقلباتها وآلامها وما فيها من تجاذبات وتناقضات, فقضى آخر عمره بمصحة للأمراض العقلية, تاركاً إرثاً خالداً باقياً من شعر قلما يجود به الشعراء من رصفائه ومن مبدعي الكلمة المنظومة. ورغم ذلك لم يلقَ حظوة على المستوى العربي والعالمي, ولعل مرجع ذلك يعود إلى إعلامنا البائس المهترئ في ذلك الزمان وإلى وقت قريب. ولعل عام 2005 أن يستغل استغلالاً جيداً للتعريف بفحول الشعراء السودانيين الذين لا يقلون شأواً ولا شأناً عن غيرهم ممن ذاع صيتهم وجاب الآفاق, بل ولعلهم أفضل منهم, فلطالما قلت أن التيجاني يوسف بشير كان أعمق تجربة وأرجح فلسفة من أبي القاسم الشابي التوزري المشهور من تونس الشقيقة, وكلاهما عاش في نفس الحقبة ومات بذات الصدر وفي نفس العمر. ولم يجد التيجاني عناية إلا محدودة من أخوتنا المصريين, فقد كتب عنه المرحوم الدكتور عبد المجيد عابدين, وقد عمل بجامعة الخرطوم كتابه التيجاني شاعر الجمال, وسمعت أن هناك كتاب آخر كتب عنه ولكنه لم يصادفني حتى تاريخه, ولعلي أجزم أن التيجاني كان فيلسوفاً كبيراً ومجّد الجمال كثيراً:

    من عدم لعدم ومن عناء لرهق

    هذه كانت نظرته عن الروح. أما الجمال فقد رآه بعيون فاحصة:

    وعبدناك يا جمال وصغنا لك أنفاسنا هياماً وحبا

    وحبوناك ما يزيد معناك وضوحاً وأنت تفتأ صعبا

    ومثال آخر لشعر حبه وتعلقه بالجمال:

    آمنت بالحسن بردا وبالصبابة نارا

    وبالمسيح ومن استظل به واستجارا

    إيمان من يعبد الحسن في عيون النصارى

    ترى ماذا كان سيقول لو حضر عهد الفضائيات وما تقدم من ذوات خدود وقدود ونغز جميلة, أتراه كان يزيد إبداعاً أم يتقزز لما يلقى من تجارة جسد مثلي؟

    ومن المؤسف ألا يعلم عالمنا العربي شيئاً عن شاعر العروبة عبد الله عبد الرحمن الضرير ولا عن شعر الشيخ عبد الحميد العباسي, أو شعر قامة ضخمة مثل أحمد محمد صالح على سبيل المثال لا الحصر, وإن برز ربما فقط عملاق وعلامة هذا العصر في اللغة العربية وأشعارها وسير وأخبار العرب البروفيسور عبد الله الطيب (رحمه الله), وذاع صيت القاص السوداني الطيب صالح ربما لظروف أحاطت بما تقلد من وظائف, وعرف العالم من حولنا قلة من الشعراء المحدثين لما لهم من نشاط ذاتي وملاحقة للمنابر والفضائيات وصلات ربما شخصية بالآخرين, وإلا فلماذا لا يشتهر كاتب قصة كبير مثل إبراهيم إسحاق إبراهيم, وله عدة قصص بدأها بكتابه (حدث في القرية) طبعته مطابع جامعة الخرطوم وهو من أرقى القصص العالمية, ثم أتبعه بكتابه (أعمال الليل والبلدة) وعدة قصص أخرى, وقد كان لي شرف تقديمه لأول مرة للقراء على صفحات جريدة الأيام السودانية على ما أتذكّر عام 1969 في ملفها الثقافي.

    ومن المؤكد أني جئت أكتب عن لحظات خالدة باقية في نفسي لا علاقة لها بالآخرين والشعر والشعراء والأدباء, لحظات يمازج فيها الحزن الفرح أحياناً أو تكون فرحاً صرفاً أو ألماً صرفاً, وما أكثر مثل هذه المواقف لرجل عاش ستة عقود بالتمام والكمال ودخل في عقده السابع تقريباً, ولكنه يعيش للعلم بقلب ابن العشرين أو أصغر قليلاً. فربما تفكر متطوعة في خطبتي دون أن أتحمل نفقات مالية, ففاقد الشيء لا يعطيه, وأذهب إلى أبعد من ذلك فأؤكد أن بيني وبين المال عهد وميثاق, لا يصل يدي ولا أقتنيه أو ألامسه, والمعاهدة سارية المفعول, وأخاف أن أنكص بها فتهاجمني قوة عظمى تقضي علي في طرفة عين, أو توعز للسيد كوفي عنان بعرض أمري على ما يعرف بمجلس الأمن الذي أصبح لا شغل له إلا إرهاب الآمنين في كل صغيرة وكبيرة. ومثل هذا الشيخ لابد أن يكون قد حلب الدهر أشطره كما تقول العرب, أحياناً يعبر عما في ذاته باقتدار وجرأة وإقدام وأعجب لذلك, وأحياناً يمسك في حكمة قل أو في جبن, أو ليس الجبن والخور والضعف يسمى في هذا الزمان حكمةً ورشداً؟

    حقيقة أنا كثير التردد وأتمتع بقلق كبير في أمور لا تستحق قلقي ولا فزعي, ولكني أتفاجأ بمواقف لي كأنما أملك فيها قلب أسد وأعجب لذلك, ولست من المصارعين أو من يميلون للمصادمات ولا أحب أذى لأحد ولو كان خصماً، إذ أنني أعتقد أنني آدمي ولست من فصيلة الثعابين ولا العقارب, فحب الأذية من طباع العقرب, وأستغفر الله إن آذيت بشراً, من المؤكد دون قصد مني. يصيبني الإحباط تارة, خصوصاً في زمان الحزن والأسى العربي هذا, فأقرر التوقف عن الكتابة, ويمسني اليأس فلا أرى جدوى للكتابة, وأردد في نفسي:

    لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي

    حتى جعلت عنواني على الإنترنت الذي يراه الناس, جريض الإلهام, جد رهام ووئام, ورهام ووئام حفيدتان لي من بنتي الكبرى وابني الكبير, ولكن لفظ جريض يعني الهم والغصص, وقد استخدمها عبيد بن الأبرص عندما قابل الملك النعمان وكان ملكا للعراق, ومعروف أن له يومان: يوم سعد يغدق فيه على من يلاقيه, ويوم نحس يجز فيه الرقاب. ومن سوء حظ عبيد أنه لاقى النعمان في يوم النحس, فقال له النعمان بعد أن عرف أنه عبيد الشاعر: أنشدنا, وكان عبيد خائفاً من القتل فأجاب: حال الجريض دون القريض. فسارت مثلاً تماماً مثل قولة الشنفرى في أسر بني سلامان في موقف مماثل: إنما النشيد على المسرة, وإن قتل الشنفرة ونجا عبيد. بالمناسبة لم يكن عبيد شاعراً في بداية أمره, وصدف أنه وأخته مي كانا يرقدان تحت ظل شجرة, ومر عليهما أعرابي سليط لسان, فأنشد عنهما قوله:

    ذاك عبيد قد أصاب ميا

    ياليته ألقحها صبيا

    فحملت فولدت ضاويا

    غضب عبيد لما سمع وسعى لإجابته, وقد نبغ في الشعر على ما يبدو بعدها حتى كانت له معلقته العاشرة الشهيرة, وذلك لا يتأتى لشاعر غير مقنع لعرب بلاغتهم كانت عالية, ولكن ما يحيرني أن العرب كانوا يعرفون أن الزواج من الأقارب ينتج عنه الولد الهزيل الضعيف, وتلك حقيقة علمية أثبتها العلم الحديث.

    قلت أزهد عن الكتابة وللعجب بومضة صغيرة تبدو هنا أو هناك, يعاودني حنين إلى الكتابة ثانية, فالكتابة قدر وصرعى ومرض ولا مناص للنزوع عنهم, فما يملك النيل تغييراً لمجراه, ورأيت إرضاءً لمن يقرأ مقالي من الأخوة السودانيين أن أحقق حدسهم إلى حد يسير في إلقاء بصيص ضوء على صاحب ديوان (لحظات باقية) أستاذنا الكبير إدريس جماع, وذلك قبل أن أدخل في خضم لحظاتي الشخصية الباقية.

    هو مؤلف نشيد:

    أنت حر فامش حرا تحت خفق العلم

    وقلنا إنه كان مفرطاً في أحاسيسه, مثالياً إلى درجة كبيرة, ومن يدري فلعل تلك العوامل ساهمت في نهايته المأساوية:

    ماله أيقظ الشجون فقاست وحشة الليل واستثار الخيالا

    ماله في مواكب الليل يمشي ويناجي أشباحه والظلالا

    هيّن تستخفه بسمة الطفل قوي يصارع الأجيالا

    خلقت طينة الأسى وغشتها نار وجد فأصبحت صلصالا

    ثم صاح القضاء كوني فكانت طينة الأسى شاعرا مثّالا

    ومن أجمل قصائده (أنت السماء) التي تغنى بها المطرب السوداني المعروف المرحوم سيد خليفة المعروف بأغنيتي (المامبو السوداني) و(إزيكم... كيفنكم), ومنها:

    أعلى الجمال تغار منا ماذا عليك إذا نظرنا

    هي نظرة تُنسى الوقار وتسعد الروح المُعنّى

    أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا

    ولو لم يقل غير البيت الأخير هذا لكفاه وأغناه. وللناس فيما يرون مذاهب, ولولا اختلاف الذواق لبارتْ السلع. ورغم ذلك كله فيقيني أن الجميل يظل جميلاً مهما اختلفت وذهبت الأذواق والمشارب كل مذهب وكل اتجاه.

    لست مؤمناً بأن النفس أولى من الصاحب, فذلك فيه الكثير من الأنانية المفرطة, فأين هذا القول من الإيثار وإنكار الذات؟ ولكني على كل حال جلست لأكتب عن لحظات تخصني لا عن شيء آخر. وإشفاقاً على القارئ الكريم وعدم إرهاقه, سأنزع إلى خلط اللحظات بين مر وحلو, ولولا تمازجهما لما استقامت الحياة, وقد قالها قبلي عميد الأدب العربي الراحل (يرحمه الله), فلو استمرت الحياة على وتيرة واحدة لسئمنا ولما أصبح لها معنى, فلابد من المرض لمعرفة قيمة الصحة, ولابد من الجوع لنعرف قيمة الغذاء, ولابد من الحزن لنقف على ضرورة الفرح, وهكذا تستمر الحياة, التي أبدع خلقها قادر مقتدر بعناية ودقة وتناغم وانسجام تؤكد وحدانية الخالق.

    أبدأ بلحظات حزني الأول الكبير حينما مرض أبي (يرحمه الله) مرضه الأخير ويلاقي رباً كريماً في منتصف ديسمبر عام 1958, وكنت حينها بض الأنامل ولا أعرف عن الحياة كثيرها أو قليلها. كنت مقرباً منه جداً, فأنا أحمل اسم أبيه ولعل الرجل كان يجد في عوضاً عن والده الذي رحل, مثلما أطلقت أنا اسم أبي على ابني الأول الدكتور إبراهيم. اشتدت على أبي وطأة المرض وبدأ ينازع في لحظاته الأخيرة, وتوافد أهلنا وأهل قريتنا الطيبون يعودونه. كان يرقد في الصالة الوحيدة البائسة بمنزلنا. استدعت أختي الكبرى لأبي (يرحمها الله) ويرحم أخواتي التسعة بما فيهن توأمتي, بالإضافة إلى شقيقي الأصغر أخي الأكبر مني سناً بثلاث سنوات فقط, وهو من بقي على قيد الحياة بجانبي, أقاسمه ويقاسمني ظُلَم الحياة وظُلْمها. وأذكر أنها قالت له أن أبانا يموت ولا يجوز أن يترك تحت الأنظار هكذا, وعلينا أن ننقله إلى الحجرة الوحيدة المجاورة للصالة, ولا يدخل عليه إلا المقربون. كانت الأخت حكيمة عاقلة واشتهرت بذلك. سمعت منها ذلك القول. صرخت في وجهها لأول مرة في حياتي ودعوت لها بالموت لا أن يموت أبي. تأثرت جداً وأجهشت بالبكاء, وأخذ أخي يواسيها ويلاطفها بأني صغير سن ولا أقصد وغير مسؤول وانتهرني بعض الشيء. أجابته بأنها تبكي علي لأني غشيم ولا أعرف شيئاً, ولا تبكي غضباً مني. عندها تأثرت على ما صدر مني, ولكني توجست شراً من الأيام القادمة.

    وفي صباح يوم الاثنين الموافق 15/12/1958, وبينما كنت أجلس مع شقيقي بفناء البيت نسعى للدفء بحرارة الشمس من برد شمال السودان الصحراوي الجاف البارد جداً, خرجت علينا أختنا الكبيرة لتقول أن الوالد مات. أسرعت مهرولاً للخارج لأرجع أخي الأصغر الذي كان ينوي الذهاب للمدرسة فقد كان بالصف الأول الابتدائي, وكان إن وجدنا نبكي يبكي, وإن أمسكنا عن البكاء أمسك. ولصغر سني فقد حاولت رثاء أبي بقصيدة كانت موزونة, ولكن معانيها طبعاً لا تزيد عن معاني ذلك السن المبكر, ولا أذكر منها إلا بيتاً واحداً الآن:

    مات الذي قد كان يملأ دنيتي ويحبني حب الحياة لجاهل

    ولا أذيع سراً, فقد بدأت منذ وفاة أبي أفكر في الموت والحياة, مرجحاً فكرة الموت وفلسفته على الحياة, وإن كنت أخاف كثيراً من الموت, وبالتحديد ما قبل الموت: المرض, فهو كما يقول العقاد فيه الكثير من إذلال المرء وإخراجه عن وقاره واتزانه, ولذلك فإن معظم دعواتي لله أن يكون موتي كما يقولون: من قوة لهوّة, أي من قوة لقبر بلا مرض. وبالمناسبة لا أنسى اللحظة التي وصلني فيها فجأة موت أخي الأصغر بذبحة صدرية لم تمهله لا كثيراً ولا قليلاً, وكان على سفر. حاولت جاهداً أن أعتبر الأمر عادياً وألا أبكي كابتاً مشاعري مصلياً قارئاً للقرآن منذ عدت من رحلة قريبة إلى المنزل في منتصف النهار, وحتى التاسعة مساءً, حيث انفجرت باكياً وأنا أستقبل هواتف السودان التي تعزيني, وعشت شهوراً عصيبة بعده. ولعل قصيدتي (ذكرى) في رثائه بعد معاناة شهرين من وفاته, جاءت صادقة تحمل من المعاني ما قدمني لكثير من القراء ممن لهم وزن أدبي مرموق ومواقع مميزة في الحياة, سعوا على التعرف علي لما أعجبتهم معانيها ومشاعرها الجياشة وكانت مقنعة لهم.

    ويجدر بي أن أخرج من هذا الجو الكئيب إلى موقف آخر سجل لحظة لا تنسى في حياتي, فقد صدف أن امتحنت الشهادة السودانية التي كان لها ارتباط وثيق بجامعة كمبريدج ببريطانيا, وكانت شهادتي تجمع بين المواد الأدبية من لغة عربية وإنجليزية وتاريخ والمواد العلمية, رياضيات أولية وإضافية وعلوم عامة وإضافية, وكان لنا حق اختيار المواد التي نمتحن فيها بحيث لا تقل عن ست مواد ولا تزيد عن تسع. وبقبولي بجامعة الخرطوم ولظروف سبق أن تحدثت عنها لم أستطع الالتحاق بكلية القانون إرضاءً للمرحومة الوالدة التي كانت تخشى علي من لقاء الله ظالماً في مجال القضاء أو المحاماة. وكان عندي عزوف عن كلية الطب لأن قلبي لا يحتمل حتى الآن رؤية مريض يقاسي الألم وسكرات الموت ولا تطيب نفسي لرؤية الدم والقيح وإجراء العمليات الجراحية. أما الهندسة فهي طبيعة عمل لا تتفق وشاعر يتعامل معها في حر وغبار وعرق, فكان علي أن أتجه مكرهاً إلى كلية الاقتصاد رغم عداوتي مع المال وجفاء دنيا الأعمال لي. وظل البروفيسور المصري (حنين) يكثر الحديث في دنيا منهجه, بينما وجدت نفسي لأسبوعين كاملين بلا تركيز, ويعلم الله لم أستفد ولم أعِ حرفاً واحداً, لا لضعف ولا لقلة علم المحاضر, حاشا, ولكن لأنني في الأصل كنت موجوداً داخل حجرة المحاضرات جالساً على المدرجات جسداً بلا ذاكرة ولا عقل ولا قلب. كنت أهوّم في عالم بعيد عن المحاضرة والحجرة ذاتها. كان المحاضر في وادٍ وكنت في وادٍ آخر تماماً, وكان الواديان متوازيين لا يلتقيان ولا في الخيال.

    كان ذلك هو الحال حتى اضطررت لتغيير مسار حياتي والالتحاق بالتربية لدراسة الرياضيات لأتخرج معلماً بالمرحلة الثانوية. وأشهد أني سعدت بالإقامة بالقسم الداخلي النظيف, عمارة من جملة عمارات للأقسام الداخلية, وكانت الوجبات الثلاثة بدرجة خدمة فندقية خمسة نجوم, الأكل بالشوكة والسكين وأطباق من لحم أو سمك وحلويات أو فواكه مع توافر الشوربة, يعني آخر فنطازية.

    ومما يحضرني أني عندما حضرت في البداية إلى القسم الداخلي, طلب مني أحد المشرفين الإيصال المالي رقم (15), وهو إيصال تحصيل رسمي لمبلغ خمسة جنيهات أمنية كتب ومقتنيات الجامعة التي أستفيد منها خلال فترة دراستي, بالإضافة لمبلغ نصف جنيه سوداني رسوم اتحاد الطلاب, كان المبلغان يسددان في وصل واحد. قلت له بأني لم أدفع, فأخطرني بأنه لا يستطيع إلحاقي بالقسم إلا بالإيصال أو مقابلة عميد الطلاب ليكتب لي إذناً خاصاً إن اقتنع بظروفي. وكان عميد الطلاب حينها البروفيسور المشهور الفيلسوف المرحوم "جعفر محمد على بخيت", اشتهر بالعمل الإداري الحاذق, واشتهر أكثر حينما تعاون مع "جعفر النميري" وزيراً, وكان فيلسوف الوضع وجاء بفكرة الترقي بالزانة دون الالتزام بالأقدمية, وإنما الكفاءة هي المعيار الأوحد, ولا شك أن الفكرة جيدة وقد استفدت أنا شخصياً منها, إذ ترقيت مرتين في عام واحد حينما أجاز مجلس الوزراء كسر حاجز القيد للترقي لعدد من معلمي مواد الندرة الرياضيات والإنجليزي والعلوم, مما جعلنا نرأس حتى من درّسونا في المدرسة الثانوية.

    ذهبت إلى مكتب عميد الطلاب وطلبت مقابلته. كان على ما يبدو على وشك الخروج من المكتب, ولإلحاحي تمت الاستجابة لطلبي. دخلت عليه. كان واقفاً. قلت له بأن مشرف القسم الداخلي رفض إدخالي إلا بعد إبراز الإيصال المالي أو بورقة منك, أما عن دفع المبلغ فلا أستطيع لظروف الفقر واليتم. فأجابني: ولكن القانون هكذا لا يسمح, فقلت له بأني أستحق أن تدفع لي إعانة مالية للنثرية والكسوة, لا أن تؤخذ مني نقود. فقال لي: إن شاء الله سنعطيك الإعانة فيما بعد, ولكن الآن ادفع المبلغ المقرر! أخبرته بعدم قدرتي على دفع المبلغ واستحالة ذلك, فقال لي: وما الحل في نظرك؟ أجبته: تقرر لي إعانة مالية تخصمون منها الرسوم المقررة وتعطوني الباقي! وفوجئت بالرجل يقول لي بحماس بالغ وإعجاب بالإنجليزية:YOU ARE VERY GENIUS, كررها مرتين ووعدني خيراً, وكتب لي أمراً بالبقاء بالقسم الداخلي. ومن لطف الله أنه لم يراجع كشوف من دفعوا, فقد كان اسمي ضمنهم, إذ كتبت الجامعة لوليّ أمري بقبولي بكلية الحقوق وطلبت تسديد المبلغ, فأرسل لهم به شيكاً. لم أكن أعلم ذلك وما علمت به إلا بعد أن تركت الجامعة والتحقت بالتربية وأرسلت خطاباً لوليّ أمري أخطره بما فعلت, فرد علي في استياء بالغ, بأن الأمر يخصني وحدي, وكان علي أن أستشيره قبل أن أقدم على هذه الخطوة لا بعد تنفيذها, وذكر لي ضمن جوابه بأن علي أن أسترد من الجامعة الشيك المدفوع. كان الرجل (يرحمه الله) يريد لي أن أعمل بالقانون وبالتحديد محامياً ومهما كلف الأمر.

    ذهبوا وبقيت بعدهم أجتر الذكريات... وهكذا تسير الحياة:

    يدفن بعضنا بعضا ويمشي أواخرنا على هام الأوالي


                  

العنوان الكاتب Date
قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-12-06, 10:39 PM
  Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع 3bdo05-13-06, 01:58 AM
  Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع قرشـــو05-13-06, 02:26 AM
    Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-13-06, 09:30 PM
      Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-13-06, 09:45 PM
        Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-13-06, 11:10 PM
          Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-13-06, 11:13 PM
            Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-14-06, 10:23 AM
  Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع عبدالغفار محمد سعيد05-14-06, 10:55 AM
    Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-14-06, 11:10 AM
      Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-14-06, 11:12 AM
        Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-15-06, 11:57 AM
          Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-15-06, 12:11 PM
            Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-15-06, 04:08 PM
              Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-15-06, 06:50 PM
                Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-19-06, 11:54 AM
                Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-19-06, 11:55 AM
                  Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-21-06, 11:35 AM
                    Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع عشة بت فاطنة05-21-06, 01:01 PM
                    Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع saif massad ali05-21-06, 01:18 PM
                      Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-23-06, 02:34 PM
                        Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-23-06, 02:36 PM
                          Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع saif massad ali05-23-06, 02:53 PM
                            Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع Kamel mohamad05-23-06, 04:55 PM
                              Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع محمد بهنس05-23-06, 06:01 PM
                                Re: قراءة في ديوان الشاعر العبقري الراحل إدريس جماع محمد بهنس05-23-06, 06:22 PM
                                  قيثارة الانسانية.........جمـــاع الانسان Siddig A. Omer05-25-06, 02:17 PM
                                    Re: قيثارة الانسانية.........جمـــاع الانسان Kamel mohamad05-27-06, 00:09 AM
                                      Re: قيثارة الانسانية.........جمـــاع الانسان Hisham Ibrahim05-27-06, 03:20 AM
                                        Re: قيثارة الانسانية.........جمـــاع الانسان Kamel mohamad05-27-06, 04:10 PM
                                          Re: قيثارة الانسانية.........جمـــاع الانسان Kamel mohamad05-29-06, 06:57 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de