يقدّم الدكتور وليد مادبو في مقاله "نشيد الدم" خطابًا يزعم تحرريًا، يسعى لتفكيك مركزية النخب النيلية عبر استدعاء رمزية "تحرير الفاشر". غير أن هذا الخطاب، في جوهره، يقع في فخ التناقض الجدلي؛ إذ يحاول التحرر من نظام الهيمنة عبر تبنّي أدواته الإقصائية ذاتها، فيعيد إنتاج المنطق الذي ينتقده — وإن تحت لافتات جديدة.أولاً= المأزق الإبستمولوجي — حين يتحول النقد إلى مرآة للذات يسقط مقال مادبو في ما يمكن تسميته بـ"مفارقة النقد الذاتي"، حيث يتحول الخطاب الناقد للاستعلاء إلى خطاب استعلائي آخر. فالدعوة إلى "تحرير الفاشر من نخاسة النخب النيلية" — كما يقول مادبو حرفيًا- «تحرير (وليس سقوط) الفاشر يعني بالضرورة تخلص الريف الدارفوري كافة من وصاية العصابة الإنقاذية، بيد أن الدلالة الكبرى تتمثل في تحرر هذه الشعوب من هيمنة النخب النيلية التي تسللت إلى موقع النفوذ الاقتصادي والسياسي... من خلال امتهانها لدور النِّخاسة في تجارة الرق»[^1] — تظل أسيرة الثنائية الزائفة (المستعمِر/المستعمَر) التي نقدها فانون ومفكرو ما بعد الاستعمار. إنها استبدال لهيمنة بأخرى تحت شعار التحرر، في وقتٍ يفترض أن تتحول فيه الممارسة السياسية من صراع هويات إلى مشروع عقد اجتماعي قوامه سيادة القانون لا العصبية، كما صاغه روسو وكانط. فبناء هوية وطنية على أساس الدم أو العرق ليس تحررًا، بل تراجع عن مبدأ المواطنة ذاته.ثانيًا: فلسفة التاريخ والذاكرة الجريحة — بين التذكر والانتقام يقرأ مادبو التاريخ بانتقائية، محوّلًا الماضي إلى سردية أحادية تختزل تعقيداته في ثنائية ظالم ومظلوم. مثل هذه القراءة تتجاهل درس مدرسة الحوليات الفرنسية (بروديل ومن معه) التي رأت في التاريخ تراكبًا لطبقات الزمن الاجتماعي لا صراعًا أحاديًا. ومع الاعتراف الكامل بجراح دارفور التاريخية — من التهميش الاستعماري إلى مجازر 2003-2004 — وكما يعترف مادبو نفسه بـ"الإشراقات" التي طبعت مساهمة النخب النيلية في بناء الدولة بعد الاستقلال (في الإدارة، التعليم، القضاء، الشرطة)[^2]، إلا أن إلقاء "ذنب تاريخي" على جماعة إثنية بعينها هو انزلاق من النقد البنيوي إلى اللوم الجمعي، وهو ما حذرت منه هانا أرندت وبول ريكور. فحين تتحول الذاكرة إلى أداة للثأر تفقد دورها كجسر نحو الوعي، وتتحول إلى سجن يعيد إنتاج الكراهية.ثالثًا: سوسيولوجيا السلطة — من العرق إلى البنى الهيكلية يخلط المقال بين "النخب النيلية" كبنية سلطوية قائمة على تحالف مصالح، وبينها ككيان عرقي متجانس. وهذا خطأ تحليلي يتجاهل مقولات بورديو حول رأس المال الرمزي والثقافي كآليات لإعادة إنتاج الهيمنة، وهي تتجاوز الإثنية والجغرافيا معًا. [^3] فالتحرر لا يكون بإحلال مركزية مضادة مكان المركز القائم، بل بتفكيك منطق المركزية ذاته. وهو ما دعا إليه إدوارد سعيد حين حثّ على تجاوز الثنائيات الزائفة — مركز/أطراف، شمال/جنوب — نحو فضاء هجين تتعايش فيه الهويات بلا وصاية. [^4]رابعًا: الأخلاق والسياسة — استحالة فصل الوسائل عن الغايات الدعوة إلى "تحرير الفاشر" كحدث عسكري رمزي — كما يصفها مادبو: «اقتلعوا آخر شِعبة من 'زريبة عمسيب' تمهيداً لتفكيك إرث العبودية» — تصطدم بالمبدأ الأخلاقي القائل بأن الغاية لا تبرر الوسيلة. فالمشروع الذي يبدأ بالعنف لا يمكن أن ينتهي بالسلام. وهذا ما أدركه غاندي ومارتن لوثر كينغ حين جعلوا اللاعنف وسيلة للتحرر الإنساني لا للصراع الهوياتي. تجربة جنوب أفريقيا بقيادة ديزموند توتو تقدم الدليل الأوضح: العدالة التصالحية لا الانتقامية هي الطريق نحو معالجة جروح التاريخ. فمجتمع يُبنى على الثأر، كما يقول هابرماس، يعيد إنتاج الظلم في دائرة لا تنتهي.خامسًا: نحو إبستمولوجيا تحررية جديدة — تجاوز ثنائية الجلابة والزرقة المعضلة الجوهرية في خطاب "نشيد الدم" هي بقاؤه داخل الإطار المعرفي نفسه الذي ينتقده. فهو لا يفكك الهيمنة، بل يعيد توزيعها. إن التحرر، كما يطرح أمارتيا سن، لا يتحقق بتغيير المتحكمين، بل بتوسيع قدرات البشر جميعًا عبر مؤسسات تكفل المساواة والفرص والكرامة. يجب أن ننتقل من سؤال "من يحكم؟" إلى سؤال "كيف نبني نظامًا يمنع أي أحد من الهيمنة؟".سادسًا: البيان التأسيسي لمواطنة ما بعد الهوية إن دروس الصراع السوداني تفرض علينا الانتقال من شعارات الدم إلى فلسفة الإنسان. ولتحقيق ذلك، يلزمنا مشروع وطني يقوم على أربع ركائز= القطيعة مع البيولوجيا السياسية= فصل تام بين الهوية والمواطنة كما دعا إليه هابرماس في مفهوم "الدستورية الوطنية". الاعتراف بالتعدد دون انغلاق- تبني نموذج "التعددية التكاملية" التي توازن بين الخصوصية والوحدة. العدالة شرط المصالحة: العدالة التصالحية أساس لبناء المستقبل المشترك. عقد اجتماعي جديد: يؤسس للمساواة في المواطنة وعدالة التوزيع وتداول السلطة.
*وفي سياق الحرب الدائرة منذ 2023، تُقدم مبادرات مثل "نداء السودان الجديد" (2024) أو لجان المقاومة في الفاشر نموذجًا أوليًا لعقد اجتماعي يجمع بين أبناء النيل ودارفور، بعيدًا عن سرديات الدم والانتقام.من سردية الدم إلى سردية الإنسان لن يتحقق "تحرير الفاشر" بتحويلها إلى رمز للانقسام، بل حين تُستعاد بوصفها رمزًا للوطن المشترك. فالتحرر لا يكون بفتح جراح جديدة بل بترميم القديمة، ولا بالحديث عن دماء تُراق بل عن حياة تُبنى. وكما يستشهد مادبو بالآية: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾، فإن التحرر الحقيقي ليس في عكس الهيمنة، بل في تحقيق هذه الإرادة الإلهية عبر عدالة تصالحية تشمل الجميع — من النيل إلى دارفور في وطن لا يُحكم بالدم، بل بالقانون والكرامة المشتركة. كما قال ألبير كامو في الإنسان المتمرد: "أتمرد، إذن نحن موجودون" — تمرد يبدأ بمواجهة الكراهية داخلنا، لا خارجنا فقط. فمستقبل السودان لا يُكتب بالحقد بل من خلال الاعتراف بأن إنسانيتنا المشتركة أكبر من هوياتنا المتنازعة.
10-28-2025, 09:07 PM
زهير ابو الزهراء زهير ابو الزهراء
تاريخ التسجيل: 08-23-2021
مجموع المشاركات: 12513
مقال الدكتور الوليد نشيد الدم الأخير د. الوليد آدم مادبو د. الوليد آدم مادبو28 أكتوبر، 20252
في السودان، لم يعد سفك الدم حادثةً عابرة، بل أصبح *أسلوبًا للحكمٍ ومصدرًا للشرعية*. صار الدم وسيلةَ السلطة حين تعجز عن الإقناع، ولغةَ الخوف حين تفقد الهيبة، وشهادةَ الميلاد لكل نظامٍ لا يملك من الشرعية سوى ما يُريقه من أرواح. من رحم هذا العبث خرج البرهان، لا ليقود جيشًا، بل ليقود *أوركسترا الدم* في نشيدها الأخير. لقد كان إدخال القوات المشتركة في هذه المحرقة فعلاً سياسيًا متعمّدًا، لا نتاج ارتباكٍ أو سوء تقدير، بل *مشروع تطهيرٍ إثنيّ مستتر برداء الوطنية*. لم يكن الأمر سوء إدارةٍ لمعركةٍ عسكرية، بل تنفيذًا لسياسةٍ موروثة من كهوف “التمكين” هدفها التخلص من “الزرقة” — الزغاوة تحديدًا — أولئك الذين مثلوا في الوعي الإسلاموي *شبح الهامش الذي لا يُروض*، وكأن الدولة لا تستقيم إلا إذا أُريق دم من يذكّرها بخطاياها القديمة. هكذا أراد البرهان أن يغسل وجهه بالدم، وأن يبرهن للمركز أنه ما زال عبدًا أمينًا لمشروعه: أن *تُبنى الدولة على أنقاض إنسانها*. فكلما سال دم، تجدد عقد السلطة. وكلما مات جندي، عاش القائد يومًا آخر. إن المأساة ليست في عدد القتلى، بل في تحوّل الدم إلى أداة لإنتاج الشرعية السياسية. فحين يعجز الحاكم عن الإقناع، يبحث عن الركام ليخطب من فوقه. وعندما تنضب الحجة، تفيض المقابر. *في عالم البرهان، كل دمٍ مسفوك شهادة ميلادٍ جديدة للسلطة*، وكل جثةٍ توقيعٌ على “وحدة التراب السوداني” التي لم تعد سوى اسمٍ شعريٍ لمقبرةٍ جماعية. لقد ورث البرهان من الكيزان طريقتهم في الحكم بالدم، لا بالفكرة. من علي كرتي أخذ دهاء التلاعب بالمقدّس، ومن البشير أخذ شهوة البقاء مهما كان الثمن، ومن كليهما ورث الإيمان العميق بأن *الشعب يُهزم بالخوف قبل الرصاص*. لكنه نسي أن الدم حين يتجاوز حدّه، لا يُخيف بل يُحرّر. فالدماء التي أرادها لعنةً على الهامش، تحوّلت إلى نداءٍ للكرامة يملأ البلاد. لقد أهان الإسلاميون القوات النظامية حين جعلوها *درعاً لأوهامهم*، وزجّوا بها في معركةٍ غير متكافئة ضد شعوبٍ لم تطلب سوى الكرامة. لم يكن الجند أعداءً، بل أبناء شعبٍ واحدٍ خُدع مرتين: مرة باسم الدين، ومرة باسم الوطن. لكن شعوب الهامش، وقد سُدّت أمامها سبل العدالة، لم تجد إلا السلاح طريقًا للخلاص، فقاتلت كمن يُحرر نفسه من أسرٍ قديم، لا كمن يُنازع على سلطةٍ زائلة. على “القائد العام” أن يدرك أن *استمرار هذه الحرب لا يعني انتصار الجيش، بل تؤكد نهايته*. فتوالي الهزائم تفل من عضده المادي، تضعف روحه المعنوية، تُصيب هيبته في مقتل وتجعل الوطن عرضة للتمزق والانهيار الكامل. البطولة الحقيقية إذاً لم تعد في خوض المعركة، بل في امتلاك القدرة والشجاعة على إيقافها قبل أن يصبح السودان فريسةً تستثير شهية الأعداء وتغري أطماعهم أكثر مما هو واقع الأن. عجبٌ من خطابه الأخير الذي شكر فيه الشعب السوداني على صبره، وكأنه يوزّع شهادات تقديرٍ على من دفنوا أبناءهم أو إخوانهم. لم يعتذر، ولم يتراجع، ولم يقدم استقالته، لأنه ببساطة لا يرى الموت جريمة بل ضرورة سياسية. في عالمٍ آخر، *حين يخطئ القائد، يقدّم استقالته أو يصوّب رصاصة الرحمة لرأسه*. أما في عالمنا الثالث، فالقائد لا ينتحر إلا إذا ضمن أن الوطن سيدفن معه. إنها لحظة مفصلية في تاريخ السودان: لحظة يدرك فيها الجميع أن *الكيزان لم يسقطوا، بل أعادوا إنتاج أنفسهم في صورةٍ أشد فجاجة*. ما زالوا يتحدثون باسم الجيش، ويُديرون الموت كما يُدار الاقتصاد — بالعجز والربح والخسارة. وما زال البرهان، ذلك الوجه العسكري للمشروع الإسلاموي، يغنّي نشيدهم الأخير، نشيدًا من الدم والعجز والغرور. *رحم الله الشهداء من جميع الأطراف*، أولئك الذين ماتوا لا دفاعًا عن طاغيةٍ أو راية، بل عن معنى الوطن الذي اغتاله الجميع. إن دماءهم ليست “عملةً” للشرعية، بل شهادةً على سقوطها. وحين يطلّ فجر الحقيقة، سيعرف الناس أن الدم الذي أُريق لم يكن لعنة، بل نداءً إلى حياةٍ أعدل، وأن الذين ماتوا لم يرحلوا عبثًا — بل تركوا وراءهم صمتًا كثيفًا لا يقطعه إلا وعدٌ خفيّ بأن هذا الوطن لن ينوني بعد اليوم إلا بصوت الحقيقة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة