|
Re: محمد كريشان مذيع الجزيرة.. (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
زعتر وشاي مع ياسر عرفات
بعد هذه الحادثة، سيعود كريشان إلى عالم الصحافة التونسية، الذي أخذ يضيق وينكمش أكثر مع قدوم بن علي، وفي هذه الفترة سيقترب من أجواء القيادة الفلسطينية، التي استقرت في تونس منذ عام 1982 بعد خروجها من لبنان، وهنا لن يقتصر دوره على نقل تصريحات قادتها، أو إجراء مقابلات معهم، بل نراه يقترب أكثر فأكثر من الحالة المشرقية وتياراتها الأيديولوجية، حتى غدا مشرقيا في همومه، وإن كان ذلك ليس غريبا على أهل تونس، فهم أحياناً عروبيون أكثر من أهل المشرق أنفسهم، وهذا أمر اختصره المؤرخ التونسي هشام جعيط عندما وصف ميشيل عفلق بـ»النبي السياسي» كما تعجب أيضا من ثقافتهم وحبهم للتراث المشرقي، وسماع أغاني صباح فخري، حتى سحناتهم تبدو أقرب للمشارقة من سحنات أهل المغرب والجزائر. في هذه الفصول سيروي لنا قصصا عن ياسر عرفات، وعن شخصيته وأيضا عن الحكيم جورج حبش وأبو مازن؛ كان أبو عمار كما يقول محمود درويش «الفصل الأطول في حياتنا» وهو الرجل الوحيد الذي رأى العالم على وساخته، كما استطاع أن يمزج بين عقلية المنفتح والمقاتل المستعد للشهادة في أي لحظة، وهذا ما لم يجده الفلسطينيون بالكامل في عباس. ومن القصص الطريفة عن هذا الرجل هي دعواته للعشاء، التي ظن كريشان للوهلة الأولى أنها قد تكون وجبة دسمة، وإذا بها شيء من الخبز والزعتر والزيتون وبعض الأجبان مع الشاي. هذا الهم العروبي سيتعزز لاحقاً لدى كريشان، فبعد انتقاله لقناة «بي بي سي» في لندن عام 1995، لن يستمر، هو وأصدقاؤه ممن سيشكلون لاحقا طاقم قناة «الجزيرة» في العمل مدة كافية بسبب إغلاقها، ولذلك وجد نفسه في الدوحة التي بدت له في وقتها «قاسية ومتقشفة في كل شيء آنذاك، فلا مطاعم ولا مقاه ولا سيارات فارهة، كانت مدينة صغيرة، أقرب إلى التواضع الشديد منها إلى الغنى «ولن تمر سوى خمس أو ست سنوات على انطلاق قناة الجزيرة، وإلا سيبدأ عالم الغزو القروسطي في القرن العشرين، إذ قام «جنود الله» بتدمير أبراج الولايات المتحدة، الأمر الذي سيدفع بوش الابن لاحقاً إلى غزو أفغانستان برياً، وفي هذه الأثناء سيظهر بن لادن على القناة، وفي أعلى الصورة عبارة اكسكلوسف Exclusive وليته توقف الأمر هنا، فبعد مضي سنتين تقريبا كانت القوات الأمريكية قد حشدت جنودها على تخوم العراق، وهناك ستطلب القناة من كريشان إجراء مقابلة مع وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف، ولم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرف فيها على المدينة، فقد زارها وهو شاب صغير بعد حصوله على منحة دراسية، لكنه لم يبق سوى عدة أيام، كما أن «التمن»/الرز العراقي يومها لم يرق له، وعند الانتهاء من المقابلة اقترح عليه أصدقاؤه زيارة شوارع بغداد لأكل سمك «المسقوف» إلا أنه رفض ذلك، وأصر على مغادرته العراق عبر الحدود السورية، في ظل اقتراب المعركة وعدم رغبته في حضورها، فهو كما يقول لم يكن ابن مخيمات أو تجارب في الحروب، ولذلك آثر الرحيل، ليجد نفسه بعد أسبوع من سقوط بغداد يعود مرة أخرى، وهناك سيبدو له المشهد مختلفاً؛ فبلد بأكمله كان قد سرق، كما تحولت عدد من منازل المسؤولين إلى مقرات للميليشيات، وغدا سوق الحرامية في المدينة يوفر كل شيء مزور حتى شهادة دكتوراه من هارفرد، لكن رغم هذه الظروف الصعبة اعتاد على مذاق الكيمر العراقي وخبز الصمون السخن والجاي (الشاي).
عمدة برقش ويوميات القدس
كما نعثر في سيرته على تفاصيل جيدة حول السياقات التي دفعته ودفعت قسماً من موظفي قناة «بي بي سي» العربية إلى زيارة الدوحة والعمل فيها وترك لندن، كما ينقل لنا صورة قريبة عن الشهور الأولى والتحضيرات لإطلاق قناة «الجزيرة» مع ذلك فهو لا يشبع شغفنا للتعرف أكثر على طريقة العمل داخل هذه المؤسسة الضخمة، وقد يبرر هذا السكوت من نواحي عديدة، منها أنه ما يزال يعمل في هذه المؤسسة، وأيضا أن الذاكرة أو مشروع كتابة السير في النهاية هو مشروع غير بريء، وغالبا ما يبقى متحيزا لبعض الصور على حساب صور أخرى، ولذلك عادة ما ينظر الدارسون في عالم السير إلى هذه النصوص بوصفها خطاب حول الماضي وليس بوصفها تعكس الماضي وحسب. لكن بعيداً عن هذه النقطة، يعود كريشان للقاءاته وخلفية لقاءاته المتكررة مع «عمدة قرية برقش» محمد حسنين هيكل، وطقوس حياة هذا الرجل اليومية على صعيد النوم والأكل والعمل وغير ذلك، كما يتطرق في سيرته لزيارته للقدس وسيره في شوارعها ورفض أصحاب المحال والمطاعم دفعه لأي فاتورة، كما سيمر في هذا السياق على لقاءاته الغنية بابن مدينة يافا، الأكاديمي الفلسطيني إبراهيم أبي لغد، الذي عاش 40 سنة في الولايات المتحدة الأمريكية ثم قرر العودة للتدريس في جامعة بير زيت، يومها سيخبره مضيفه أن الشيء الأساسي الذي تعلمه هو حجم الخطأ التاريخي الذي ارتكبه الفلسطينيون سنة 1948 عندما تركوا وطنهم، فقد كان خطأ جسيما، وكان عليهم كما يقول أن يبقوا على هذه الأرض، حتى لو انتصرت إسرائيل. وفي السيرة أيضا تفاصيل وتفاصيل كثيرة وممتعة عن تجربة هذا الإعلامي وقصة الواقع العربي خلال أربعة عقود وأكثر، ولذلك فهي تشكل إضافية غنية لعالم السير الذاتية العربية.
|
|
|
|
|
|
|
|
|