|
الحل العراقي بشقيه الصدامي والاحتلالي لن يصلح لدارفور.....د. عبد الوهاب الأفندي
|
الحل العراقي بشقيه الصدامي والاحتلالي لن يصلح لدارفور د. عبد الوهاب الأفندي قبل صدام كان هناك الخليفة عبدالله التعايشي، وقبل ممر المطلاع كانت كرري، وقبل كولن باول كان لورد كيتشنر. وقبل ذلك وبعده كان هناك الدرس الواحد الذي ينتهي كل مرة دون أن يفهمه الأذكياء. عبدالله التعايشي ابن دارفور الذي ارتفع إلي قيادة دولة رسالية لم يقرأ ابن خلدون بحسب علمي، ولكنه اتبع فطرياً وصفته في التقوي بالعصبية، فكان أهله في دارفور أول من ذاق بأسه حين أمرهم بالهجرة إلي عاصمته أم درمان ليتقوي بهم، وحينما رفضوا أرسل من نكل بهم وهجرهم بالقوة، فجاهدوا تحت رايته ومارسوا أيضاً باسمه العسف والتعدي حتي أصبحت عبارة مهدية في الحديث الشائع عند كثير من أهل السودان ترمز إلي الفوضي العارمة وسلطة الغاب. صدام حسين ربما يكون قرأ ابن خلدون، ولكنه أيضاً كان ابن تكريت الذي تولي قيادة دولة عربية عريقة تحت راية أيديولوجية قومية، وانكفأ بدوره علي العشيرة بل والبلدة والأسرة. لم يكن الظلم هو الذي أودي بكلا الرجلين، ولكنها المواجهة التاريخية مع تكنولوجيا عسكرية متفوقة وعنفوان الغرب الزاحف. ولكن العلم بما ارتكبه الرجلان من كبائر عزلتهما في قومهما كانت مما جرأ الغرب علي الزحف باتجاههما. فقد كان الخليفة أوسع في قبائل السودان تقتيلاً، وكان آخر من فتك بهم قبائل الجعليين، نكل بهم وهم جنده وجيش كتشنر كان قد بدأ زحفه باتجاه أم درمان بسبب خلاف تكتيكي حول استراتيجية المقاومة. وقام في هذا بالواجب عن الجيش الغازي، لأنه لم يقض فقط علي قسم كبير من جيشه فقط، بل حول هذه القبيلة والمتعاطفين معها من أهل الشمال إلي أعداء يتربصون به الدوائر. صدام أيضاً فتك بالأكراد وثني بالشيعة ولم يوفر السنة، وأفني كثيراً من جنده في أتون الحرب مع إيران، وأكثر من البطش بالباقين. كل هذا شجع المتربصين علي التأكد من أن ساعة الهجوم قد أزفت فباتوا ينتظرون الذرائع، وهي لا تعجز الباحث، بل يمكن اصطناعها. دارفور الخليفة تعود اليوم لتصبح محور معركة مصير ومستقبل السودان، ولكن هذه المرة فإنها تحتل الموقع الآخر، موقع خصومها من الجعليين في السابق الذين كانوا ينتظرون زحف كتشنر حتي يفرج عنهم. ولكن وجه الشبه ينتهي هنا، لأن وصف قوات الأمم المتحدة المقترحة في القرار الدولي رقم 1706 الذي صدر الأسبوع الماضي بأنها قوات احتلال غازية ترمي إلي احتلال الإقليم وتمزيق البلاد وصف تنقصه الدقة. فالتدخل المقترح يشبه نوعاً ما التدخل الذي وقع في البوسنة، وإلي درجة أقل ما وقع في كوسوفو والكونغو الديمقراطية وتيمور الشرقية وربما لبنان. فهو تدخل محدود الهدف والأجل، عنوانه الوصاية علي نظام قاصر، وإن كان غير معروف العواقب. ذلك أن التطورات الناتجة عن تدخل مثل هذا قد تفاجئ معارضي التدخل ومؤيديه معاً. القرار الدولي يركز في مجمله علي مهمة مراقبة والتحقق من تطبيق اتفاقيات أبوجا ونجامينا، ويشدد علي التعاون مع كل الأطراف وخاصة حكومة الوحدة الوطنية، ويحض الأطراف التي لم توقع علي الاتفاقية لكي توقع عليها. ومعظم المهام التي كلفت بها القوات هي منصوص عليها سلفاً في اتفاقيات أبوجا وأيضاً اتفاقيات نيفاشا، خاصة الشق المتعلق منها بحكم القانون واستقلال القضاء. والقرار لا يكلف بعثة الأمم المتحدة بالقيام بهذه الواجبات نيابة عن الحكومة، بل بمساعدة الحكومة وأطراف الاتفاقية، ويخولها التأكد من الالتزام بما ألزمت به نفسها أصلاً في الاتفاقيات الموقعة. ولعل أهم بنود القرار هي تلك المتعلقة بتوسيع صلاحيات بعثة الأمم المتحدة في السودان وتوحيد مهامها في دارفور والجنوب، وهذا قد يكون بدوره مقدمة لتوسيع صلاحياتها إلي جهات أخري، خاصة الشرق. فهذا يمهد لوصاية أممية فعلية علي كافة البلاد كانت مضمنة في القرارات الدولية، خاصة القرارين 1590 و1593 والتي استصحبها هذا القرار، ولم تعترض عليها الحكومة حينها. وفيما عدا النص الذي يتحدث عن مكافحة الحصانة (في إشارة لملاحقة المطلوبين بتهمة جرائم حرب) فإن معظم بنود القرار تركز علي مساعدة الحكومة وبقية أطراف الاتفاق علي تطبيقه وتقويته، وذلك بإدخال من لم يدخل في الاتفاق، وبسحب السلاح من أيدي غير المخولين، ومراقبة الحدود، ومنع الدول المجاورة من تزويد المتمردين بالسلاح، وحفظ الأمن وبناء المؤسسات التي نص عليها الاتفاق ومراقبة خرق وقف إطلاق النار ونحو ذلك. وهذه كلها أمور يجب أن تكون محل ترحيب الحكومة، لأنها تساعدها في تنفيذ واجباتها. ولكن هناك أكثر من مشكلة تعترض الوصول إلي هذه المرحلة. الأمر الذي يجب ألا يكون عليه خلاف هو أن الأوضاع في دارفور قد تدهورت إلي درجة لم تعد تحتمل، وأن هناك حاجة إلي تحرك حاسم لإنهاء الفوضي وانعدام الأمن الذي هدد استقرار الإقليم لعقود، ولكنه بلغ حضيضا جديدا منذ اندلاع الأزمة الحالية قبل عامين. وأي مساعدة باتجاه تحقيق هذا الهدف تعتبر أمراً إيجابياً. ولكن الإشكال الأكبر يكمن فيما لم تتطرق إليه اتفاقيات أبوجا، لأن هذه الاتفاقيات تتجاهل تماماً الطرف الأهم في الصراع في دارفور، وهو القبائل العربية التي تتهم بأنها وراء الميليشيات التي شاركت في الحرب. وتتعامل الاتفاقيات وقرارات مجلس الأمن هذه الميليشيات علي أنها حالة إجرامية، تعامل بالاعتقال والمحاكمة ونزع السلاح. وهذا يعني أن هذه القوات ستدخل في مواجهة مفتوحة مع الملايين من أهل دارفور. وهذا بدوره يستعيد الوضع في العراق الذي تم به التعامل مع منتسبي حزب البعث ومن ورائهم الطائفة السنية، وكان من نتائجه ما نري اليوم من خراب ودمار. الحل في دارفور لا يكون إذن بتوسيع القتال عبر إدخال أطراف جديدة فيه، وإنما يكون باحتواء النزاع القائم أولاً. وهذا لايعني فقط إدخال الفصائل المتمردة في العملية السلمية، بل إدخال الميليشيات العربية والقبائل التي تقف وراءها في هذه العملية أيضاً. الحديث عن دارفور الآن كما لو أن القبائل العربية لا وجود لها هو ضرب من خداع النفس أو المخادعة التي يروج لها بعض سياسيي دارفور ويستصحبها أقطاب الدبلوماسية العالمية، وهو نفس ما حدث في العراق أيضاً. فدارفور هي الداء والدواء، وهي التمرد والجنجويد. وينبغي عليها أن تعالج نفسها قبل أن تطلب الاستطباب من الخارج. وكما حدث في العراق، فإن هدف دعاة التدخل في هذه المرحلة هو طلب مقاولين من الخارج ليديروا الحرب الأهلية نيابة عنهم. فالقوات الدولية لن تقاتل إلا أهل دارفور، لأنه لا توجد في دارفور عناصر من خارجها هي سبب الأزمة. ولعل أقصر طريق للخروج من هذا المأزق هو إعادة تشكيل قوات الجيش والشرطة في دارفور بالتعاون بين الحكومة وفصائل التمرد، ونشر هذه القوات الجديدة في الإقليم لنشر الأمن والطمأنينة لجميع المواطنين. ويمكن باتفاق الأطراف الاستعانة بمن شاءوا من الخارج أو الداخل. ولا بد أن يصحب هذا توافق سياسي بين أهل دارفور لن يتم عبر مؤتمر جامع كما تنص الاتفاقية، بل عبر مفاوضات مباشرة بين الأطراف المتحاربــة. ولكن أهم من كل ذلك هناك حاجة إلي تغيير شامل للنهج السياسي الذي كان السبب في هذه الكوارث في المقام الأول. إن الحكومة تريد أن تجيش الشعب وراءها علي أساس شعار لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربيني رجل من هوازن ، دون الالتفات إلي أن السودانيين لا يريدون أن تربيهم قريش أو هوازن وإنما يريدون أن يكونوا أحراراً في بلدهم. ولعله قد آن الأوان للحكومة أن تتفهم أن المناورات الذي ظلت تتبعها للاستمرار في الحكم بدون أن تتعب نفسها للحصول علي شرعية شعبية تأتي من التوافق بين مختلف القوي السياسية علي أساس التراضي والشراكة، لم تؤد إلا إلي مزيد من العزلة الداخلية والخارجية، وأن هذا النهج سيعود بكارثة محتمة علي أهل الحكم شخصياً وعلي البلاد ككل. أهل السلطة يتصرفون ويتحدثون كأن الشعب يفتقد إلي الذكاء حين يطرحون القضايا بالصورة التي يطرحونها بها. وكنا قد فاصلنا القوم في السابق لأننا كنا نعترض علي الدكتاتورية باسم الدين، وكفي بها إثماً مبيناً، ولكن الذي حدث فيما بعد كان أسوأ، حيث تحول الأمر اليوم إلي دكتاتورية الأسرة والقبيلة والعصابة، وهو أمر يدعو إلي أكثر من المفارقة والانسحاب بالتي هي أحسن. لأن هناك من المنكر ما يصبح تغييره باليد واجباً. والإساءة إلي الإسلام من قبل فئة تعتقد (خطأ) أنها هي وحدها علي الحق شيء، والاستئثار الفاضح بالسلطة والمال من قبل طائفة تتميز قبلياً في عصابة من أهل الولاء والنفاق أمر مختلف تماماً. ولقد ثار كثير من الصحابة والتابعين علي عثمان رضي الله عنه (وهو من هو) لأنه آثر عشيرته ببعض من المنافع الهامشية خلافاً لمنهج الشيخين، فثارت فتنة ما زلنا نعاني من ويلاتها إلي يومنا هذا. وما نشهده اليوم من أثرة سيؤدي بدوره إلي فتنة سيكون من استأثر وغش أول ضحاياها، لأنه حين تتفجر الثورة ستكون القصور التي ابتناها القوم والمال الذي جمعوا أول وقودها، وما ينتظرهم في الآخرة من سؤال أعظم لما افتروا علي الله. لقد بح صوتنا ونحن ندعو إلي الاستماع إلي صوت الحكمة ونصائح العقلاء لإنقاذ أهل الحكم من مصير مظلم ينتظرهم قبل إنقاذ البلاد، ولكن عمي البصائر استعصي علي الدواء. وكل ما نراه هو مزيد من المناورات التي يخادع بها القوم أنفسهم. فهل يعتقد هؤلاء أن ما يخرجونه من مظاهرات مفتعلة تقنع أحداً في السودان أو خارجه بأن جماهير الشعب السوداني تصطف لإعلان الجهاد دفاعاً عن حق البشير وعلي عثمان ونافع وصلاح غوش في ضرب ظهورهم بالسياط والاستئثار بأموالهم وسلطانهم؟ إن التدخل الأممي بصورته المقترحة لن يحل المشكلة، بل يعقدها. ولكن استمرار المنهج الصدامي-التعايشي ليس حلاً بديلاً كذلك، بل هو لب المشكلة. والبديل عن الأمرين هو إصلاح شامل للحكم وتغيير جذري في النهج والعقلية التي تحكم صنع القرار، والتي لن تؤدي إلا إلي مزيد من الأزمات. فوجود سلطة معزولة شعبياً وغير قادرة علي حفظ الأمن والاستقرار (وهي الذريعة الأساسية لدعاة الدكتاتورية) يعزز الانطباع بأن البلد قاصر عن حكم نفسه ويحتاج إلي الوصاية الدولية. فالاستعمار كما كشف مالك بن نبي رحمه الله، لا يأتي إلا للبلاد والشعوب القابلة للاستعمار، والوصاية لا تفرض إلا علي القاصر الذي يعجز عن إدارة شأنه بنفسه. فلماذا لا تبدأ الحكومة حواراً حقيقياً مع معارضيها تتوفر فيه صدق النية لإنهاء كل أسباب الخلاف وتوحيد الجبهة الداخلية والاتفاق علي حلول ناجزة لكل مشاكل البلاد المستعصية؟ فهذا أولي بكثير من تسيير المظاهرات الكرتونية ورفع العقيرة بالشعارات التي لم تعد تنطلي علي أحد.
تأبي عقيدتنا تأبي شريعتنا
أن يصبح الناس أذيالاً وقطعانا
|
|
|
|
|
|