راسة نقدية: "حفيدة غردون باشا" لتسنيم طه — سردية الانقسام وميراث الشقاق في الفضاء الأدبي السوداني
تأتي رواية "حفيدة غردون باشا" (دار رشم، 2025) لتسنيم طه في لحظة فارقة من تاريخ السودان، لحظة تتقاطع فيها الأسئلة الوجودية حول الهوية والانتماء مع خرائط الانقسام والحرب. لا تتعامل الكاتبة مع المأساة السودانية كحدث سياسي فحسب، بل كجرحٍ حضاريٍّ غائر في الذاكرة الجمعية، وتستعيده من خلال سردٍ يتجاوز التوثيق إلى مساءلةٍ وجودية، تضع الذات في مواجهة تاريخها، والأنثى في مواجهة مركزية الرجل والهوية في مواجهة مراياها المكسورة. أولاً: الهوية المعلّقة ومختبر الذات تستند الرواية إلى شخصية ستّ النفور، الحفيدة ذات الجذور المختلطة (سودانية – فرنسية)، التي تجسّد في تكوينها البيولوجي والنفسي ذلك الانشطار السوداني المزمن بين المستعمِر والمستعمَر، بين الانتماء والاغتراب. في سعيها لكتابة رواية عن أسرتها بمساعدة جدّها، تنخرط البطلة في فعل تأليف الذات، محاولةً ترتيب فوضى الماضي وتحرير الحاضر من سطوة الذاكرة المأزومة. هذا الاشتباك بين الكتابة والهوية يمنح النص طابعه الميتاسردي (السرد داخل السرد) إذ تتحول الكتابة إلى عملية علاج جماعي لذهنية أمةٍ لم تتصالح بعد مع تاريخها. الرواية لا تكتفي بتصوير انقسام الشخصية، بل تقدم الهوية السودانية كـ بنية مفتوحة، لا تستقر إلا بالاعتراف بتعدد أصولها وتناقضاتها، في ما يشبه دعوة للقبول بـ"هجنةٍ" هي في حقيقتها جوهر السودان الثقافي. ثانياً: تكسير الأصنام والبحث عن الأصالة تكشف تسنيم طه عن جرأة فكرية نادرة في تعاطيها مع التعدد الديني والإثني في السودان. فهي تهدم خطاب "النقاء العقائدي" وتقدّم عبر قصص "راحيل" و"فريحة" و"ستّ النفور" تاريخاً متراكباً من التلاقح بين اليهودية والمسيحية والإسلام لتطرح سؤالاً جوهرياً: هل يمكن أن تُبنى هوية وطنية على قاعدة النفي والإقصاء؟ بهذا الطرح، تسهم الرواية في تقويض خطاب الصفاء العرقي والديني الذي لازم السرد الرسمي للدولة السودانية منذ الاستقلال. وتقدّم المرأة، لا بوصفها ضحية التاريخ، بل شاهدة على تنوّعه وانكساراته. الحب في الرواية ليس عاطفة عابرة، بل مساحة صراع رمزية، يتحوّل فيها الجسد إلى جغرافيا تعكس وطنًا فقد توازنه بين الأصيل والمستورَد، وبين القبول والإنكار. ثالثاً: السودان كمرآة للأجيال السردية تضع تسنيم طه روايتها في سلسلةٍ من الأعمال السودانية الحديثة التي أعادت فتح التاريخ الوطني من زاوية فنية وإنسانية، مثل: "شوق الدرويش" لحمور زيادة: التي أعادت قراءة المهدية بوصفها انطلاقة للعنف المقدّس. "رقص الإبل" لفتحي إمبابي: التي كشفت هشاشة التحالف بين الدين والسلطة. فيلم "وداعاً جوليا" لمحمد كردفاني: الذي مثّل مرحلة الانفصال ومأساة الشمال والجنوب. في هذا الامتداد، تمثّل "حفيدة غردون باشا" حلقةً ثالثة في سردية الانقسام السوداني، إذ تربط بين جذر الاستعمار، ومآلات الانقسام المعاصر بعد حرب 2023، معتبرةً أن الحرب ليست صدمة طارئة، بل نتيجة حتمية لمسارٍ طويل من فشل المشروع الوطني. رابعاً: الرواية بوصفها كتابة مضادة توظّف تسنيم طه أدوات ما بعد الكولونيالية لتفكيك السرد التاريخي الرسمي. فهي تُعيد الاعتبار للهامش، وتمنح المهمَّشين (نساء، مختلطين، أقليات) صوتهم السردي الخاص. في ذلك، تنتمي الرواية إلى تيار الكتابة المضادة التي تعيد تعريف معنى الوطنية خارج القوالب الأيديولوجية الجامدة. فـ"حفيدة غردون باشا" ليست فقط ابنة عائلة معقّدة، بل رمز لأمة تبحث عن نسبها المفقود في مرايا التاريخ والسياسة والجندر. خامساً: الأسلوب والبنية الفنية يتّسم السرد بلغة شاعرية مكثّفة، تتنقّل بين الحاضر والماضي في بنيةٍ زمنيةٍ متقطعة، تعتمد التداعي الحر والذاكرة المتشظية. كما تُبرز الكاتبة براعتها في المزاوجة بين الحسّ الروائي والبعد الأنثروبولوجي، حيث تتحوّل الحكايات العائلية إلى خرائط ثقافية للوطن. الرمز (مثل شخصية الجدّ زكريا) يؤدي دور الذاكرة الجمعية التي تحاول لملمة شتات الأجيال، فيما تبدو الخرطوم، المدينة المحورية في الرواية، فضاءً متنازعاً بين الطين والحداثة، بين الذاكرة والخراب. سادساً: الفضاء الأدبي السوداني بعد الحرب في سياق الأدب السوداني المعاصر، تمثل هذه الرواية انتقالة نوعية من الرواية التاريخية إلى الرواية التأملية ما بعد الحرب، حيث يتحول السرد إلى أداة نقد اجتماعي ونفسي، لا إلى تسجيل أحداث. هي جزء من حركة سردية نسائية آخذة في الاتساع، إلى جانب أصوات مثل آن الصافي، رانيا مأمون، بثينة تروس، وأسماء عثمان، اللواتي يعيدن تعريف الأدب السوداني من منظورٍ أنثويٍّ معاصر، بعيداً عن سلطة الذكور والأيديولوجيا.
"حفيدة غردون باشا" ليست رواية عن الماضي بقدر ما هي مرآة للحاضر. إنها مشروع لإعادة كتابة الذاكرة السودانية من الداخل، ضد النسيان وضد التسليم بالتكرار. من خلال حفيدةٍ تبحث عن أصلها، نقرأ السودان وهو يحاول أن يكتب نفسه من جديد — بلا استعمارٍ، ولا عقدةِ استعلاء، ولا هروبٍ من الحقيقة.
11-04-2025, 09:56 PM
زهير ابو الزهراء زهير ابو الزهراء
تاريخ التسجيل: 08-23-2021
مجموع المشاركات: 12746
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة