بدران اعيد نشر مقال قديم لي عن المناحات الحلفاوية وارجو ان ترفد اليوست باغنية "بابور كوسونا " التي حاولت ترجمتها بتصرف مناحات حلفاوية ... "قرمصيص" مضرج على جيد "حد الشمس" "كلاكيت" تانى مرة وابكن يا قمارى كم كان الالم عظيما وغير محتمل ... وكم كان الجرح غائرا وكست الوجوة الضبابية واتشحت الايام بالسواد ...عندما دنت مياه السد العالي من قبر جدي اجتمع اعمامى الموزعين فى التجارة بين عابدين فى القاهرة وحلفا وعبرى وتبج وحاولوا طلب فتوى بجواز نبش قبر جدى واعادة دفنه بعيدا عن مكان المقبرة التى ستأتى عليها المياه ... فلم يجوز لهم... وبذا فقد تركوه وبقى هناك قبره تحت الماء. ذكر داود عبد اللطيف ردا على تكليفة برئاسة لجنة تهجير حلفا انذاك " انهم يريدون ان يكلفونى بمهمة لم يقم بها الا النبى نوح من قبل" بداية الثمانينات ... فى قرى سكوت والمحس .. كانت مرحلة فريدة .. كأن كل الغناء الدارج من طمبور على شاكلة شغف الحبيب بالحبيبة قبيل السفر كأن شيئا ما قد علقه اصبحت الليالى لا انس فيها الا عند محطة مناحات حلفاوية لم تتجاوز الزمن وتجدد المأسأة فى كل يوم ... كانت هى المرة الاولى التى اسمع فيها تلك المناحات ...ووجدت نفسى مشدودا لها كأن شيئاْ ما يستدعينى لاستحضار ما لم اشهده الا فى حكايا المعاصرين ...ولعل انين المناحة تحمل معها بعض من حزن جدى. كان ذلك على ايام انتشار مجموعة حاملى الطار فى اوائل الثمانينات وكان فى مقدمتهم جمال جبارة وكانوا ينشدون المناحات التى تشبه الملحمة الشعبية القصصية عن حلفا وعن روعتها وكأنها اغرقت قبل اسبوعين وليس قبل اكثر من عقدين ومعظم المناحات تأتى على شكل روايات شعرية درامية عن الناس والارض والحوار الذى انتهى ولم تنتهى فصوله حتى الان. تأثرنا برنة الحزن التى تكسو المناحات والمراثى وكنا نندب معهم بل وتعلمنا طريقة رقصهم المتراصة وشبك الايدى كما فى الدبكة الشامية واصبحت فيما بعد الرقصة الملاذ لمن لا يجيد فن التصفيق والموازنة بين حركة الجسم وايقاع الارجل وتقنيات الحركة التى تستعصى على من لم يمارسها. هذه المناحات التى كانت تهزنا عميقا عن حكايا من لم يشهدوا غرق حلفا وعادوا ولم يجدوا غير جبل ورأس مأذنة جامع الحسين ويبدأون بالتساؤل عن الارض وعن الاهل وعن الخير الذى كانوا يعيشون فيه ويصورون المأساة حتى تكاد الاحشاء تبقر وتتقطع عن نخيل تهاوت، عن مبانى وتخطيط عمرانى اعمل اهلها فيها اسباب بقائها فى وجه السنون والانواء والزمن والتصحر ... لم يكونوا يتصوروا ان نائبة مهما كانت سترقى الى مستوى اقتلاعهم من ارضهم وبلادهم التى لم يعرفوا غيرها الا زائرين بل وتتحرق روحهم واشواقهم الى العودة لها كلما فارقوها الحلم الذى يراود حتى الان من بقى ممن شهدوا مأساة حلفا ... وتتضمن الامانى سقوط وتهشم السد العالى لتعود حلفا من جديد للابناء ... واحدى المناحات تدور حول احد المهجرين عنوة الى خشم القربة مطالبا اقرانه واهله "حل وثاقة" ليذهب الى حيث حدود حلفا ليصنع له خيمة ويعيش على امل ان تنحسر المياه يوما ويعود الى ارضه ويشعل نار الذكريات المضنية بحلم ان تعود حلفا يوما ما.
عندما مخرت الباخرة عباب النهر صوب الوطن غبطت روحى ... ورقص القلب قد حان اوان العودة للديار لكنه وعند دنونا من المكان حاك فى النفس شىْ ... وسوس القلب ...احتار أهذا هو المكان؟؟ !!!... ماذا حل بالعمار ادور فى كل الاتجاهات ... لا شى الا المياه نظرت فى الافق المجهول مشدوها ولم اجد الوطن ولم اجد من يجيب على تساؤلاتى وجلست انتحب وابكى ..ترى اين ابائى اين الارض التى كانوا يمرحون عليها جيئة وذهابا .. ترى ماذا حل بهم اكيلوا واحسو التراب على فقد كانت هنا بين جبلين عروس النوبة .. وذابت فى النهر ولأن تلك المناحات صيغت باللغة النوبية فان ترجمة ما تحتوى من اسى وشجن وحزن يصعب جدا نقله الى غير الناطقين بالنوبية ولكن كانت هنالك اغنية بالعربية تصور جزء لا يكاد يذكر من مناحة تهجير اهالى حلفا لحمد الريح ارض الجزائر والتى يقول فى مطلعها
حليل ارض الجزائر والمراكب والطنابير الترن حليل ناس ليلى ساعة الليل يجن يا غالية يا تمرة فؤادى الليلة ما عاد المراكب شرقن والقمرى فوق نخل الفريق فاقد الاهل يبكى ويحن ومثلما تشتهر بعض القبائل عندنا فى السودان ببعض الصفات الصحيحة والملصقة ومنها ضعف الدين الصق بالحلفاويين ... والطرائف كثيرة هنا ... وكلنا يعلمها وان كان هذا مجافى للحقيقة حيث ان الحلفاويين هم احد اضلاع النوبة المملكة التى مرت بها كل الاديان بداية بالوثنية وعبادة النيل انتهاءا بالاسلام وفى كل الديانات كانوا مخلصين وعرف عنهم التدين ... لعل ما ينتشر عن ضعف الدين كان جراء تهجيرهم من ارض جدودهم الى ارض "طينا لكة وسماها مقدود" وكأن لسان حالهم يقول "هل هذا فعل يفعلة مسلم او متدين فى اخيه فى الدين" لذا استوت عندهم الحياة الى ان لامس قهرهم ايمانهم بما فعله اخوتهم فى الدين بهم.
تكرار المراثى والمناحات (كلاكيت) تانى مرة فى كجبار رفضناه لاننا احسسنا بان اى تعويض مهما عظم لم ولن يضاهى او يعدل الارض الام ولن تكون مشاكيلا وكجبار مناحات لاهلها فى زمن لا تقوى الكلمة والمناحة من ايقاف ما يبيتونه من نية مع سبق واصرار وامعان وتمادى فى الظلم والى محو وجودنا. استحضارنا للميلودراما الواقعية والفنتازيا التأريخية لتهجير اهالى حلفا جعلنا نقرأ نفس السيناريو فى عيون العروس الجديدة التى تجهز لتعطى قربانا للنهر كجبار ومشا كيلا (حد الشمس) وغيرها. وحتى لا يأتى اليوم الذى نستبدل فيه حكايا الحلفاويين بالكجباريين او الداليين او كل النوبيين وحتى لا تتعالى مرة اخرى مناحات عن ارض وحياة فاننا نصرخ بالصوت العالى ...يكفى النوبيين تضحية ان مهروا عروسهم حلفا للنيل ... لا مزيد من نواح ... وسنستحضر كل ما حكوه النائحين لكيلا يكون هنالك المزيد من المناحات ... ودون ذلك المهج ... والتحية لكل النوبة ولكل الشرفاء المعضدين والمتضامنين لايقاف الاغراق الثانى استنصارا لقمارى لا تحتمل مزيد من التهجير والنواح فقد نضبت منابع دموعهم على حلفا حتى جفت.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة