د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-25-2024, 12:05 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-18-2005, 01:58 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد (Re: Omer Abdalla)

    الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد
    تعقيب على ورشة عمل الانصار" نحو مرجعية اسلامية جديدة ..."

    الحلقة التاسعة


    (32)

    يتحدث السيد الصادق عن ضرورة الاجتهاد ، ولكنه بعد ان ساق اسباباً موضوعية ، تدعو للاجتهاد كقوله (إن الأحكام التي اتفق عليها جمهور الفقهاء في كثير من القضايا لا تلائم عصرنا مما يوجب اجتهادا جديدا، كما أن نصوص ومقاصد الشريعة أوسع من الأحكام التي استنبطها الجمهور مما يتيح المجال للاجتهاد الجديد ) ، ذكر ان من اهم اسباب الاجتهاد، ان القرآن نفسه ، ظني الدلالة ، ويعطي احكاماً متناقضة ، وان السنة قابلة للتحريف والنسيان!! أسمعه يقول عن القرآن : (من أهم أسباب الحاجة للاجتهاد هو أن النصوص الإسلامية نفسها يوجد حولها اختلاف، بيانه:
    أ- القرآن: القرآن قطعي الورود ولكن نصوصه ليست قطعية الدلالة. قال تعالي ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) وقال (ما ننسخ من آية أو ننسئها بخير منها أو مثلها ) ووصف الامام علي آيات القرآن بانها حمالة أوجه . وبياناً لذلك استعرض المسائل الآتية:
    • هل يقول الإسلام بالجبر أم بالاختيار:
    الإنسان أهو مسير أم مخير؟ القائلون بالجبر استشهدوا بآيات مثل قوله تعالى:( وما تشاءون الا ان يشاء الله) والقائلون بالاختيار استشهدوا بآيات مثل (انا هديناه السبيل اما شاكراً واما كفوراً)
    • وما هي درجة التقوى المطلوبة؟ قال تعالى ( واتقوا الله حق تقاته ) وقال ( فاتقوا الله ما استطعتم)
    • وهل تقبل التعددية الدينية؟ قال تعالى (ليسوا سواء من أهل الكتاب ، أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واؤلئك من الصالحين ) وقال (لكم دينكم ولي دين ) وقال ( ومن يبتغ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه )
    * وقال تعالى ( كفوا أيديكم واقيموا الصلاة ) وقال ( وجاهدوا في الله حق جهاده )
    * وقال تعالى ( وان تبدوا ما في انفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله ) وقال ( لا يكلف الله نفساً الا وسعها)
    * وقال (وجزاء سيئة سيئة مثلها ) وقال ( فمن عفا واصلح فأجره على الله )
    * ووصفت الذات الآلهية بصفات مماثلة للبشر . وقال تعالى ( ليس كمثله شئ )
    * ووصفت الجنة بأوصاف مشابهة للمعهود في الدنيا . وقال تعالى ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )
    فهم هذه الثنائيات – هي كثيرة يوجب تفقهاً وتدبراً على نحو ما حث عليه القرآن نفسه . قال تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها ) وقال ( والذين اذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً ))

    وقبل ان نبدأ في شرح هذه المعاني ، التي اشكلت على السيد الصادق ، رغم انها من اسس التوحيد ، وانه يزعم انه المفكر الأسلامي ، الذي سيقدم الاجتهاد الأمثل ، نود ان نشير الى مبلغ ما اثاره من بلبلة ، وتشكيك ، دون شرح او اجلاء لما ظن انه من الاشياء الغامضة ، والتي يحتاج فهمها ، على حد زعمه ، للتدبر، والتفقه ، وهو أمر لا يتوفر لمعظم مستمعيه من الانصار . ما هي الرسالة التي يريد الصادق ان يوصلها للمستمعين ، حين يذكر ان القرآن يقرر تارة ان الانسان مسير، وتارة انه مخير؟! او انه يجب ان يرد السيئة ولا يردها؟! الى اخر ما اثاره من ما يبدو وكأنه تناقض في نصوص القرآن ؟! وهل ما يدعو للاجتهاد ، هو اختلاف المجتمع ، عن مجتمع القرن السابع الميلادي ، أم هذه المعاني العرفانية الدقيقة ، والتي لم يعالجها الصادق رغم انه اوردها؟!
    ومهما يكن من أمر المعاني المتشابهة الدقيقة ، فان الصادق قد أخطأ وسيلة معرفتها ، وذلك حين قال (فهم هذه الثنائيات – هي كثيرة يوجب تفقهاً وتدبراً على نحو ما حث عليه القرآن نفسه . قال تعالى "أفلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها" وقال "والذين اذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً") .. والسبب في خطأ الصادق ، هو ظنه بان التفقه ، والذي يقوم على التحصيل النظري ، والذي درج عليه الفقهاء ، يمكن ان يحصل به اسرار القرآن!! وهو ظن فاسد ، وايسر ما يقال في فساده ، انه يخالف حتى الآيات التي اوردها الصادق نفسه!! فقوله تعالى "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها" ، دل على ان التدبر ، الذي يحدث الفائدة ، انما يتم بالقلوب ، التي لم تغلقها الذنوب ، عن الاتصال بالله .. وعن القلوب المغلقة ، بالاقفال ، قال عز من قائل "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" .. والقلوب انما تجلى بالتقوي ، والعلم الذي هو ثمرة هذه التقوى ، هو الذي به تتدبر القلوب ، المعاني الدقاق ، وتميز بينها .. والآية الاخرى ، التي اوردها الصادق ، تسير في نفس المعنى "والذين اذا ذكروا بآيات الله لم يخروا عليها صماً وعمياناً" فالعمى المقصود هنا ، ليس عمى البصر، وانما عمى القلوب .. قال تعالى "انها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"!!


    (33)

    أول ما يجب الاشارة اليه ، في أمر المتشابه من القرآن ، هو ان للقرآن تفسير وله تاويل .. والتفسير هو شرح معاني القرآن ، اعتماداً على ما تعطيه اللغة العربية ، والمفسر الى جانب المعرفة بلغة العرب واساليبها ، يحتاج ايضاً الى الالمام بتاريخهم ، وحروبهم ، واشعارهم ، وثقافة مجتمعهم ، الذي نزل عليه القرآن .. ولما كان علم التفسير، علم نظري ، فان التفاوت بين المفسرين ، لا يتم الا من حيث التحصيل ، الذي يمكن ان تسدد ثغراته ، بالدرس والاطلاع .. والتفسير لا يعطي الا معاني ظاهر القرآن ، ولا يستطيع ان يخوض في اسراره ، وانما يكتفي بشرح الاحكام الشرعية العامة، وهو ان حاول الدخول في الاعماق ، لا يأتي بما يحسن السكوت عليه .. ومن ذلك ، مثلاً ، محاولة بعض المفسرين ، لشرح الآية "الم" في بداية سورة البقرة ، فقد قالوا (الالف من الله واللام من جبريل والميم من محمد) يريدون ان معناها ، ان الله انزل القرآن ، بواسطة جبريل الى محمد ، وهي ، كما يرى القارئ ، محاولة فاترة لا تضيف معنى .
    أما التأويل ، فانه قمة هرم المعنى ، حين يكون التفسير قاعدته . وهو انتقال من كثيف المعنى الى لطيفه ، بابراز المقصود من وراء النص ، فيما بعد المعنى القريب له .. ولا يعتمد التأويل على اللغة العربية ، الا كمدخل ، ولكنه يعتمد على العلم ، الذي تحققه التقوى ، فان ثمرة التقوى المباشرة ، هي العلم عن الله .. قال تعالى في ذلك "واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم" .. وانما ينعكس العلم من القلب التقي ، على العقل ، فيعينه على دقة التمييز، وهذا ما يعرف بالفرقان ، قال تعالى "يا ايها الذين آمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم" .. وحين يجعل المفسر، اللغة ، وسيلته الاساسية للفهم ، يعتمد العارف في تأويله، على التوحيد. وانما يوضح التوحيد المعنى ، الذي قد تضلل عنه اللغة ، لو أخذت بمفردها .. ومن أمثلة ذلك ، قوله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً" ، فان اللغة تعطي المعنى بان أمر الدين قد اكتمل ، ولا يرجى فيه أمر مستانف . وبناء على هذا الفهم ، رفض الفقهاء ، أي دعوة جديدة في اطار الاسلام .. ولكن التوحيد يقول ، ان القرآن كمل انزاله ، ولم يكمل تبيينه، ولن يكمل، وانما ينفتح باب الفهم في معانيه الى الاطلاق .. وذلك لانه كلام الله ، وكلامه تبارك وتعالى ، صفة قديمة ، قائمة بذاته ، وهي لدى التناهي ذاته المطلقة .. قال تعالى "حم * والكتاب المبين * انا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون * وانه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"!! وفي معنى ان بيان القرآن لا ينتهي ، يجئ قوله "لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءآنه * فاذا قرأناه فاتبع قرءآنه * ثم ان علينا بيانه" وما يكون بيانه على الله لا يستنفد ..
    وفي الاشارة الى ان المعاني ، انما تتحقق بمجئ التأويل ، يقول تعالى "ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون الا تأويله؟! يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون" .. وحين ينكر الناس ، المعاني التي يرد بها التأويل، يسوقهم ذلك ، الى انكار حقائق الدين الكبرى ، التي اشتمل عليها القرآن ، ولم يحيطوا هم باسرارها.. قال تعالى في ذلك "وما كان هذا القرآن ان يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما ياتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين" .. وفي قصة موسى والخضر، حين لم يستطع موسى عليه السلام ، معرفة الحكمة ، مما فعل الخضر عليه السلام ، قال تعالى على لسان الخضر " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً" .. وحين يقوم التفسير، على علم الشريعة "الظاهر" ، يقوم التأويل على علم الحقيقة "الباطن" ، على ان التأويل ، ينبغي الا يخالف المعنى الظاهر، الذي قام عليه التفسير، وذلك حتى لا يقطع المبتدئين ، لانه ليس للباطن من سبيل الا الظاهر ..
    والسبب في ان للقرآن تأويل وله تفسير، هو انه حديث من الرب في عليائه ، الى العبد في أرضه . ولقد تنزل المعنى ، عما هو عليه عند الرب ، تنزيلاً من بعد تنزيل ، حتى يصل الى ما يستطيع العبد ادراكه.. قال تعالى "وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً" .. ولما كان الانسان يدرك باللغة ، فقد صب الله تعالى ، كلامه القديم ، في قوالب اللغة العربية ، فحملت منه ما تطيق وظل جل معناه ، خارج اللغة، يبدأ من حيث انتهت اللغة ، ويسير الى الذات العليّة ، في اطلاقها!! قال تعالى " حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون * وانه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"!! على ان القرآن ، حين تنزل ، كان يتنزل على مستويين مستويين .. ومعنى ذلك ، ان كل معنى ندركه ، لانه قريب منا ، خلفه معنى آخر، بعيد عنا .. فاذا ترقينا ، وادركنا ذلك المعنى البعيد ، أصبح قريباً ، ولاح لنا خلفه ، معنى آخر بعيد.. غايتنا في ذلك ، ان ندرك المعنى ، الذي في أم الكتاب ، وهيهات!! ذلك انه كما يقول السادة الصوفية "لا يعرف الله الا الله ولا يدخل في ملكه الا ما يريد"!! والى هذه الظاهرة ، التي سماها الصادق المهدي "الثنائية" ، وسماها الله المثاني ، الاشارة بقوله تعالى "الله نزل احسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد" .. وانما بالجلود والقلوب ، اشار الى الظاهر والباطن ، وهو أهم وجوه المثاني ..
    وادنى منازل التأويل من التفسير، معرفة الحكمة وراء النص ، ولكنها مع ذلك ، لا تتاتى بمجرد التفسير ، ولهذا فان التفسير، لا يمكن ان يوفق بين النصوص ، التي تبدو وكأنها متعارضة، وهو ما تورط فيه السيد الصادق ، فلم يظفر الا بالتناقض الذي يشكك الاذكياء في القرآن .. وعجز الصادق عن التأويل ، يحرمه الحق في الاجتهاد العصري ، الذي يحتاج لمعرفة الحكمة ، وراء النصوص وامكانية تجاوزها ، لما هو اولى منها ، هذا لو كان الصادق ورعاً ، وحريصاً على الحق ..


    (34)

    فاذا نظرنا الى قضية الجبر والاختيار، من هذا المنطلق ، راينا ان المعنى الظاهر، الذي تعطيه الشريعة ، هو ان الانسان مخير.. وهو يشعر ان له ارادة مستقلة ، وحرة ، وعلى هذا الشعور، وما ترتب عليه ، من عمل ، قام الحساب والعقاب .. ولكن في الحقيقة ، فان الانسان مسير، كغيره من عناصر الوجود ، ومخلوقاته ، وما شعوره بانه مخير، الا وهم جاء الدين بمنهاج شريعته ، وحقيقته ليخلصه منه ..
    فالحواس ، وهي وسائل ادخال المعرفة ، على العقل ، لها وهم ، والعقول هي التي تصحح وهم الحواس .. فالعين المجردة ، ترى الخطين المتوازيين ، يلتقيان عند الافق .. ولكن العقل ، يرفض ذلك فلو ان خطي السكة حديد التقيا ، لسقط القطار .. ونحن نرى النجوم ، في الليلة الصافية ، مثل حبات العنب ، ولكن هذه النجوم التي رأيناها صغيرة ، لبعد المسافة ، هي شموس أكبر من شمسنا ، وشمسنا اكبر من ارضنا!! وهكذا بمثل هذه المعرفة تتحرر العقول من اوهام الحواس ..
    وكما ان للحواس وهم ، تصححه العقول ، فان للعقول وهم ، يصححه التوحيد .. ووهم العقول ، هو الارادة ، وانما يقرر التوحيد ، ان المريد في الحقيقة واحد!! وهذا مستوى وحدة الفاعل ، قال تعالى "ام جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار" .. ولما كان القرآن كتاب تربية ، وتسليك ، فقد اتبع اسلوب التدريج ، ومن هنا جارى وهم الحواس ، ووهم العقول ، حتى يخلص الانسان ، ويسوقه على مكث ، وتلبث ، في مراقي التوحيد ..
    وفي باب مجاراة القرآن ، لوهم الحواس ، يجئ قوله تعالى "والسماء بنيناها بأيد وانا لموسعون * والارض فرشناها فنعم الماهدون" ، وقوله "والله جعل لكم الارض بساطاً * لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً" ، وقوله "والارض بعد ذلك دحاها" ، وقوله "والى الارض كيف سطحت" .. والسبب في ذلك، هو ان الناس ، حين نزل عليهم القرآن ، كانوا يرون الارض بأعينهم ، مسطحة ، ويسافرون فيها ، أياماً و ليال، ولا يرون غير سطحها الممتد ، فلم يرد المشرع ، ان يضيف الى عبء الدعوة الجديدة عبئاً آخراً ، ليحدثهم مباشرة ، عن ان الأرض كروية ، وان ما تعطيه أعينهم ليس الا وهم ، سببه كبر الارض، ومحدودية البصر .. فاذا ما تطور الانسان ، وشاهد صور الأرض ، من الفضاء الخارجي ، وعلم انها كروية ، سيجد ذلك أيضاً ، مما يمكن ان يستشف من القرآن ، في قوله تعالى "خلق السموات والارض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل" ..
    وكما جارى القرآن ، أوهام الحواس ، جارى وهم العقول ، ايضاً ، الى ان يخلصها منه بالتدريج .. ولما كان السيد الصادق ، لا يعلم هذا ، فانه ظن ان هنالك تناقض ، واورد على ذلك مثلاً ، بقوله تعالى "انا هديناه السبيل إما شاكراً واما كفوراً" كدليل على التخيير، وقوله تعالى "وما تشاءون الا ان يشاء الله " كدليل على التسيير .. وعن مثل هذا اللبس ، وكيفية الفهم الصحيح له ، يقول الاستاذ محمود محمد طه (ووهم العقول يتمركز في الارادة ، ذلك بان العقول تسيطر على حركاتنا الارادية ، فمدت لها هذه السيطرة الى ان توهمنا اننا نملك ارادة مستقلة ، بها نفعل ، أو نترك الفعل ، ويجئ القرآن في هذا الباب متمشياً مع هذا الوهم ، ريثما ينقلنا منه ، نقلاً وئيداً ، من خلال ممارسة العبادة .. فهو يقول ، مثلاً، في ذلك "لمن شاء منكم ان يستقيم" .. وعلى هذه الآية وما تقرر ، قام التكليف ، وشرعت الشريعة ، واصبحنا مأمورين ومنهيين .. فاذا نهضنا بعبء تكليفنا بتشمير ، وجد ، ادّانا ذلك التشمير ، والجد في العبادة ، الى ان نستيقن، بفضل تجويد التوحيد ، ان الارادة لمريد واحد ، وان المشيئة لمشئ واحد .. وحينئذ يخاطبنا ، القرآن ، في مستوى جديد ، فيقول "وما تشاءون الا ان يشاء الله رب العالمين" .. قوله "لمن شاء منكم ان يستقيم" ، آية شريعة، وقوله "وما تشاءون الا ان يشاء الله رب العالمين" آية حقيقة .. والشريعة ظاهر ، والحقيقة باطن الشريعة .. والحكمة في نهج القرآن ، هذا النهج ، هي ان القرآن كتاب عقيدة في التوحيد .. والعقيدة في التوحيد ، في حد ذاتها ، عقبة على المدعوين اليها ، فلم يرد الحكيم ان يضيف الى عقبة الدعوة الى التوحيد عقبة أخرى بمعارضة أوهام الحواس واوهام العقول من البرهة الاولى .. وأهم من هذه ، ان بواطن الامور ليس اليها من سبيل ، الا سبيل اعتبار ظواهرها .. والله تعالى يقول في ذلك "سنريهم اياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق .. أولم يكف بربك انه على كل شئ شهيد" .. فآيات الآفاق ظواهر ، وادراكها عن طريق الحواس الظاهرة ، وعن طريق العقول التي تستمد مدركاتها من معطيات الحواس .. وآيات النفوس بواطن وهي انما تدرك بالعقول المروضة بأدب الشريعة وبأدب الحقيقة بأدب القرآن)[1]
    وحين اورد الصادق، قوله تعالى "انا هديناه السبيل اما شاكراً واما كفوراً" دليلاً على التخيير، فانه قد فهم ان هنالك طريقين ، طريق "الشكر" وطريق "الكفر" ، وان الانسان قد أوقف في مفترقهما وقيل له اختار .. فاذا اطاع الله ، فقد اختار طريق الشكر، وسيسير فيه الى ان يوصله الى الجنة ، اما اذا عصى الله ، فقد اختار طريق "الكفر" ، وسيسير فيه حتى يلج به في النار..، وهذا فهم ، يتفق فيه كثير من المسلمين ، مع الصادق ، ولكنه مع ذلك خطأ!! وسبب خطأه ، هو انه يجعل الشر، الذي يمثله " الكفر" ، اصل في الوجود ، مثل الخير، الذي يمثله "الشكر" ، وهو ما لا يقبله التوحيد .. والفهم الصحيح ، هو ان الطريق واحد!! وان الانسان يكون احياناً شاكراً ، واحياناً كفوراً ، فمن غلبت حالات شكره ، حالات كفره ، فهو الناجي .. ومن غلبت حالات كفره ، حالات شكره ، فهو الهالك .. ولا يطعن فيما ذكرنا، ان بعض الناس ، لا يعرف الشكر بلسان المقال ابداً ، فانه دون شك قد فعل خيراً ، في لحظة من لحظات الزمن ، وهو بذلك قد كان في موقف الشاكر .. ويصح أيضاً التقرير، بانه ليس هناك شخص ، شاكر في كل لحظة من لحظات حياته .. والانسان ، حينما يكون في حالة الشكر، يكون الله هو الذي هداه اليها ، وحين يكون في حالة الكفر، يكون الله هو الذي ساقه اليها، فكل ذلك بالهام من الله .. قال تعالى في ذلك "ونفس وما سواها * فالهمها فجورها وتقواها" ، وقال "وما كان لنفس أن تؤمن الا باذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون" .. وحتى حين يرد ان الانسان أعطي طريقين ، فان ذلك مقتضى الشريعة ، والطريق في الحقيقة واحد ، ومن ذلك ، مثلاً قوله تعالى "وهديناه النجدين" ، فقد ألهم الحالتين في الطريق الواحد، حالة الخير وحالة الشر، أقرأ ان شئت "ألم نجعل له عينين * ولساناً وشفتين * وهديناه النجدين"!! فهو لم يملك ان تكون له عينان ، ولم يستشار ان تكون له شفتان ، وكذلك لا يملك الا يكون له نجدان لان الامر ليس في يده ، وهو انما يسير تارة في الخير، وتارة في الشر، في طريق واحد ، غايته الله ، قال تعالى "وان الى ربك المنتهى"!! وهذا يعني ، ان نهايتنا ، جميعاً ، الى الخير المطلق ، الذي ليس للشر اليه من سبيل ..
    ومما يدل على ان شعورنا ، بارادتنا ، مجرد وهم، ان هذا الشعور، يزيد عندنا، في حالة القوة والصحة ، وامتلاك القدرة والسلطة ، فاذا اصاب احدنا المرض ، او العجز، او شعر بقلة الحيلة، عرف انه لا يقدر على شئ ، ولجأ الى الله ليخلصه مما هو فيه.. يستوي في ذلك ، من يدعي الايمان ومن يدعي الكفر .. ومن اجل تربيتنا ، واعانتنا على الخلاص ، من هذا الوهم ، يقول تعالى "هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا انهم احيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن انجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما انجاهم اذا هم يبغون في الارض بغير الحق يا ايها الناس انما بغيكم على انفسكم متاع الحياة الدنيا ثم الينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون" .. فقد قرر انه هو الذي يسيرنا في البر، وفي البحر ،ولكننا في البر نشعر بقدرتنا ، وارادتنا ، باكثر مما نشعر بها في البحر، حين تثورالعواصف الهوجاء ، ويعلو الموج ، وتصبح السفينة في مهب الرياح ، فلا نملك من امرنا الا الدعاء لصاحب القدرة الحقيقة ، التي ما اذهلنا عنها ، الا الوهم .. ونحن في حالة الخوف ، والعجز ، نعد باننا اذا نجونا من الموت هذه المرة ، سنكون مطيعين ، وشاكرين لله ، ورغم هذه التجربة ، فاننا حين ننجى ، ونخرج الى البر ، نستشعر القدرة مرة أخرى ، وننسى وعدنا ، ونتطاول على خلق الله ، بغير حق .. وحتى ينبهنا الى هذه الغفلة ، يذكرنا اننا لن نعيش الا عمر محدود ، ثم نرجع اليه ، بعد الموت ، ونكون اضعف حيلة مما كنا في البحر .. وفي نفس المعنى ، يرد قوله تعالى "واذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون الا إياه ، فلما انجاكم الى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً * أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ثم لا تجدون لكم وكيلاً * أم امنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا تبيعاً" .. فنحن حين نستشعر القدرة ، في البر، انما يحدث ذلك لقلة علمنا ، وضعف خيالنا، والا فانه يمكن ان يسلط علينا في البر، ما يعجز حيلتنا أيضاً .. كما انه يمكن يهيئ الاسباب ، التي تعيدنا مرة اخرى الى البحر، فيرسل علينا الرياح العواصف ، مرة اخرى ، حتى يغرقنا ، ولا نستطيع ان نجد عذر، لاننا اعطينا الفرصة ، التي تعيينا على الشكر ولكننا كفرنا.. وكل الغرض من المواجهة بالصعاب ، ان يقدح في اذهاننا ، مبلغ حاجتنا الى الله ، في كل كبيرة ، وصغيره .. وهذا الشعور بالحاجة الى الله ، هو الايمان ، وبقدر ما زاد عند الشخص ، زاد ايمانه ، وبقدر ما نقص نقص ايمانه.. وفي هذا المعنى ، يقول السادة الصوفية ، ان كبار العارفين يسألون الله ملح الطعام!! وهم انما يفعلون ذلك ، ليأكدوا لانفسهم مبلغ حاجتهم له ، حتى يطردوا الغفلة ، التي تسوق الى الاستغناء الذي يسول للنفس الطغيان والتجبر، قال تعالى "ان الانسان ليطغى * ان رآه استغنى" ..


    (35)

    حين اثيرت قضية الجبر والاختيار، بين السلف ، تبنى المعتزلة ، وعلماء الكلام ، وسائر الفقهاء ، القول بان الانسان مخير، وكانت الحجة التي اعتمدوا عليها ، هي: اذا كان الله يسيرنا في كل ما نأتي وما ندع ، ثم بعد ذلك يحاسبنا على أخطائنا ، فان ذلك يعتبر ظلم .. ولما كان الظلم لا يجوز في حق الله ، والعقاب ثابت بصريح النصوص ، في الكتاب والسنة ، اصبح من الضروري ، القول بان الانسان مخير، ولهذا هو محاسب ، ومجازى بالاحسان ومعاقب بالاساءة .. ولعل المعتزلة هم الذين سخروا ممن يقول بالتسيير، وهو يؤمن بالعقاب ، ووصفوه بانه يصح في حقه، قول القائل:
    ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك ان تبتل بالماء
    وعلى النقيض من هؤلاء ، وقف السادة الصوفية باصرار، على الراي القائل ، بان الانسان مسير تسييراً تاماً ، في كل كبيرة وصغيرة ، وان العقاب ثابت بلا شك، في نصوص القرآن ، والسنة ، ومع ذلك ، فان الله تعالى عن الظلم علواً كبيراً!! وهم اذا سئلوا عما يثيره المعتزلة ، أو غيرهم من مخالفيهم ، لا يجيب بعضهم ، وان اجابوا قالوا ان الظالم من يتصرف في ملك غيره ، وان الله تبارك وتعالى، لا يتصرف في ملك غيره ، فلا يوصف ما يفعله بالناس مهما كان بالظلم!!
    والحق ان التوفيق بين التسيير والعقاب ، لا يكفي فيه ما قاله بعض السادة الصوفية ، وانما يحتاج الى معرفة سبب العقاب ، ومرحليته .. فالعذاب في النار ليس سرمدياً بلا نهاية ، وانما هو مرحلي ، وذلك لان الشر نفسه مرحلياً ، لان الاصل في الوجود الخير .. وهذا يعني ان من يدخل النار، لم يدخلها شهوة في تعذيبه ، وانما دخلها لحكمة ، والحكمة تتجه الى ان تجعل العذاب ، وسيلة للتعلم ، فاذا ادّى العذاب غرضه ، ساق الانسان من حالة ادعاء القدرة ، التي أغرته بارتكاب المعاصي ، الى قلة الحيلة ، والشعور بالضعف ، والهوان ، والعجز، حتى يدرك انه لا ملجأ من الله ، الا اليه ، ويشهد ذوقاً ، انه لا حول ولا قوة الا بالله .. فان استقر هذا الايمان في قلبه ، وهو في النار، فان ذلك يخرجه منها ، ويدخله الجنة .. قال تعالى في ذلك "وان منكم الا واردها كان على ربك حتماً مقضياً * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً"!! فكل من آمن ينجى من النار، ويظل فيها ، من لم يبلغ به العذاب ، الحد الذي يسوقه الى الهداية ، الى ان يؤمن ويخرج من النار .. وما من نفس ، الا وهي مستوفية عذابها في يوم ما ، وخارجة من النار!! فان قلت بغير ذلك ، فهو يعني ان العذاب لم يؤد الغرض منه ، فاصبح بلا حكمة .. ويعني ايضاً ، ان هناك شخصاً قد اذنب ذنباً لا نهائياً ، فاستحق عذاباً لا نهائياً!! وهذا وذاك لا يقبله الدين ، ولا العقل ، فلم يبق الا ما قلنا من مرحلية العذاب .. ولقد ضلل التفسير، معظم المفسرين ، عن هذا المعنى الواضح ، حين إعتمد على اللغة العربية ، وفسر الأبد ، بانه الزمن الذي لا نهاية له ، كما هو في لغة العرب .. وذلك ، في قوله تعالى "خالدين فيها أبداً" .. والحق ان الابد ، زمن له بداية وله نهاية . فانه حين قال عن الكفار، انهم خالدين في النار أبداً ، قال في آية أخرى "خالدين فيها ما دامت السموات والارض"!! فدل بان الأبد ، هو مدة دوام السموات والارض .. ولقد حكى لنا الله تبارك وتعالى ، عن بداية السموات والأرض ، قبل ان ينمازا عن بعضهما ، في قوله "أولم ير الذين كفروا ان السموات والارض كانت رتقاً ففتقناهما؟!"!! وقال عن نهايتهما ، وعودتهما الى ما كانا عليه "ذلك يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا انا كنا فاعلين" .. فالزمن بين الفتق ، والعودة الى الرتق مرة أخرى ، هو مدة دوام السموات والارض ، وهو الأبد . وعن كون الكفار، يمكثون في النار، لحقب زمنية محددة قال تعالى "إن جهنم كانت مرصاداً * للطاغين مآباً * لابثين فيها أحقاباً * لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً * الا حميماً وغساقاً * جزاء وفاقاً * إنهم كانوا لا يرجون حساباً * وكذبوا بآياتنا كذاباً" ..
    والوجود ، وفي طليعته الانسان ، مسير الى الله ، في اطلاقه ، قال تعالى "ان كل من في السموات والارض الا اتي الرحمن عبداً * لقد احصاهم وعدهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً" ، وقال "وان الى ربك الرجعى" .. وهذا يعني اننا مسيرون ، الى الخير المطلق ، في المآل .. وهو سبحانه عندما يسيرنا في الحال، بالعذاب في النار، او بالمصائب في الدنيا ، انما يفعل ذلك من باب اعدادنا في رحلتنا اللانهائية ، ولهذا فان هذا التسيير، على ما به من مشقة ، طرف من الخير، وان لم نر هذا الوجه فيه ، لقصور علمنا .. والسبب في التسيير هو جهلنا ، فلو ترك لنا امر انفسنا ، لما احسنا تدبيرها ، كما يدبرنا هو!! قال تعالى "كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى ان تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون" .. قوله "والله يعلم وانتم لا تعلمون" هو السبب في التسيير، فانه لعلمه بمصلحتنا ، لا بد ان يسوقنا اليها، ولو كان في ذلك إيلامنا .. وهذا هو حالي، وحالك، حين نجبر طفلنا على الدواء المر، او الحقنة المؤلمة ، وهو يصرخ ويبكي ، ونحن رغم محبتنا له ، نصر على ايلامه ، لاننا نعرف ما لا يعرفه هو، من ان الدواء رغم ما يسببه له من ألم ، خير له ، لأن به يحقق الشفاء ..
    ولقد اخفى الله عنا ، ما قدر لأحدنا من عذاب مرحلي ، في النار، وكشف لنا ما يريد منا ، بالشريعة فلا يحق لنا ان نحتج على اننا مسيرون ، ونقعد بذلك عن العمل ، لانه خلق فينا الشعور بالارادة ، واقام عليه التكليف الشرعي ، ومن هنا تجئ الحكمة التي تنفي عنه تعالى الظلم .. فكأنه يقول لنا ، ما دمتم تشعرون بانكم مخيرون ، فلماذا لا تختاروا الصواب ، وتتركوا الخطأ؟! فهو يطالبنا بممارسة الحرية ، المتوهمة ، وتحمل مسؤوليتها ، لانه ليس هناك سبيل آخر، لنتخلص من وهمها ، بغير الممارسة!!
    فاذا مارسنا العبادة باتقان ، وتجويد ، حتى دخلنا بها ، مداخل العبودية ، استيقنا ان الله خير محض، فرضينا به رباً ، وسلمنا امرنا كله اليه ، وهذا هو المعنى النهائي للاسلام .. وهو ما حكاه الله تبارك وتعالى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في قوله "قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك امرت وانا أول المسلمين" .. فاذا تحقق الفرد بالاسلام ، في هذا المستوى ، خرج من ضيق التسيير، الى سعة التخيير، وذلك لان ارادته الحادثة ، طابقت الارادة القديمة النافذة ، في الوجود، فاصبحت هي ايضاً نافذة!! وهذا هو التخيير، ونحن جميعاً ، على تفاوت بيننا ، بمحض الفضل الالهي ، اليه مسيرون ..


    (36)

    يقول الصادق المهدي: (• وما هي درجة التقوى المطلوبة؟ قال تعالى ( واتقوا الله حق تقاته ) وقال (فاتقوا الله ما استطعتم)
    • وهل تقبل التعددية الدينية؟ قال تعالى (ليسوا سواء من أهل الكتاب ، أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واؤلئك من الصالحين ) وقال (لكم دينكم ولي دين ) وقال ( ومن يبتغ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه )
    * وقال تعالى ( كفوا أيديكم واقيموا الصلاة ) وقال ( وجاهدوا في الله حق جهاده )
    * وقال تعالى ( وان تبدوا ما في انفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله ) وقال ( لا يكلف الله نفساً الا وسعها)
    * وقال (وجزاء سيئة سيئة مثلها ) وقال ( فمن عفا واصلح فأجره على الله ))

    ان الآية الصحيحة هي "يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون" ، وهي تشير الى القمة ، أما الآية الاخرى "فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا واطيعوا وانفقوا خيراً لانفسكم ومن يوق شح نفسه فأؤلئك هم المفلحون" ، فانها توضح القاعدة ، التي منها ينطلق السير، نحو القمم .. وواضح ان الدرجة المطلوبة ، هي "حق تقاته"، ولكن حين لم يستطع الاصحاب ، ان يمارسوها نزل لهم الى "فاتقوا الله ما استطعتم" .. وحين كانت التقوى ، على قدر الاستطاعة ، هي مستوى الشريعة ، كانت التقوي في القمة هي مستوى السنة – هي عمل النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه .. فحين نسخت الآية الاولى ، في حق الاصحاب ، رضوان الله عليهم ، ظلت قائمة ، في حقه هو .. السنة شريعة وزيادة ، ونحن لا نستطيع ان نحقق القمة ، الا اذا بدانا بالقاعدة ، ومن اجل ذلك انفتحت شريعة العبادات ، والمعاملات على السنة .. فالصلاة المطلوبة ، من المسلم ، في اليوم والليلة ، خمسة أوقات .. فان أدّاها أدّى الشريعة ، ولكن الصلاة المطلوبة ، في السنة ، هي الخمسة أوقات ، بالاضافة الى قيام الليل .. والزكاة في الشريعة ، هي الزكاة ذات المقادير المعروفة ، ولكن الزكاة في السنة ، هي انفاق اكبر، يصل الى حد انفاق العفو، وهو كل ما زاد عن الحاجة الحاضرة .. عمدة الشريعة آيات الفروع –الآيات المدنية عموماً ، وعمدة السنة آيات الاصول – الآيات المكية عموماً .. وحين بشر النبي صلى الله عليه وسلم ، بعودة الاسلام ، بشر به ، في مستوى السنة ، وليس الشريعة فقال (بدأ الاسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ!! فطوبى للغرباء . قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها!!) .. فمن أجل بعث الاسلام ، لابد من السنة ، ومن أجل تطبيق السنة، لا بد من بعث القرآن المنسوخ ، وتحكيمه في حياتنا ، وهذا هو تطوير التشريع الذي تقوم عليه الفكرة الجمهورية .
    ولم يقف السيد الصادق ، يتأمل الآية ، التي اوردها ، ليرى انها دعت المؤمنين الى الاسلام!! والمفهوم العام لدى المسلمين ، والصادق مثلهم في ذلك ، هو ان الأيمان اكبر من الاسلام ، بناء على قوله تعالى " قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم " فكيف يدعى المؤمن للاسلام؟! ان الفهم الذي تطرقنا اليه ، من امر المثاني ، يؤكد ان كلمة الاسلام ايضاً ، لها معنى قريب، ومعنى بعيد .. فالاسلام البدائي يعني مجرد القول باللسان ، والعمل بالجوارح ، لاركان الاسلام ، من غير ان يستقر أي معنى في القلب .. وبهذا المستوى، اعتبر المنافقون مسلمين ، وعلى هذا المستوى كان الاعراب ، حين ادعوا الايمان ، فردهم الله ، الى الاسلام .. وهذا الاسلام دون الايمان ، وهو لا عبرة به ، ما لم يسق صاحبه الى الايمان .. اما الاسلام النهائي ، فهو يعني التسليم التام لله ، دون اعتراض عليه ، في كبيرة أو صغيرة ، وهذا الاسلام ، هو دين الانبياء قال تعالى "انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا" .. وقد كان عليه ابراهيم ابو الانبياء ، عليه السلام ، قال تعالى "ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين * اذ قال له ربه اسلم قال اسلمت لرب العالمين" .. وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام ، طليعة طلائع البشرية، في الاسلام ، قال تعالى له "قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وانا اول المسلمين " ..
    وبين الاسلام البدائي- اسلام الاعراب ، والاسلام النهائي- اسلام الانبياء ، مرحلتين من الدين مرحلة العقيدة، ومرحلة العلم .. وفي كل مرحلة ثلاث درجات، فالسالك يبدأ بالاسلام البدائي ، ثم يترقى للايمان ، فالاحسان .. وهذا آخر درجات مرحلة العقيدة ، ثم يرتقي الى مرحلة العلم ، فيبدأ بعلم اليقين فعلم عين اليقين ، فعلم حق اليقين ، ثم الاسلام .
    يقول الصادق المهدي (• وهل تقبل التعددية الدينية؟ قال تعالى (ليسوا سواء من أهل الكتاب ، أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واؤلئك من الصالحين ) وقال (لكم دينكم ولي دين ) وقال ( ومن يبتغ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه )) .. ان التعددية الدينية غير مقبولة في مرحلة الايمان- في الشريعة ولكنها هي ما سيسود في مرحلة العلم من الدين – في مستوى السنة .. فاذا كان السيد الصادق لا يعترف بهذين المستويين ، فكيف سيوفق بين الآيات التي اوردها؟! أما قوله تعالى "ومن يبتغ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" فانها لا تعني الاسلام البدائي ، وانما هي تعني التسليم لله ، في معنى الاسلام النهائي ، والاسلام النهائي ، قمة المرحلة العلمية مما يقابل الفطرة ولهذا فهو مصير جميع الخلائق ..
    والشريعة قد قامت على الوصاية ، ولهذا شرعت الجهاد ، أما السنة ، فانها قامت على الدعوة ، بالتي هي احسن ، كما فصلنا مراراً .. وليس هناك تناقض بين قوله تعالى "وجزاء سيئة سيئة مثلها" وقوله "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" كما ظن الصادق المهدي .. فان الاسلام قد جمع بين اليهودية والمسيحية ، وذلك من رفعة تربيته ، وتدريجه للناس .. فقوله "وجزاء سيئة سيئة مثلها" يقابل "العين بالعين" التي وردت في التوراة ، ولكنه حتى ينفر من أخذ الحق ، سماه سيئة، فقال "وجزاء سيئة سيئة مثلها" فاذا استطاع الانسان ، ان يدرك ذلك ، وترفع حتى عن رد الأذى ، جاءه الخطاب "فمن عفا واصلح فاجره على الله" .. وهذا يقابل قول المسيح "من ضربك على خدك الايمن فادر له الايسر" ، ويزيد عليه ، اذ يكلفك باصلاح من أذاك ، بعد ان تعفو عنه .. وهذا وذاك مما يدل على قوله تعالى، عن القرآن "مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه" ..
    ولقد تحدث السيد الصادق ، عن السنة النبوية ، وتعارض بعض الاحاديث ، مع العلم ، أو مع بعضها ، وعن منهج السلف ، في جمع الحديث .. ولكني لا اراى داعياً ، لمتابعة آرائه ، في هذا المنحى ، ذلك ان فهم الحديث ، انما يعتمد على فهم القرآن ، ولقد رأينا مدى اضطراب آراء الصادق ، في امر القرآن ، مما يغني عن توقع أي قيمة لحديثه ، عن الحديث النبوي!!

    عمر القراي

    -نواصل-

    [1] - محمود محمد طه (1970) القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري . ص 83-84
                  

العنوان الكاتب Date
د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد Omer Abdalla01-04-05, 05:38 PM
  Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد Omer Abdalla01-05-05, 08:13 AM
  Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد Omer Abdalla01-21-05, 07:02 AM
    Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد أبوالريش01-21-05, 07:23 AM
      Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد Basheer abusalif02-19-05, 03:07 PM
  Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد Omer Abdalla01-21-05, 04:56 PM
  Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد lana mahdi01-21-05, 10:01 PM
  Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد Omer Abdalla01-22-05, 08:14 AM
  Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد Omer Abdalla02-18-05, 01:58 PM
  = Basheer abusalif02-19-05, 03:12 PM
  Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد محمد عبد القادر سليمان02-19-05, 05:16 PM
  Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد Omer Abdalla03-03-05, 10:22 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de