|
ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!!
|
ومات حين رعشة الجبل وقف على قمة الجبل .. كان ومنذ طفولته يقف عندها .. ساهماً غارقاً في كون دهشته المترامية .. يحفر مع الأطفال اسمه على القمة ويرص عليه الحجارة .. الاسم يبدو بمقدار ما اجتهد صاحبه في الحفر والرص .. تطالعه آلاف الأسماء .. وآلاف الحجارة .. وآلاف الذكريات .. كانت القرية كلها تحته .. كأن قبضة يده تطالها جميعاً .. - عجيب أمر هذه الدنيا كلما صعدتَ عنها صغُرتْ .. وكلما نزلتَ إليها كبرتَ أنت فلم تحتملك الأشياء النيل .. خيط ماء يذكره بخياطة أمه حين (ينفتق) قميصه الوحيد ذات عراكٍ أو عناق ما .. تميل الإبرة حتى تبدو آثار الخيط بلا اتزان وبلا تنسيق ... اللون الأبيض هو لون الخيط الوحيد في دكان القرية .. كان يداوي أوجاع جميع الألوان .. بلا اتزان أمه وبلا تنسيقها .. والإبرة ذاتها هي ما يخيط القميص .. وجوالات البلح حين الحصاد .. وما يخرج الشوك من الكعوب الدامية أثناء الليل .. وما (يضفر) الطبق لأعراس ربما تجئ .. تظل تطعن في جسد الجدار إلى أن تدعى للطعن في جسدٍ آخر .. النيل يذكره بأشياء كثيرة .. كانت أمه وهي تعود مساءً إلى المنزل .. تنتعل حذاء البلاستيك الأسود ذي الوردة العريضة على مقدمته .. يحمل الشوك كله في كعبه الذي يستعيد كل تواريخ حقده حين اتحاده مع حجارة الطريق القاسية .. على رأسها (رأس) القش .. يطلي ثوبها بخضرته النفَّاذة .. العشب الرطب ظلَّ يسبب لها الحساسية طوال عمرها .. تسعل حتى تغيب عيناها .. وتعودان أكثر حنيناً ودموعاً وصلابة .. النيل يفترق عند بداية القرية افتراقاً خفيفاً .. يكوّن جزيرةً صغيرة ويلتئم ثانية ليواصل تواطؤه ضد الجروف ينهكها بالهدم والغمر ولكنه يحييها بعد ذلك .. يذكِّره منظر افتراقه والتقائه هذا بسوستة بنطاله المدرسي - الشاحب ، غائر الجيوب - (المحلوجة) .. أحواض البرسيم متناسقة الرسم رائعة الهندسة وكأنها ليست التي اعتاد أن يمشى بينها دوماً .. - - تحتاج هذه الدنيا أن تُرى من أعلى .. تحتاج أكثر أن تُمارس من أسفلها حتى تتصعد هي إلينا بذات الأناقة .. كان المنزل الذي شهد شقاوة طفولته وبؤسها يبدو ناصع البياض .. تستقيم أركانه وكأن الزاوية القائمة تبدأ عندها .. بابه الأخضر نظيفٌ .. جميلٌ .. كامل الوسامة لا تُرى شخبطات الفحم عليه .. لا أثر لقفله المخلوع ولا للحبل الذي حلّ محله .. (الجردل ) المملوء بالحجارة .. يجرح الجدار منذ سنين لتثبيت حبل الغسيل بالداخل يبدو كأثرٍ منقوشٍ على الجدار الأبيض الزاهي .. - ريشة الجبل لا ترسم التفاصيل التي تنقص اللوحة بريقها.. تذكر فجأة .. وهو يغادر الوطن متخفياً تحت اسمٍ جديدٍ ووثائق جديدة .. والطائرة تحلّق فوق مطار المدينة .. كانت ترتسم كلوحةٍ رائعةٍ ومبتسمةٍ ووديعة .. تتحرك السيارات برشاقة .. متزينة بصمتٍ طويل الابتسامة .. وكأن سباب السائقين والأبواق التي لا تهدأ حين الذروة سافرت لعالمٍ آخر .. والشوارع مغسولة .. فقط بارتفاع الطائرة عنها .. لا أثر للتراب تغطي أطرافها .. لا عرق يغيِّر ملامح المارة .. وفي نفس اللحظة التي ترسم ريشة العلو أناقتها كانت الأيادي المختفية خلف القفازات والبطاقات تلملم أوراقه وصوره وكل قصاصات كتاباته وتحرقها .. لم ير من نافذته دخان روحه المتصاعد .. ولكن رجفة قلبه ساعتها ذكرته بتفسيرات أمه .. - - الروح يا ولدي تحلّق فوق الأشياء وتسترها ببياضها وتخفق حين يقوى عليها الزمن .. تعاتبه أو تلومه أو تخيفه بانقباضة فتحدث تلك الرعشة .. كانت تقول له باسمة .. وقلبه يرفُّ رفيفاً متواصلاً .. خلف ابتسامتها أسئلةٌ وأجوبةٌ وبحارٌ من الحيرة. - - ستصادف من تحبه ويحبك يا ولدي لم تكن لتقول له : - - ستفارق جزءاً منك وإلى الأبد لكنها كانت تعلم ذلك .. كانت تعلم أكثر من ذلك .. - - الأم عالمةٌ ومتحققة العلم .. ولكنها تدفنه في الدمع متقد الصبر. بقىَ عشر سنين بالمنفى .. جاء الآن فقط ليزور قبر أمه .. جاء بشعرٍ مستعار .. واسمٍ مستعار .. وعمرٍ مستعار .. ووثائق جديدة .. ولكنه يفضح نفسه بحنينه الأصيل ودموعه الصادقة ونشيجه المميت .. قبر والدته كان قبراً استثنائياً جدا … ضمّ أمه بذكرياتها .. وألوان العشب تطبع ثوبها بالخضرة والحساسية .. وحذائها البلاستيك الذي يوقد أصابعها بهجير الصيف ويباس الشتاء .. ضمّ ابتسامتها له وهي تعدّ له العشاء .. وتمضي لتصلي .. ضمّ أحاديثها عن أبيه - - كان شاعراً .. حاول إصلاح الكون ..فأفسده الحلم .. ومشى وحيداً نحو القبور .. لم ترافقه جموع المعزين والشامتين .. القبور يا بنّي ليست تلك المدن المأسورة بعصي الحراس وأزاميلهم .. كثيرة الشواهد وجريد النخل .. لكنها السجون هي التي نخلقها لأنفسنا ولا نبرحها .. - - مضى يصلح الحال بالشعر فاستسلم لطارق الجنون ضمّ ذكرياتها معه .. استيقاظه منتصف الليل ليغني أغنيته الحبيبة .. الغناء للأصدقاء فقط .. والليل صديقه الوحيد.. - - لأن كل أشباح الناس تمضي لهروبها المشروع .. النوم .. والغناء تفسده الآذان الهاربة - كان يجلس عند الباب طوال اليوم .. يطالع الفراغ .. يحادث الصمت .. وحين أفاجئه بابتسامة .. يفاجئني بالحياة كلها يدسّها تحت قبلته على يديّ ويمضي .. كان لا يتحدث إلا معي .. لا يفهم إلا لغتي .. لأني كنت أتحدث إليه بعينيّ ( أبوك كان ممكن يغيّر الدنيا كلها بعيوني ديل .. ) لكنه أراد أن يغيِّرها بعينيه وهو ينظر للفراغ .. آهٍ عليه .. ضلَّ .. آهٍ عليه. الجبل الذي شهد قبل ربع قرن حفر اسمه ورص الحجارة عليه .. يشهد الآن حفر قلبه على كل حجر .. كل كهف .. كل شجرةٍ تقاوم العطش بالتماوت .. وتقهر الموت بالصبر .. وكل ذرة رملٍ ترهقها الريح بأسفار قاتلة .. الآن وهو ينظر منه ناحية داره ويركّز حيث كان أبوه يطيل الجلوس .. يبدو كمعنىً جديد للروح تحمل الإنسان على كفّها حتى يقرأ أوراقه جيداً … المقابر وسيمة منتظمة .. على عكس حالتها وهو يقف فيها أمام قبر أمه .. كانت أمه حين تمرّ بها تتمتم بأورادٍ وآياتٍ وتنهداتٍ طويلة .. ودمعاتٍ تكسر طوق ثباتها المنهك وتطل على وجهها المملوء بالحياة موتاً ناعماً .. ترقد فيها الآن تصمت عن كل ذلك .. فقط تورثه كل اهتزازها تجاه قبر أبيه .. حيث تنبت شجيرات (السنمكة) وتحدث صفيراً رفيقاً مع صوت الريح وترسل بذورها لدنيا أخرى .. - يا للجبل .. يصغّر الأجساد .. ويكبّر الأرواح حد الرهق. تسلل في تلك الليلة فقيرة الضوء.. ومضى يكتب بالفرشاة على جدران المدينة ..كان يطالع نظرات أبيه نحو عالمٍ لن يأتي .. هكذا كما أراد .. وحساسية أمه وسعالها القاتل .. وشوارع القرية الغارقة في اللا شئ .. ذهب ليقضي ليلته في منزل صديقه متخفياً.. ولكن دمعتها وهي تصلي طوال الليل كانت تبلل وسادته .. فقد إحدى عينيه تحت التعذيب .. وكثيراً من عمره وأبنائه القادمين .. أصاب الشلل نصفه الأيمن .. لكن أوراقه وقصاصات كتاباته ودموع أمه ورعشتها ظلّت كما هي .. ومضى ساحباً عزمه للمنفى .. رحل معه كل شئ .. وغاب عن كل شئ .. بقى هناك .. حيث مات - - الموت هو موت الذات .. ليس للجسد حياةٌ فيه وليس للروح خروجٌ بعده .. ماتت أمه .. بين خضرة العشب على ثوبها .. وابتسامة أبيه .. ودمعتها الدائمة عليه .. احترقت قصائده وأحرقت قصاصاته ونامت رعشات قلبه .. عاد .. بلا أمٍ وبلا قصاصات وبلا قصائد وبلا وطن .. عاد .. بالجرح الذي عمّ كل الجسد فأهلك الروح. قفل نازلاً عن الجبل .. كلما انخفض عن ارتفاعه تكبر القرية .. وشيئاً فشيئاً كبرت إلى مستوى نزيفه .. التفت وراءه .. رأى اسمه المنحوت في حجارة الجبل يتصاغر درجة التلاشي يكاد يرجمه بتواريخه كلها.. ولكن اسمه المنقوش في ذاكرة أمه كان يكبر درجة الخلود .. هل يبقى على القمة للحفاظ على اسمه كبيراً وصورة القرية وسيمةً ونظيفة .. أم ينزل لنقوش أمه في جدار الخلود .. وواقع القرية النازف واسمه المتصاغر .. حينها كانت القصائد تسيل من عينيه ويده المشلولة وشفته الراعشة .. تحمّل قسوة الصعود على عكازه .. وقسوة الهبوط على روحه .. ولكن صورة أبيه يبتسم للفراغ قرب الباب المتسخ بالفقر والقهر وخذلان الجميع .. كانت تحوّم حول قدرته .. ولون العشب يطلي ثوب أمه ويرهق صدرها بسعالٍ دائم وهي توقد النار لشاي المغرب .. والجدار الباهت المسحوق بتذكارات الصبية ووخز الجردل الدامي .. كانت أقسى من وهدات الجبل على رجله الثقيلة .. وروحه المثقلة .. وقصائده كسيرة القوافي .. فسقط .. الطيور التي حلّقت حوله وهو ينزف حتى آخر حرفٍ منه كانت تعدّ العدة لموسم هجرةٍ جديد .. وتعرف أنها لن تعود أبداً. أسامة معاوية الطيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ في الآسى ضاعت سنيني فإذا مت ( ادفنيني) عملا لي الله
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | أسامة معاوية الطيب | 03-15-05, 06:38 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | خضر حسين خليل | 03-15-05, 07:32 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | أسامة معاوية الطيب | 03-15-05, 08:57 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | yasiko | 03-15-05, 09:18 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | أسامة معاوية الطيب | 03-15-05, 09:35 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | خضر حسين خليل | 03-17-05, 01:19 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | أسامة معاوية الطيب | 03-17-05, 02:13 PM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | عبدالبارى العجيل | 03-20-05, 10:15 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | أسامة معاوية الطيب | 03-20-05, 12:40 PM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | عبدالبارى العجيل | 03-21-05, 01:48 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | أسامة معاوية الطيب | 03-21-05, 10:44 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | عبدالبارى العجيل | 03-21-05, 11:23 PM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | أسامة معاوية الطيب | 03-22-05, 03:09 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | عبدالبارى العجيل | 03-22-05, 06:42 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | أسامة معاوية الطيب | 03-23-05, 00:23 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | معتز تروتسكى | 03-21-05, 02:29 PM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | Ali Alhalawi | 03-22-05, 07:27 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | أسامة معاوية الطيب | 03-23-05, 10:05 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | أسامة معاوية الطيب | 03-23-05, 01:10 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | الجندرية | 03-25-05, 02:57 AM |
Re: ومـــــات .... حين رعشة الجبــــل !!!!!!! | أسامة معاوية الطيب | 03-25-05, 08:51 AM |
|
|
|