|
الاستـاذ .. انور محمدين . يلون كرنفال النخيل..
|
الاستاذ انور محمدين مثقف مهول ومهموم بالتراث الانساني
له اسهامات كثيره في كافة المجالات السياسيه منها والثقافيه والتعليميه
حيث طاف جل اقاليم وقري السودان والخليج معلما وداعيا للحرية والجمال
انقل اليكم بعد استأذانه وان كنت لم افعل بعد ..هذه اللوحه الكونيه
التاريخيه الاجتماعيه موسم الحصاد عند النوبيين ... منقول من منبر منتدي دلقو المحس dalgodas.com
عمتنا النخلة
تناولنا فطورنا المكون من قراصة بملاح البيض مبكرا وتوجهنا يتقدمنا والدنا على حماره إلى حيث نخيلنا, فجدي شيخ إدريس همت إمام جامع دلقو العتيق كان قد أفتى بأن ضحى الإثنين الماضي فترة سعد لذا دشنوا فيه حش البلح, وكان شيخنا يستقدم من مصر كل عام كتيبات فيها طوالع النجوم يحدد في ضوئها ساعة الخير لشتى المناسبات كالنكاح والختان .. إلخ. أمامنا شريط عريض من النخل متناسق يذكرنا بوجد السياب: عيناك غابتا نخيل ساعة السحر هناك ألفينا رحمة ينتظرنا فهو من قام بالتلقيح ويتولى الحش مقابل شمروخ من كل نخلة عادية وشمروخين من النخل الطوال. ومعظم هذا النخل موروث من أسلافنا تعهدوه بالرعاية والسقيا بالجوز المحمول على الأكتاف من النيل الشارد أحيانا والآتي حينا عند حوافه. أمي تكنس أسفل النخل وأساعدها وبعد حين يتساقط ثمر مختلف الألوان جله الأسمر ونبدأ مهمة اللقيط مثل ألياف القطن في الجزيرة وجبال النوبة. إذن نحن أمام شجرة مباركة أكثر انتشارا في العراق وأجود نوعا في تونس, التي تتلقف إنتاجها أوروبا. وهالني ما رأيت من غابات هائلة في أحساء السعودية. والتمر أغنى الفواكه وأرقى الثمار, وهو علاج للروماتيزم مجرب إن تناول المريض منه سبع حبات كل صباح مدى 40 يوما, نبدأ أكله من مرحلة الدفيق, اسمع وردي يشدو ويشكو: الدفيفيق الدابو نيّ .. أهله ضنوا عليه وعليّ ونستمر في تناوله حتى اليباس وتساقطه بفعل الرياح فنصحو قبيل الشروق نجمعه ونضيف إليه "الكرامة" التي تمنح لنا من الأهل لنشتري بعائده ما نشاء مثل الكور والبالونات والصفافير والحلاوة من كنتين فرج الله أو من الحلب, فضلا عن التجار الجائلين وسط النخيل. والحلب "الغجر" يفدون إلينا كل عام يتسولون ويصنعون معدات الصفيح كالمواقد ومن فرط احتكاكنا بهم ها هو شيخهم حيدر يسمي ابنه أنور تيمنا بكاتب السطور, وهو اليوم أسطى (قد الدنيا). وهذا مركب يتهادى على سطح النيل يحمل أزيارا جاء خصيصا للاستعانة به في جمع ثمار شجرات النخيل الغرقى مثل نخلات نوري طه التي تثمر بلحا أسود طاعما. والنخل مظهر اقتصادي واجتماعي في مجتمعنا, يرمز للانتماء وامتداد الجذور ومن أجل هذا يضرب (ناسنا) في الخرطوم أكباد اللواري والبصات لإدراك موسمه في البلد وإن قل عائده. وهو فأل حسن يستخدم في الطقوس, فجريده على المقابر نسأل به اللطف عن سكانها وثماره تقدم في عقود الزواج والختان وبه نستهل فطور الصوم, ليفه حبال, وساقه سقوف, وحتى نواته بخور وسبيرتو, وجريده سلال وأقفاص لدى غيرنا ولكنا لم نجود صناعتها. والنخل ينمو في كاليفورنيا في أمريكا بالآلاف ويحاولون منافستنا فيه, وآباؤنا كانوا يتخذونه مسكرا يروحون به عن أنفسهم نبيذا أحمر وأسود قويا يلفظ إعداده (مشقا) نلتهمه في تلذذ, ودكايا يقدم في المناسبات, فالزواج مربوط بموسمه, أما سعفه فتضفره النساء بروشا زاهية, منها المنمق الخاص بالأعراس (قجري) أو الأبيض المخصص للصلاة والتشييع. ونحن ننتقل من نخلة إلى أخرى يأتينا الغداء حيث نحن, مؤلف من كسرة وملوخية وعلى مقربة منا تناخ جمال قادمة من أرض الحجر شمالا تنوء بحمل الطباق (القمشة) والتنباك لمضع كبار السن, وقافلة أخرى آتية من السليم جنوبا تسوق العطرون والقفاف والثوم تقبل عليها النساء زرافات ووحدانا لاكتناز ما يكفي عاما أو بعضه بمقايضتها بالبلح, فضلا عن شراء "العدة" من الحلب ليس لوجباتنا فحسب, بل لزفاف البنات عند تزويجهن. وألطف أنواع التمر عندنا القنديلة والأبتمودة "الأسكنتة", وتناولت أجودها عند أصدقائي في الغابة, فهم كالشايقية الذين نقلوا الفسائل من المحس يحرصون على سقيه بانتظام عكس الحال عندنا إذ يترك الكبير دون سقيا غالبا كما لو كان شجرة سنط أو هشاب أو حراز, والأنواع الطيبة الرخوة تجنى ببسط البروش أسفل النخل وإدلاء الشمروخ بحبل حتى لا تنبعج, وهي كثيرة في السكوت "يا حليل عجوة السكوت, كما تغنى الفنان المهاجر مثلنا", ومثل تلك الأصناف يزربها أصحابها بالشوك عند خاصرة النخلة حتى لا يعبث بها الصبية الأشقياء أمثالنا. النيل يعلو صدره ويجري لأطرافه على الضفتين فالوقت دميرة والمزارعون في شغل ضاغط بجمع التمر وحصاد الذرة قبل اقتحام المياه الثائرة المعربدة.والنهر الهائج يحدث في جريانه العنيف الهدام واقتلاع الأشجار التي نراها طافحة على سطحه, وهو ماء كثيف أدكن من فعل انحداره من النيل الأزرق الذي يأتينا منه ثلثا النيل النوبي (شمال الخرطوم), أما الأبيض العريض الفاتر فما كان وصل الخرطوم لولا رافده السوباط. وحين كنت عائدا من صنعاء عبر أديس أبابا في مستهل الثمانينيات اهتزت الطائرة العملاقة التي أخاف اعتلاءها فأخبرتنا المضيفة الحسناء الباسمة أننا نعبر بحيرة تانا على الهضبة الإثيوبية مصدر النيل السلسبيل فطربت على دندنة جاري في المقعد الفنان الإثيوبي منليك الظريف الذي كان في طريقه للخرطوم لإحياء بعض الحفلات. ونحن ننهمك في التقاط البلح كنا نأكل المغري منه رغم أن حبوبتي صبرة كانت تقول إنها سمعت من كبارها إن الناس ماتوا سنة ستة جوعا والتمر في أفواههم, وذلك في سياق إقناعي بأهمية الأكل دون الاكتفاء بالبلح مقابل الوجبة. وكنا بمهارتنا الفطرية نشق الشمروخ في المقدمة من طرفيه ونهزه ليحدث طرقعة محببة (كجكجيّ). وتصلح زراعة النخيل في سائر الأراضي القاحلة لذا تعتبر مدينة بربر الخط الفاصل للنخيل في السودان إذ جنوبها يعتبر مناطق مطيرة. وبعد قدومي للسعودية واحتكامي للخبراء صححت معلومتين, أولاهما أن الشمروخ لا ينفذ من بطن النخلة إنما من بطن قاع الجريد لذا لا يقطع الجريد عند ولادة النخيل, والأخرى أن المادة الذكورية للنخل أنواع, وكل منها يصلح لأنثاه والمزارع بمقدوره التعرف على ذلك بالقياس والملاحظة. النيل سليل الفراديس في سيره يحمل الطمي الغريني وفيه نزرع الجروف ونجني أطيب الثمار والبقول دون إسبيرات ولا نفط, ويا لها من نعمى, وها هي واحدة من أعظم الدالات تتكون في بطن بحيرة النوبة عند وادي حلفا تتسع سنويا وتتمدد حتى إنها من المتوقع أن تكون آلاف الأفدنة, فرب ضارة نافعة. ومن أمنياتي الغالية وأحلامي العزيزة أن نستخدم أصنافا أجود لمنطقنا وأن ننشئ مصنعا لتبخير التمور وتصنيعها في دنقلا وأن نكثره بزراعة الأنسجة اعتمادا على مركز أبحاث السليم ـ دنقلا, وأحلم أن أرى الصحراء النوبية على الضفتين تصطف فيها ملايين النخل, فلدينا الأرض الرحبة والماء الوفير فلا ينقصنا سوى الإرادة! وبعض النخيل لدينا كان محجورا ومحجوزا وموقوفا على آل الميرغني حبا لهم وزلفى وإسهاما في الصرف على محبيهم وحيرانهم وعمل الخير, وكان من الموكلين بذلك جدنا الخليفة محجوب حاج علي وكان أهم من يحث طلاب دلقو على مواصلة التعليم وكان ذا بصيرة فهو كان ساعيا لبوستة دلقو بعد حاج الأمين وجاء بعده المرحومان عبد الشافع وعبد الرحيم أبو بكر.. إلخ. زحف المساء على جمعنا وها نحن نعود إلى البيت وفي الطريق قطعان النعاج العائدة من الرعي تثغو والحمير يعلو نهيقها بينما يرتفع نقيق الضفادع وعند دخولنا البيت تحرص أمنا على أن نطلع على العناقريب خشية العقارب ويتلاشى صوتها في الأذان الذي يرتفع بالمغرب. أنور محمدين الرياض
|
|
|
|
|
|