رحل فرنسا زعيم هذه المدينة، وأستاذها القوي، الذي رفع لواءها، وحمل مناهجها، حتى خاتمة الأيام المنصرمة، رحل فرنسا، كما رحل قبله حسن جني، وياسر عرفات، وجدو، وعفاف الحبشية، وفي الحق أن هناك دروساً لا نتعلمها في المدرسة، ولكن نتعلمها في السوق، وفي الأقبية والجدران العطنة، فنحن تعلمنا هذه الدروس، بحكم استعدادنا الفطري، وغريزتنا الطبيعية، كنا ونحن صبية، نتودد لأصحاب اللطف هؤلاء، ونرغب في علمهم، ونتفاعل مع يصدر عنهم من أفعال، وكنا نرصد حركاتهم وسكناتهم، ونعرف ما قالوا وما لم يقولوا، ونفهم ما أشاروا إليه، وما لم يشيروا، لقد أنتج هذا التفاعل الساذج البسيط، تآلفاً بيننا وبينهم، وأدركت عقولنا الصغيرة خطورة هذا التفاعل، وهضمت حصاتنا تكوين معادلاته الدقيقة، الأمر الذي قاد في نهاية المطاف، أن تتصل هذه الفئات بمراكز نفوسنا إلى حد بعيد. وفرنسا الذي يثير في عيني العجب، وفي عقلي الذهول، وفي قلبي الأسى، قد خلب إنسان هذه المدينة، ولم يتجافى عن صلته، فهو يحبه حباً لا مثيل له، ففرنسا يعمل فيه حالة من حالات النفس ما لا يعمل السحر، لأجل ذلك تجدهم يطارحونه الحب والحنان، ويسعون لتقصي أخباره إذا أمعّن في الغياب، ويظهرون هذا الالتياع، الذي ينم عن سمو مكانته في أفئدتهم ودواخلهم، وبعد أن طوى فرنسا نفسه عن هذه الدنيا، ها هي المهج انكسرت حزنا، والأعين ذهبت باكية، أما أنا فقد اتخذت من مكان "اقامتي" خلوة سعيت فيها أن أخضع الفقيد فرنسا لمقاييسي النقدية، وأن أكتب عنه بلسان الصدق لا بلسان الشفقة، ولكن أدركت صعوبة تحقيق هذا الأمر، لجهلي الفاضح بماضي الرجل المستنير، فكل ما كان يتناهي إلى سمعي وأنا صغير بأن فرنسا الذي أجهل حتى اسمه الحقيقي، كان شابا غضاً حينما أصابته هذه اللوثة التي أودت بعقله، وأنه كان متمكنا من ناصية اللغة الفرنسية، قوي العارضة فيها، وهو شيء يستدعي الدهشة لأن السودان ليس من الدول الفرانكوفونية، فاللغة الفرنسية نهرها الاجتماعي راكد عندنا في السودان، وتتعلمها طائفة قليلة تنشد من تعلمها العيش في فرنسا، أو استمالة الغيد الحسان، واستثارة افتنانها بعشيق ثنائي اللغة، فيفتح من أبواب قلبها ما شاء منها ويغلق. لقد صار فرنسا الآن طيفاً نورانياً، قد يراود بعضنا في أحلامه، خاصة أولئك الذين أحسوا تجاهه بحب غامر لم يكن لهم به عهد من قبل، مات فرنسا الذي هرعت إليه الوداعة واستقرت في حضنه، مات صاحب الجسم المكتنز، والنظرات الشاردة، والقلب الواجف، والأسمال البالية، الذي كان جل يومه واضعاً رأسه على صدره، وكأنه يتعجل أن تتوارى الشمس بالحجاب، ويقبل ليل العاشقين، فيخص محبوبته بشكواه ونجواه، مات فرنسا الذاهل الذي احتفظ بأدبه، واستقام على خلقه حتى آخر لحظة في حياته. د.الطيب النقر الاثنين 15/9/2025
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة