إهداء إلى كل من ذاق ويلات الحرب في بلادي الحبيبة: ****
يوم آخر محفوف برائحة الموت و البارود .. طيلة هذا اليوم لم أتوقف عن إطلاق زخات الرصاص حتى أحسست بكامل هيكلي المعدني يكاد ينفجر .. و أحسست بأن أصبع المقاتل الذي يضغط على الزناد قد أصابه الوهن و صار ينزلق من حين لآخر بعد أن إبتل بالعرق و أصابه الوهن .. كم أعشق رائحة البارود المتبقي على فوهتي و بقايا الدخان تتلوى مبتعدة .. فرِغ آخر مشط من أمشاط الذخيرة .. فإنسحب المقاتل و تراجع للخلف متقهقرا عن موقعه في المقدمة .. و لكنني لا زلت أسمع لعلعة الرصاص المنهمر من الإتجاهين ... و صيحات المتقاتلين تـنبعث من بين غبار المعركة و من بين تأوهات هذه الأرواح المزهوقة و أنين الجرحى .. وضعني المقاتل على أرض عشبية بللها المطر و رغم الحرارة التي تسري في كل أنحائي فقد أحسست براحة و إنتعاش .. فتحسَّرتُ على بلدي التي خرجتُ من صلب مصانعها .. و تمنيت أن أرجع لبرودة قبو ذاك المصنع و ضجيج آلاته .. إشتقتُ لسماع لغتي الروسية و رائحة الفودكا الفائحة من عرق العمال و أدخنة التبغ الرخيص تعبق من ( الأبرولات ) و الرطوبة التي تنتشر في المكان .. فكل هذا أحسن حالا من هذا الجنون المخيم .. يا لحظي السيء .. كل الرشاشات التي تم نقلها معي في نفس اليوم و في نفس الصندوق الخشبي.. تتدلى بسيور جلدية لامعة على أكتاف جنودنا أمام أبواب الكرملين .. و مجلس الدوما .. و أمام السفارات و القنصليات الأجنبية .. و بقِيَتْ أجزاؤها الخشبية كما هي تبرق و تلمع و تجد العناية اليومية ... أما أنا .. فقد تآكلتْ مؤخرتي الخشبية و بهتَ لونها .. إلا أن جسدي المعدني بقى متماسكا و متينا يؤدي دوره كما هو مطلوب منه .. كالنبت الشيطاني تفرعتْ قبيلتي هنا .. إستنسخوا مني الآلاف .. يوزعوننا كما رغيف الخبز .
زمجرتْ رصاصة مرقتْ من فوقي مباشرة لتستقر في صدر المقاتل .. و تناثر الدم و أصابني برذاذه الأحمر القاني .. و رأيته مضرجا ينتفض جسده كالذبيح قبل أن تسكن حركته .. و تجحظ عيناه .. تنظران إلى لا شيء .. و ترتخي أطرافه .. لم أحزن عليه .. فهو ليس بالأول و لن يكون الأخير قطعا.. منظر مألوف لدي .. و كلما رأيت مصروعا مصابا في مقتل و رصاصتي تستقر مقدمتها تماما عند نهاية جرحه .. تأكدت أنني أؤدي دوري كاملا .. و أنه لن يُلْقى بي في صندوق قمامة .. أو في كومة خردة .. قتلتُ المئات في عدة بلاد لا أعرف أسماءها .. و بين الأحراش ... إقتحمتُ بيوتا آمنة مقلقا مضجع نساء آمنات و أطفال يغطون في نوم عميق .. لا أفرق بين متقاتلين أو أبرياء يفرون أمام الجحيم الأعمى .. إنطلقتْ رصاصاتي لتستقر في أماكن مختلفة في الأجساد .. تقتل هؤلاء و تصيب أولئك بالعجز و الشلل و تجعل نفرا غير قليل يعيش بقية عمره بأطراف صناعية .. جنود و مدنيون .. و شباب و صغار و نساء و كهول .. ذات مرة حملني صبي يافع لعدة أميال .. و عندما تعب .. لف جسمي بأوراق من أشجار الغابة و ربطني بحبل طويل و جرني خلفه كما الخراف .. مهانة ما بعدها مهانة .. فمكاني معروف و كيفية حملي معروفة .. و لكن أن أُجرجَر بالأرض ؟ يقولون أن للحرب قوانينها و ظروفها .. هكذا يقولون .. و لكنني تأكدت الآن أن قوانين الحرب تتم صياغتها فقط عند إحتدام القتال ، لذا يجعلونني لا أفرق بين كل من يقف أمامي ..
هدأت الأصوات .. و ران صمت عميق .. الجثث يتم سحبها لتدفن في مقابر جماعية .. وجدت نفسي مع مجموعة من رفاقي على ظهر سيارة مكشوفة تنطلق من بين الأحراش لتتغير طبيعة المكان و أجواؤه .. إنطلقنا عبر الصحراء .. لا أدري وجهتنا .. ننتفض في صندوق السيارة المهتريء. تناقصتْ أعدادنا المتكومة في صندوق العربة الجيب عند كل محطة توقفنا عندها .. تناقلتني عدة أيادٍ .. و تفحصتني عيون مجهدة كثيرة .. و تسكعت من سوق لآخر .. تارة أباع في العلن .. و تارة تحت جنح الظلام .. و إستقر بي المقام ردحا من الزمن في خزانة بيت في مدينة بدتْ هادئة نوعا ما .. أقبع جوار قطع ذهبية و بضع عملات ورقية و معدنية. لم أكن أخرج إلا لكى يقوم مالكي الجديد بنظافتي ثم إعادتي مرة أخرى إلى الخزانة .. ذات صباح .. شعرت بأنه يلفني بكمية من الخيش و الصحف القديمة و يضعني في حفرة عميقة داخل حوش منزله و يهيل على التراب.. أصوات أحذية الجنود فوقي تماما .. يسألون سيدي الجديد بإن كان يملك سلاحا من أي نوع .. فأنكر تماما و بحزم و ثقة .. فتشوا كل ركن في البيت .. بقروا بطون الوسائد و ( المراتب ) .. حملقوا داخل الأزيار .. نبشوا ( سباليق المطر ) .... و مشطوا الدواليب و الحقائب .. حتى حقائب المدارس و القدور الكبيرة في المطبخ .. و لكن أحدا لم يفطن إلى الحفرة القابعة تحت الزهرية الكبيرة التي تقبع في ركن قصي من الحوش ،، و أنا أنعم هناك بجو رطب ذكرني ببعض من جو مدينتي ذات الصقيع الدائم .. أتمدد و أنكمش في ظلام دامس .. وددتُ للحظة لو أنني أستطيع الصياح ليسمع العسكر شكواى.. كى أخرج من عزلتي و هذا الكسل الذي أعيش فيه .. فقد أدمنت الرصاص و رائحة البارود و أنات الجرحى و صيحات النصر و همهمات الهزيمة و أذيالها التي يجرجرها المهزومون و المندحرون .. أدمنت هذه البانوراما الوحشية التي يعشقها البشر .. ظللت قابعا في تلك الحفرة مدة طويلة .. ذات ليل .. أحسست أن وراء الأكمة ما وراءها .. فقد إمتدتْ يد سيدي المرتعشة و هو يتمتم بسباب مبهم و يكيل اللعنات بغيظ و حنق .. و ألقمني مشطا مترعا بالرصاص .. و لم يذهب بي بعيدا .. ثم راح أصبعه يداعب زنادي بعصبية ظاهرة في حلكة الظلام يمطر جسدا نائما كمَّا هائلا من الزخات المتلاحقة حتى نفد مخزونه .. و الجسد النائم لم تمهله رصاصاتي كى يتأوه أو يتألم أو يطلق أنَّات ما قبل الرحيل .. و إنطلق سيدي لا يلوي على شيء و أنا معلق على كتفه بحزام جلدي .. و ظل يسير طوال الليل .. و عندما توارت أنوار المدينة .. عرفت أنني سأدخل مرة أخرى في سراديب أخرى تتشابك فيها أصابع بني البشر لأسباب أجهلها و سأظل أجهلها .. وقف الرجل الذي سار طوال الليل .. وقف عند بائع يبيع كل شيء عدا الرصاص ، فبضاعته معروضة أمامه .. و لكن الغريب في الأمر أن البائع أخرج له من تحت أكوام بضاعة لا تمت للرصاص بصلة ، أخرج له أنواعا من الرصاص لا تحصى ، فأنتقى الرجل ما يناسبني و إنفلت إلى وجهته .. يحث السير منفلتا من جريرته .. سار عدة أيام يتحاشى القرى و الأمصار .. و أنا أتدلى في تراخ و كسل .. أتمرجح على كتفه يمنة و يسرة .. يعلو جبلا و يهبط واديا .. يستظل بشجرة .. و تارة بسفح جبل .. يلتحف السماء و يفترش الأديم .. شق سكون الليل البهيم صوت كالرعد المكتوم.. و قبل أن يستقيظ الرجل النائم بعد عناء السير الطويل ، كانت يد أحد الصارخين قد تلقفتني و يد أخرى تقوم بشد وثاقه .. عند الفجر وجدت نفسي أرقد مع أنواع من الأسلحة أراها لأول مرة .. و أشكال لا تمت إلى بلدي بصلة .. رغم شبهها الكبير بي ..
أعطوا مؤخرتي الخشبية لونا جديدا .. و زينوها برقم جديد .. و هذه المرة .. فارسي يركب على بعير كلما أناخ به في بقعة إستقبلته الجموع بالهتاف و الزغاريد .. فيطلق الرصاص في الهواء يرد بها على ترحابهم ..
السنة التاسعة منذ أن خرجت من دياري دون أن يمنحوني عملا شريفا.. فقط ترخيص بالقتل .. و لكنه ترخيص كثير الثقوب .. فهو لم يحدد من هو المسموح له بالقتل و لم يحدد هوية المقتول ؟ و لم يوضح الترخيص من هو الجلاد و من هي الضحية ؟ و لم يحدد الترخيص أي شروط للتعويض عن القتل من أجل نصرة الظلم و الظالم .. و لم يحدد أصلا هوية العدالة و هوية القائمين عليها و أحقيتهم في إستعمالي لحماية هذه العدالة ..
وددت الآن لو بي خلل ما يصيبني بشلل تام .. فقد إختلط حابل القتلة بنابل المقتولين .. و الدم المسفوح أخرس لا يتكلم .. فالأرواح التي كان يملؤها بأسباب الحياة قد فارقت أجسادها و هي تلعن قاتليها لعنة أبدية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة