إبس IPISS و ( مُوُلينتو Moolainto ) جزء من رواية طويلة إهداء إلى روح أمي .. و إلى روح نجم الدين محمد شريف .. ***
على مدخل المعبد المواجه لبوابة القصر المنيف .. نُقشتْ حروف إسمها من عروق الذهب الخالص المستخرج من الجبال المقدسة التي ترقد ممتدة في سكون سرمدي و كأنها تستمد تعويذة عناية إلهية تمد أذرعتها لتحمي هذه الأسرة الملكية و رعيتها .. هي أميرة نوبية تنحدر من سلالة ملوك النوبة العظماء ... جدها لأبيها هو الملك ( سِدِنْ ) ORO SEDEN .. لا إخوة له .. وحيد أبويه .. يسمونه أحيانا الأخ الأكبر عند تقديم القرابين لآلهتهم و في مواسم الهجرة لطلب العون من النهر المقدس.... هي وحيدة أبويها .. نشأتْ يتيمة لم تكتحل عيناها برؤية أبيها و أمها .. لم تذكر الأضابير و النقوش على جدران القصر و المعابد شيئا عن والدها أو إسمه ،، و لكنها تُنْسَب إلى جدها مباشرة : ( إبس إبنة الكبير سدن ) ، فهو الذي تبناها و أشرف على تربيتها بنفسه بعد موت والديها .. كان لها بمثابة الأب و الأم .. فأولاها جل رعايته .. و سقاها عزة الملوك و شموخهم .. و أورثها حكمته و حنكته و بصيرته الثاقبة .. ترعرعت في كنفه الملكي ، فأحبها و قربها إليه بعد موت أبيها في معركة حربية جنوب بلاده ، و يقال أن سبب تعلقه الشديد بها هو شبهها الكبير بالملكة الأم ( كُنِتان ) Konetan و تمتعها بنفس صفاتها و جمالها .. فهي ذات جمال آسر ،، فارعة الطول ،، أبنوسية البشرة ،، يتدلى شعرها في ضفائرمجدولة غزيرة تشوبه حمرة بلون الشفق تجمعه و تشبكه للخلف بغصن مضفور من الذهب الخالص ينتهي في مقدمته بتمثال ذهبي في شكل تمساح تلمع عيناه بجوهرتين في لون الجمر... حادة الذكاء ، تصوغ أحاسيسها نظما و نثرا .. تنظم شعرا يترنم به الفلاحون في أوقات الحصاد .. و يستأذنها سدنة المعبد في تنظيم تراتيل أعيادهم و أهازيج نذورهم السنوية .. و يستبشر أهل العروس خيرا إن هي ترنمتْ بموشح تتغنى فيه بجمال العروس و أصلها .. و يتفاخر العريس بتشريفها حفل زواجه بأهازيجها .. يحبها الجميع ،، أسرتها .. الخدم و الحشم و أفراد الرعية .. معتدة بنفسها في غير كبرياء أو صلف ... يركن جدها إلى حكمتها كثيرا ، فيشاورها في ما يسوس به دولته و شئون الرعية و أمور القصر و ساكنيه ... تقلدتْ مقاليد الحكم يوما إبان خروج جدها بجيشه شمالا في حملة تأديبية ...فأظهرتْ لجدها بأن غرسه سيأتي أُكُله ... و هي لم تتجاوز بعْد حينئذ الستة عشر ربيعا .. فحينما عاد الجد .. قدّم له كبير أمناء القصر ثناءه العظيم لإبنته : ( فلتبارك الآلهة غرسكم و ليمتد بها ملككم و لتحفظها بركات النيل المعظم ) .. و امَّن كل السدنة على كبير الأمناء .. فإنفرجت أسارير العجوز عن إبتسامة رضا و سرور .. و نام ليلتها و هو مطمأن البال و طيف أمه الملكة يداعب ستائر الحجرة الواسعة و يتراقص خيالها مع ضوء المصباح كلما داعبت فتيله نسمة عابرة .. و كأنه يسمع كلمات الإستحسان من الملك الأعظم أبيه تتردد بين جنبات القصر المنيف .. ذات يوم و ضفتا النهر تبدآن في الإمتلاء بالماء المتدفق من الجنوب و تتلون صفحته بتباشير الطمى الواعد بالخير ،، خرجت ( إبس ) يتقدمها شموخها الذي لا يدانيه إلا شموخ ذاك الجاري الأزلي شمالا ،، تحيط بها كوكبة من صويحباتها و وصيفاتها يحِطْنَ بها من كل جانب .. تعبث بين يديها بمروحة مصنوعة من سعف النخيل المصبوغ ... تتراءى وسط جمع الفتيات بطولها الفارع و مشيتها المتئدة الخطْو و الإيقاع .. تنتعل حذاءا من سيور جلد الغزال المدبوغ يلتف حول ساقيها صعودا كنبات متسلق على جذع أجرد فيزيدهما جمالا .. تجلس على آخر درجة من درجات سلم قصر جدها الممتد حتى أطراف النهر العظيم الذي ترتطم بحوافه الحجرية موجات متتالية و كأنها تستأذن الأميرة في ملامسة أطرافها و دغدغة وجهها بحبات الرذاذ. فتصمت الفتيات إجلالا لهذا السكون الملكي .. ينتظرن إشارتها .. أو ترنمها بدندنة نابعة من قلبها الصافي المترع بنقاء المشاعر .. تجلس هناك ، تداعب صفحة النهر الخالد بأطراف أصابع رجليها ، فتنفر ساقها من بين فرجات غلالتها الحريرية كقطعة من البرونز المصقول. تقف وصيفاتها على مقربة منها . و القصر يرقد في الوادي المطل على ضفة النيل الغربية ،، تحده من الغرب سلسلة مترابطة من الجبال الداكنة تمتد من الجنوب إلى الشمال و كأنها قافلة تسير متمهلة على حداء الحادي ترافق النيل من على البعد في رحلته المقدسة لشمال الوادي. ترنو للضفة الأخرى ، ثم تارة تشخص ببصرها صوب الشمال حيث إنطلق حبيبها مع الأسطول النهري لمساندة الفرعون المصري ( أَحْمَس ) ضد الهكسوس الغزاة الذين غزوا أرض الفراعنة..... إنه الأمير ( مُولينْتو Moolaintoإبن الجبل ) .. عاشق التأمل بين الجبال.. حيث كان يذهب بعيدا و يهيم وسط تلك الرواسي منذ الصباح الباكر حتى مغيب الشمس .. شب عن الطوق حكيما حليما ، قوي الجسم .. مهاب الشخصية.. كثير الصمت .. ثاقب الرأى .. يحب قريبته (إبس) منذ صغره .. فشبا عن الطوق و هما في حكم المخطوبين بمباركة ( الملك ) .. تترنم (إبس) ساهمة بأغنية حزينة ،، ترددها معها الوصيفات و هن يداعبن أوتار قيثارة ضخمة ،، فيُرجِع النهر الصاخب الشدو للضفة مرة أخرى فينساب في تناغم تتلوى أصداؤه بين جنبات القصر المنيف و بين شجيرات النخيل الراقدة على الضفاف و أشجار اللبخ الضخمة و أشجار السنط التي تمتد فروعها تصافح وجه النهر. تقول بعض كلمات الأغنية :
و معناها : يا ماء الحياة .. يا أيها الهادر على إرجاع حبيبي أنت قادر فأطفيء لهيب قلبي و أجعل ليلي مضيئا كالنهار و قرِّب ذاك البعيد فأنت تقدر أن تجعل الكدر صافيا و تعيد الإخضرار لجفاف الأشجار
**
فينساب الصوت عبر دهاليز القصر ،، و كأنه يلتف حول أعمدته الضخمة و يعانقها و يلثمها برفق ،، و يلتف حول التماثيل الرابضة عند المداخل ،، فيردد كل من بالقصر هذه الأهزوجة ،، فتنتقل إلى الفلاحين في حقولهم ،، فيرفعون رؤؤسهم يصيخون السمع و يرددون الأغنية معها و كأنهم يشاركونها الدعوات برجوع الحبيب الغائب. ****
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة