|
الاستاذ الحاج وراق يكتب عن مؤامرة التفكيك
|
مؤامرة التفكيك!
الحاج وراق كُتب في: 2006-11-05
* ونحن في معهد العلوم الاجتماعية التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، اواخر الثمانينات ، حينها كانت اجهزة الراديو المصنعة محليا مصممة بحيث لا تسقبل الا المحطات المسموح بها، ولم تكن من بينها هيئة الاذاعة البريطانية، ولكن بواسطة رفيق شيوعي سوري- د. توفيق سلوم، مقيم في موسكو وقتها، وكنا نتردد على منزله ، واسهم اسهاما مهما في تحريرنا من رق الانغلاق العقائدي- استطعنا ان نتابع الاخبار (الممنوعة) عن الاتحاد السوفيتي في محطة هيئة الاذاعة البريطانية الانجليزية. وفي احدى مرات استراقنا ، استمعنا الى نشرة مسائية فعلمنا بخروج مظاهرة شعبية حاشدة في مدينة تبلسي، في جمهورية جورجيا السوفيتية، وقد واجهتها السلطات بالدبابات و الرصاص والغاز، فقتل حوالي ثلاثمائة متظاهر! * في صباح اليوم التالي، وبحسب جدولنا الدراسي ، كانت المحاضرة الاولى في (العمل السري)، وكان استاذنا من المختصين في (التأمين)، وغالبا ما يكون هؤلاء من المتنفذين في اجهزة الحزب الشيوعي السوفيتي السرية، وفي العادة كانت المحاضرة تقوم على درس تتخلله اسئلة ومداخلات، وقد لاحظ المحاضر اني لم اكن ميالا للمشاركة يومها، بل وباديا علىّ الغم والاكتئاب، فسألني عن السبب، فأجبته بما سمعته في محطة الاذاعة البريطانية وبأني لم اكن اتصور ان دولة اشتراكية تواجه مواطنيها العزل بالدبابات والرصاص. فأجابني المحاضر بحديث قوي ومتماسك عن وجود مؤامرة امبريالية لتفكيك الاتحاد السوفيتي ، تستغل التفاوت التاريخي في مستويات التطور بين جمهوريات الاتحاد السوفيتي، والاختلافات الاثنية واللغوية، وقد دعم حديثه باستشهادات من احاديث لمخططي السياسة الغربية كبيرجينسكي وكيسنجر وتاتشر، كان يحفظها عن ظهر قلب بما في ذلك تواريخ قولها ومصادرها، ثم اضاف بأن هذا المخطط يدخل الآن حيز التنفيذ، ويتوسل بغلاة القوميين في الجمهوريات السوفيتية، الذين يؤججون النعرات ويثيرون النزاعات، وان هيئة الاذاعة البريطانية، مثلها مثل (صوت اميركا)، وغيرهما من اجهزة الدعاية الامبريالية الاخرى كلها جزء من هذا المخطط الرامي للتفكيك واعادة الرأسمالية . وبالتالي يجب عدم تصديق هذه الاجهزة الاعلامية، و في ذات الوقت، تفهم موقف السلطات السوفيتية، التي تواجه تآمرا امبرياليا واجبها التصدي له، وصحيح انه خرجت مظاهرة فعلا في تبلسي، وهي تجربة جديدة على السلطات السوفيتية، والتي لم تعهد المظاهرات الا بعد سياسة البريسترويكا- اعادة البناء- والجلاسنوست - العلانية- ، ولهذا فإن السلطات لم تكن مجهزة لفض التظاهرات، فاضطرت الى اظهار القوة بإخراج الدبابات، ولما لم تتفرق المظاهرات بسبب تهييج غلاة القوميين اطلقت السلطات الرصاص، ولكن كانت الاصابات قليلة، ولم يكن ممكنا تفاديها، وقد دفعت إليها السلطات دفعا للحفاظ على النظام الاشتراكي وهزيمة المخططات الامبريالية! بعد هذا الشرح التفصيلي والضافي انفرجت اساريري واقتنعت تماما بالمبررات التي ساقها استاذنا ، فالعقائدي كما الزوج المخدوع ضعيف الشخصية، يكذب ما يرى بعينيه! * ولكن لحسن حظنا، ولسوء حظ استاذنا، اجتمع المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي في ذات اليوم وادان تعامل السلطات مع المظاهرة إدانة واضحة وصريحة ! وقد اضطر المكتب السياسي الى ذلك لعدة اسباب ، منها وجود شيفر نادزة ، وزير الخارجية، وعضو المكتب السياسي، والذي كان من جورجيا، وقد رفض حصد اهله بالرصاص ، اضافة الى ضرورات الحفاظ على (صورة) النظام بعد البريسترويكا داخليا وخارجيا، حيث كان جورباتشوف يجهد لتصوير نفسه ونظامه في صورة انسانية وديمقراطية. وبحسب التقليد الراتب فإن موقف المكتب السياسي المدين لما حدث قد تم التعبير عنه في افتتاحية صحيفة (البرافدا) - الصحيفة الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوفيتي . ولما كان اليوم الدراسي في معهد العلوم الاجتماعية يبدأ بقراءة افتتاحية (البرافدا) بواسطة المترجمة في المحاضرة الاولى، وكانت محاضرتنا الاولى عن (العمل السري)، فقد اضطر استاذنا وبعد يوم واحد الى ابتلاع كل مبرراته الضافية والمقعدة التي ساقها بالامس! ويمكن تصور مقدار حرجه كاستاذ ومقدار الحيرة التي ضربتنا نحن في المقابل! * واذ مرت سنوات على تلك التجربة، وتراكمت معارف وخبرات جديدة، فإن استنتاجي انه لا يمكن نفي (المؤامرة) الامبريالية، ولكن استخدامها كإطار تحليلي لا ينتج اية معرفة جديدة ، ولذا فالسؤال الصحيح والمنتج حقا انما شروط نجاح (المؤامرات)، وقد علمنا لاحقا بأن (غلاة) القوميين انما كانوا يناضلون ضد مظالم واقعية وحقيقية، فقد كانت الجمهوريات الطرفية للاتحاد السوفيتي تعاني تخلفا واهمالا مريعين، مدينة كناقورنوكارباخ لم تكن توجد بها مواسير لايصال المياه! ووصل الفساد والاهمال انه في احدى الجمهوريات كان مسؤول الحزب الاول يحول كل منتوج مزارع القطن لحسابه الخاص، بل ولديه سجن شخصي خاص به! والسبب العميق لذلك واضح، فالسلطات التي لا تستشعر مسؤولية تجاه محكوميها لا تهتم بخدماتهم ومرافقهم وتتحول تدريجيا الى مافيا تفعل ما تشاء..! واضافة الى الاهمال التنموي والخدمي، عانت الجمهوريات الطرفية من انكار ثقافاتها وفرض اللغة الروسية عليها! وبالنتيجة فإن متلازمة الاستبداد والفساد شكلت الآلية الاساسية لتفكيك الاتحاد السوفيتي، وقد تضافرت في ذلك مع ذهنية (المؤامرة) - المؤامرة ليس كمقولة تدفع للتحسب والانجاز ، وانما كعدة شغل للتبرير ولإغلاق ابواب الاصلاح، يستخدمها المزايدون لقمع اية مطالبة بحق مشروع ، وقد استخدمها المحافظون هناك للاعتراض على منح الجمهوريات السوفيتية فيدرالية حقيقية ، بدعوى انها تقود الى تفكيك الاتحاد! ولهذا فإن المطالب القومية، وبدلا من ان تسكّسن في الاطار الفيدرالي، فقد تحولت بالتجاهل والمزايدة ، الى الدعوة الى الاستقلال ! وهكذا تم التفكيك! * انتهى الدرس: * التجربة السابقة مهداة الى اسحق احمد فضل الله ، الذي لا يزال عقائديا مغلقا، وقد اكتشف اخيرا مخطط تفكيك السودان، ويكتب عنه هذه الايام، واقول له المخطط واضح ويستهدف تمزيق البلاد، ولكن ما هي شروط واداة تنفيذ المخطط؟ أليست الوضعية التي اقامها حزب الاقلية، الذي تكمن مصلحته السياسية في (فرق تسد) ، فلوّث البلاد ببعث الانتماءآت المغلقة والانكفائية - انتماءات الجهة والعرق والقبيلة؟! وبعيدا عن (خفايا) المؤامرات، اقول له ان التجربة الانسانية لتؤكد بأن ( الرباعي) الذي يدفع الى التفكيك انما هم المستبدون والفاسدون والغلاة والمزايدون، فإذا كان ذلك كذلك، فتأمّل فيمن حولك، كم عدد الذين خارج المربع ؟! وليحفظ الله السودان.
|
|
|
|
|
|
|
|
|