|
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� (Re: النصرى أمين)
|
وكان المتعلِّمون "يتثقَّفون" بقراءةِ الصُّحف والمجلَّات المصريَّة؛ ويستمعونَ إلى إذاعاتِ القاهرة قبل أن تُفتَتَحُ واحدةٌ في أمدرمان؛ ويُشاهدون الأفلام المصريَّة التي تُعرَضُ مساءً في دورِ العرضِ المحدودة؛ وكانتِ الخِيَمُ وصيواناتُ الطُّرقِ الصُّوفيَّة وسُرادقُ الحكومة يُشرِفُ على تزيينها ورسمِ خطوطِها عددٌ من الخطَّاطين المصريِّين؛ كما شارك أفرادُ البعثةِ المصريَّة في تأسيسِ الفرق الرِّياضيَّة، فلا عجبَ أن يُغيِّرَ الدِّكتاتورُ الثَّاني اسمَ فريقٍ منها في بيت المال من "فاروق" (الملك المخلوع في أعقاب "الثَّورة" المصريَّة) إلى "ناصر"، عند تنفيذِ قرارِ دمجِ الأندية، فضاع الفريقُ الوطنيُّ "الكراكسة" من جرَّاءِ هذا القرار المُجحِف؛ وكانتِ الأسطواناتُ الأولى لكرومة وزنقارَ وسرور تُطبعُ في القاهرة؛ وكان الشُّعراءُ يهفون للإقامةِ المؤقَّتة فيها؛ فلا غروَ أن تشرَّبتِ الحركةُ الوطنيَّة السُّودانيَّة، بجناحَيْها الاتِّحادي والاستقلالي معاً، إبَّان عهد الطَّلب في القاهرة، بروحِ الثَّقافة المصريَّةِ العميقة، إن لم يكن بتبدِّياتِها السِّياسيَّةِ الظَّاهرة على السَّطح. لا نقولُ إنَّ للقاهرةِ أطماعاً في السُّودان، ولكن نقول إنَّ لها مرامياً واضحة في جنوبها منذ نشوء الدَّولة المصريَّة الحديثة في كَنَفِ الاستعمار؛ فإستراتيجيَّتُها الكبرى - التي أدَّت إلى مشاركة الوطنيِّين المصريِّين في حملة الغزو، ومن ثمَّ المشاركة في حُكمِ البلاد بدَورٍ محدود - قائمةٌ على حراسةِ الحدودِ الجنوبيَّة وتأمينِ مصادرِ مياه النِّيل. ولم يكن في مقدورها بجُثُوِّ المستعمرِ على صدرِها أن تقومَ بهذا العملِ وحدَها. وكان من حظِّ الحركةِ الوطنيَّة المصريَّة في أعقاب ثورة عرابي أنَّ كان لدى المستعمرِ البريطانيِّ هدفٌ واحدٌ من وجوده في مصر، وهو حراسةُ حركةِ الملاحة في قناةِ السِّويس لضمانِ وصولِ البضائع من الهند، جوهرةِ التَّاجِ البريطاني. لوضوحِ هذينِ الهدفَيْن وأهميَّتهما الإستراتيجيَّة لكلٍّ من بريطانيا ومصر، كان من اليُسرِ عقدُ شراكةٍ، أو زواجِ مصلحةٍ، تبرمه وزارةُ الخارجيَّة البريطانيَّة بالاتِّفاقِ مع تركيا ومصر، التي كانت خاضغةً للسُّلطانِ العثماني، من غيرِ حاجةٍ إلى تدخُّل وزارة الحرب أو المستعمرات في هذا الشأنِ الدبلوماسيِّ الخاص. ومن هنا نشأ ما يُسمَّى بالحُكمِ الثُّنائي أو السُّودانِ الإنجليزيِّ المصري. هذا ما كان بشأنِ تأسيس دولة الحكم الثُّنائي، ولكنَّ تطوُّرَه قد شابه صراعٌ دائم بين الطَّرفين، أدَّى إلى خصومةٍ سافرة، خصوصاً مع تتالي قدوم الحُكَّام الجدد من خرِّيجي جامعتَيْ أكسفورد وكيمبردج، ونمو الحركة المتصاعدة داخل المركز الكولونيالي لتفكيكِ جميعِ المستعمراتِ البريطانيَّة. وكان من جرَّاءِ هذه الخصومة أنِ استمالَ كلُّ طرفٍ قسماً من أقسامِ الحركةِ الوطنيَّة؛ فكانتِ المجموعاتُ الاتِّحاديَّة، بحُكم فكرتها الأساسيَّة، أقرب إلى مصر؛ بينما كانتِ المجموعاتُ الاستقلاليَّة، بشكلٍ مفارقٍ ومتناقضٍ، أقرب إلى بريطانيا (ولا يُمكِنُ تفسيرُ هذا القرب إلَّا برغبةِ الموظَّفين البريطانيِّين - لتأكُّدهم من المصير المحتوم للمستعمرات - ألَّا يتركوا في السُّودانِ وراءهم مستعمرٌ آخرُ، ولو تسربل بأزياءِ العروبةِ والإسلام أو الوحدةِ المصيريَّة لشعوبِ وادي النِّيل. وبالفعل، تسلَّلت هذه الخصومة بين الشّرِيكين إلى الحركةِ الوطنيَّة النَّاشئة، فنشبَ بينها صراع، أُزيلَ في إحدى المرَّاتِ بالتَّوصُّلِ إلى صيغةٍ تصالحيَّة، يتمُّ بموجبها تعريفُ الحركة الوطنيَّة السُّودانيَّة بأنَّها "في اتِّحادٍ مع مصرَ وتحالفٍ مع بريطانيا". هذا الوضعُ، على غرابته، لا ينتقصُ من قامةِ الحركةِ الوطنيَّة الوليدة، بوجودِ كلٍّ من دهاقنة السِّياسة البريطانيَّة وإستراتيجييِّ السِّياسة المصريَّة، التي لم تتغيَّر ولن تتغيَّر؛ ولولا دهاءُ الأزهريِّ المُطابقِ لذكاءِ الشَّريكين، لتعثَّرَ نشوءُ الدَّولةِ السُّودانيَّة منذُ لحظةِ الميلاد. إلَّا أنَّ المشكلة ما زالت تُراوحُ مكانَها، فمصيرُ الدَّولةِ السُّودانيَّة مرتبط بمصيرِ مصر. وإذا لم تستصحبِ الدَّولةُ السُّودانيَّة ذكاءً ودهاءً أزهريَّاً يوميَّاً، ستؤدِّي الضَّوضاءُ المتصاعدةُ من الجانبَيْن في الإنترنت، وردودُ الأفعالِ غيرِ المراقبةِ في الصُّحفِ السَّيَّارة، إلى حدوثِ ما لا يُحمَدُ عُقباه. نحنُ واثقونَ بأنَّ أجهزةَ الاستخباراتِ المصريَّة تعملُ بمنتهى الحكمة، في مراعاةِ مصالحها، ولكنَّها قادرةٌ على اللُّجوءِ أحياناً إلى قعقعةِ السِّيوف، مثلما هو بائنٌ من مواجهتها للتهديدِ الإثيوبيِّ بملءِ سدِّ النَّهضة. فهل تتمتَّع أجهزةُ استخباراتِنا ودبلوماسيِّينا في أعقابِ الثَّورةِ بدهاءٍ وذكاءٍ أزهريَيْن؟؛ فإن لم يكنِ الأمرُ كذلك، وهو في الغالبِ ليس كذلك، فيجبُ الإسراعُ في هيكلةِ الأجهزة الأمنيَّة ووزارتَي الخارجيَّة والرَّي (مع ملاحظةِ أنَّ تسمية الأزهريِّ جاءت من نَيلِ شهادة "العالِميَّة" أو "المشيخيَّة" من الجامع الأزهر الشَّريف في مصر). في الختام، نودُّ أن نُعبِّرَ عن احتفائنا بدحضِ تفسيرِنا في الحلقة السَّابقة لعبارة "التُّونسيَّة"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"؛ إلَّا أنَّ أطروحتَنا الرَّئيسيَّة بصدد أهميَّة دور أجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة ما زالت قائمة، وما طرحناه أعلاه يمضي أكثر في تعضيدِ هذه الفكرة الجوهريَّة التي استندت إلى تطبيقِ الفكرة على واقعِ نشأةِ الدَّولة وتطوُّرِها في السُّودان. وربَّما نشرحُ في حلقةٍ مُقبِلة ما نعني بالاحتفاء، الذي سيقودنا إلى جون إكِلِس، وكارل بوبر، وتوماس كون، وليونارد سسكِند، ومنهجيَّةِ العلوم الطَّبيعيَّةِ والاجتماعيَّةِ معاً.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة/ محمد خلف | النصرى أمين | 07-14-20, 01:39 AM |
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ ومصي� | النصرى أمين | 07-14-20, 01:41 AM |
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� | النصرى أمين | 07-14-20, 01:41 AM |
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� | النصرى أمين | 07-14-20, 01:42 AM |
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� | النصرى أمين | 07-14-20, 02:04 AM |
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� | Sinnary | 07-15-20, 10:26 PM |
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� | Sinnary | 07-16-20, 05:11 AM |
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� | النصرى أمين | 07-17-20, 04:55 AM |
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� | بدر الدين الأمير | 07-17-20, 08:35 AM |
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� | Sinnary | 07-19-20, 08:26 PM |
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� | Sinnary | 07-21-20, 02:39 AM |
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� | Sinnary | 07-22-20, 02:25 AM |
|
|
|