الإسلاميون… يبحثون عن “سمّ الخياط” للهرب 21 نوفمبر، 20250
م. معاوية ماجد
في اللحظة التي أعلن فيها الرئيس الأمريكي نيّة بلاده العمل على إنهاء الحرب في السودان، بعد توصية مباشرة من وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، اهتزّت الأرض تحت أقدام الحركة الإسلامية كما لم تهتزّ منذ ولادتها. كان الخبر موجةً عالية ارتطمت بجدار الأوهام الذي بناه الإسلاميون حول أنفسهم طيلة ثلاثين عاماً: أوهام القوة، وأوهام النفوذ، وأوهام القدرة على التحكم في مصير وطنٍ كامل. غير أن تلك اللحظة كانت إعلاناً صامتاً بأن الزمن الذي كانوا يلوّحون فيه بعصيّهم الخشبية على رؤوس السودانيين قد انقضى، وأن مقاعدهم في اللعبة الدولية سُحبت منهم بلا رجعة.
ثلاثة عقود من التلويث السياسي جعلت الحركة الإسلامية تتوهّم أنها شجرة لا تُقطع، وأن جذورها ممتدة في الدولة والمجتمع والجيش والشارع. غير أن الحقيقة أنهم كانوا عشبةً طفيلية نمت على أجساد الناس، وتغذت من دمهم، وسرقت من عيونهم الضوء. وها هم اليوم يقفون أمام مرآة التاريخ فلا يرون وجوههم، بل يرون الخراب الذي صنعوه، والدم الذي لوّث أيديهم، والصلوات التي صعدت إلى السماء تشتكي ظلمهم. لقد لعبوا على الحبال الدولية وهم لا يجيدون السير حتى على أرضٍ مستوية؛ ادّعوا بطولة وهم يخافون من ظلّ الحقيقة؛ وتحدثوا بصوتٍ عالٍ لأن صوتهم الداخلي كان مرتجفاً من فراغهم. واليوم يقفون على باب النهاية، يبحثون عن ثقبٍ ضيّق، عن سمّ خياط، عن أي فجوةٍ تبتلعهم قبل أن يبتلعهم الحساب.
حين قال أحد قادتهم يوماً عبارته الشهيرة: “أمريكا تحت جزمتي”، لم يكن يدرك أنه سيأتي يومٌ تسحق فيه السياسة العالمية أحلامهم كلها تحت حذاء كبير دون أن تلتفت لهم. انتهى زمن الشعارات الكرتونية، وانتهى زمن التهريج الأيديولوجي، وانتهى زمن الأكاذيب التي كانت تُباع للسذّج والزاهدين والطيبين. اليوم تُكتب نهاية الحركة الإسلامية في الخرطوم بأقلام لم تعد تحسب لهم أي وزن؛ الكبار قرروا، والسيناريو أُعد، والدور الشائن الذي أدّوه لعقودٍ في تخريب السودان انتهى، سواء أرادوا أم أبوا.
وما زاد الطين سواداً أنهم، في لحظات عجزهم الأخيرة، حاولوا أن يجرّوا السودان المتعب بجراحه معهم نحو الهاوية؛ لكن السودان — القوي بأهله وصلابتهم — أفلت من قبضتهم، ورفض أن ينحدر معهم وهم يتهاوون إلى وادٍ سحيق لا عودة منه.
لقد جعلوا من السودان مختبراً للفوضى، والميليشيات، والنهب المقدس. حاكموا الناس بفتاوى من ورق، وقتلوهم برصاصٍ من نار، وسرقوا ثروات البلد كأنهم يقتسمون غنيمة في سوقٍ مهجور. هؤلاء الذين يرفعون شعار الفضيلة هم أول من داس عليها؛ والذين يصرخون باسم الدين هم أول من لوّثه؛ والذين يدّعون الصدق هم أول من كذب، وأول من خان، وأول من باع الوطن في مزادٍ رخيص.
واليوم تنهال فوق رؤوسهم لعنة ثلاثين عاماً من الألم: دموع الأمهات التي سالت على أبواب المستشفيات، صرخات النساء المحبوسات خلف الجدران، حشرجات المصلّين الذين قُتلوا وهم ساجدون، ارتعاشات الأطفال الذين ناموا على لحم الخوف، والمدن التي أصبحت رماداً تحت إشرافهم المباشر. إنهم الآن يعيشون محاصرين بين جدران ضاقت حتى أصبحت كقبرٍ بلا هواء؛ أي بابٍ يطرقونه يُغلق، وأي يدٍ يستنجدون بها تُسحب، وأي وعدٍ يتعشمون فيه ينهار. حتى الحبال التي اعتادوا التمسك بها قُطعت، وباتوا يركضون — لأول مرة — بلا حماية، بلا غطاء، بلا حيلة.
وبعد أن جفّ البحر أمامهم، وانشقّت الأرض خلفهم، لم يعودوا يجدون سوى ثقب الإبرة؛ ثقبٌ ضيّق لا يتسع لجرائمهم، ولا لأكاذيبهم، ولا لتاريخٍ كامل من السواد. ومع ذلك يحاولون: يمدّون أجسادهم المتهالكة نحو ذلك الثقب، يحشرون رؤوسهم قبل أن تحشرهم العدالة، ويهربون كما تهرب الفئران بعد انكشاف جحرها. أمّا الشعب الذي طحنوه طحناً، فاليوم يقف يشاهد المشهد — لا شماتة، بل عدالة؛ فمن يزرع النار لا يحصد إلا الرماد، ومن يسرق وطناً لا يجد قبراً يتسع لذنوبه.
القطار تحرّك دونهم، والمقاعد حُجزت لغيرهم، والتاريخ فتح صفحة جديدة دون أن يضع اسمهم حتى في الهامش. إنهم اليوم ليسوا أمام سقوطٍ سياسي، بل أمام انقراضٍ تاريخي؛ ديناصوراتٌ ظنّت أن العالم سيبقى لها إلى الأبد، ثم استيقظت ذات صباح لتجد نفسها خارج الحياة. ويبقى السؤال الذي يطاردهم كظلٍّ أسود: ماذا تفعل حركةٌ ظنّت أنها فوق السودان… حين تكتشف أن السودان هو الذي لفظها؟
أما “سمّ الخياط” الذي يبحثون عنه، فلن يكون ممراً للهرب، بل سيكون الثقب الذي تُخاط به البلاد جرحها الأخير، وتُحكم به إغلاق صفحةٍ سوداء لم يعد فيها مكانٌ لهم. وهذه المرة… النهاية ليست احتمالاً. هذه المرة… النهاية حقيقة. وحقيقة لا نجاة منها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة