ألف بنفسجة تنبت فوق قبرك يا صديقي الذي لم ألتقيه. أكتب في آخر الليل الذي يصادف ذكرى رحيلك المر. تعرف يا مصطفى.. الآن ونحن نحتفل بشكل بدائي وسطحي بالسلام، ويجهد بعض في تصويره كادماج فحسب لبعض الرقصات في الجنوب في "ثقافتنا" التي اصطلح على أنها "جمعية"، تنقر أغنياتك على نوافذي وتحفر دمعها على الزجاج المبلل في هذا الشتاء الدافيء. أكتب، وقد شهدت القاهرة هذه الليلة دفن آخر أمانينا. ها قد ابتلعنا يا مصطفى كل أمانينا ولم يبق لنا سوى تجرع الليل البارد والأغنيات. هل من مغن هنا!! ها نحن نخطو يا مصطفى –دون طائل- في اتجاه زمن رمادي آخر يجلل جبيننا بالعجز والفاقة الثقافية والفكرية. عراة نحن يا صديقي من مبادئنا وأحلامنا. نجثو على الأرض من تعبنا، ونسفه أحلامنا حلما حلما. لم يبق حلم يا مصطفى، كل الأحلام –حتى الأحلام- تساقطت كأوراق الشتاء. ولم يبق غير أن نجهد في حفر قبورنا، لأنهم لن يوارونا الثرى، سيتركوا جثثنا في العراء، كما نحن الآن في العراء. "وطني ولا ملي بطني".. لا يا مصطفى، هل تصدق، ما من أحد يؤمن بهذا. الأجدر أن نقول "ملي بطني ولا وطني". ولا زالوا يا مصطفى يتعاركون للاشيء. فاقدو الأهداف جميعا هنا قرب مضجعي يوجعون رأسي بهتافهم وضجيجهم وحماقاتهم التي لا تنتهي. لم ننجز شيئا –وحياتك- ، فقط مزيد من التهريج. لا بل صدقنا كل التهريج الذي مارسناه ثم انكشفت السوءات كلها على حين غرة!! كم كنت متفائلا يا صديقي، وكم نحن نخذل حتى أنفسنا. لم نقو على صنع شيء، ومدينتنا لا زالت في بلاهتها ذاتها، بل ازدادت سوءا هذا العام وهي تفرز تسطيحا كامل الدسم. خابت آمالنا، وخيبنا نحن آمال الوطن الجريح. هربنا إلى جحور الأرض كلها، وهربنا حتى من تشييعك إلى مثواك الأخير مخافة أن يؤدي بنا ذلك إلى عهد "ما". خشينا أن نتحمل مسؤوليتك من بعدك، لأنها أكبر من قاماتنا القصيرة وأحلامنا التافهة. وكم كنت يا صديقي ضاجا بالحياة ونحن من حولك أموات. كم كنت تنشد الحياة وتطرق على أبوابها بقوة، ونحن نهرب من وجهها ونمارس خديعة الذات تحت دعاوى فارغة ومبررات واهية. هل قمنا بربع دورك؟ كيف مثلت لوحدك "أمة" قائمة بذاتها تحرضنا أن نكون "أمة" وعجزت "أمة" أن تكون "أنت"؟ كيف غضضنا الطرف عن المرابين -قتلتك- ونامت جيشونا في خيامهم وصافحناهم فردا فردا، وصفقنا لخديعتنا؟! سننساك يا مصطفى حتما لأننا أمة لا تحتمل أن تستذكر من هم على شاكلتك. لأنك ببساطة يا مصطفى إن بقيت في ذاكرتنا، فسنشعر بالوضاعة والتفاهة. ولكي نستمر في حياتنا/الميتة، لابد أن نتجاوزك، ونتجاوز وصاياك كلها، نحن لا نقدر عليها يا صديقي. نحن أمة يا صديقي تستحق أفضل من هذا، لكنها لا تسعى لهذا الأفضل. نم يا صديقي فالأغنيات ذاتها أضحت الآن ملغومة. من يغامر بالغناء في زمن الهزيمة؟ ومن يجرؤ على ممارسة الفرح في أيام الحزن؟ لم يعد "شفع العرب الفتارى" و"شفع الجنوب" وحدهم برسم البيع والمزادات السياسية، فأطفال دارفور وكردفان وأطفال "السودان كله" أضحوا الآن أكثر عرضة لخطرنا نحن. هل تصدق ذلك؟ الآن فقط، نعزي أنفسنا في رحيلك، إذ يبدو أنه كان رحيلا لنا جميعا وكم كنا مخطئين بعدم دفن أنفسنا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست