|
Re: ذكريات رمضان قبل اكثر نصف قرن (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
كنت ألاحظ زمان أن البعض كانوا يضيقون ذرعاً عندما تظهر مؤشرات قدوم رمضان ومن منتصف شعبان يبدأ نوع من الشكوى الخافتة ( أها جوبو ) ومعناها بالعربية ( هذا الشيء قادم ) .. لأنه كان عند البعض هو الحرمان من الملذات وتقييد للسلوك والانطلاقه ليس خوفاً من الصوم عن الاكل والشراب .. لأن انسان المنطقة قنوع بطبعه ولا يظهر جشاعة ونهم في الاكل لأنه سوف يوصف بما كان يسمى ( قوسكي ) او من يلح في طلب الاكل ويجعله كل همه .. ولكن كانت هناك ممارسات سياحية اخرى مثل جلسات السمر او ( بوقانا ) التي سوف يتم حظرها خلال الشهر بأكمله حتى بعد صلاة العيد .. ورغم ذلك فإن صيام رمضان لم يكن عبادة فقط او ينظر اليه من ناحية عقدية بحتة ولكن تمتد هذه النظرة لتشمل الرجولة ( وفاطر رمضان ) كان لا يعتد بشهادته ابداً ولا يؤخذ برأيه ولا يعترف به كرجل في المجمتع وكان يوصم بأنه ( فاطر رمضان ) او بدنقلاوية ( رامدان كل ) حتى كانت هذه الوصمة تلحق بأبنائه واحفاده .. ( جدك كان فاطر رمضان ) قبل حلول الشهر الكريم .. كانت الاستعدادت تجري من وقت مبكر جداً خاصة من جانب الامهات .. اول تلك المهمة طبعاً هي البحث عن نوع معين من الذرة الجيدة والممتازة ( بلدي ) او ( ما يسمى بالذرة البيضاء ) وبالدنقلاوية ( مريه ارو ) او ( مريه دوقدوق ) ايام كانت زراعة الذرة منتشرة عندنا وقد ضاعت بذور هذا النوع من الذرة عندما جاءت انواع من التقاوي المضروبة ايام حكومة نميري .. اذكر جيداً كيف كانت الوالدة واختي الكبيرة يجهزون الذرة بالغسيل وابقائها في الماء لفترات محددة .. ثم يتم عمل الزريعة .. هذا تقريباً هو الاسم العربي وبالدنقلاوية .. إلتي illti ) ) بعد ذلك يتم فرش الذرة في عنقريب داخل الغرفة او المستودع (ارين كا ) ويفرش على العنقريب في الغالب شوالات فارغة كأرضية او فرش للذرة داخل الغرفة ( للاحتفاظ بالرطوبة للانبات ) ولكن ما لفت نظري واثارني كي ابحث عن السبب حتى يومنا هذا .. هو .. ( ورق العشر ) والعشر ( هبد habid ) كما هو معروف نبات بري مقاوم للحشرات ومقاوم للبكتيريا بدرجة عالية ( زي المطهر حالياً ) .. وقد ادركت ان اهلنا كان لهم ذكاء وموروث لا يستهان ومعرفة بخصائص النباتات .. ولم يكن عشوائياً استخدام ( صفق العشر ) لتغطية الذرة بطبقة عازلة ورطبة مع الحرص على عدم التخمير والتعفن وهو سبب مقنع وعلمي ورغم ان العشر كان يعتبر من النباتات غير المحببة لاهلنا .. فإن ( اوراق العشر ) هي الحل وهذه الاوراق خضراء جداً ورطبة جداً ولا تجف بسرعة واذا جفت لا تتعفن ابداً فكان السر وراء عدم نمو البكتيريا الخبيثة واتلاف الذرة .. وطبعأً السبب يرجع لتلك المادة البيضاء التي تمتاز بشدة المرارة والطعم اللاذع ( لبن العشر) وبدنقلاوية (هبد نجي) .. بعد عدة ايام تنبت الذرة لدرجة معينة ثم تجمع للطحين وهي المادة الرئيسية في صناعة ( حلومر) او ( أبريه قيليه ) .. وعملية عواسة الابريه كانت تتم في شكل نفير (فزع) في الغالب مهمة الشابات وعلى الامهات المراقبة وتحديد المقادير .. وابداء الملاحظات والتدريب لبعض الفتيات حتى تتعلمن المهنة .. تأتي كل واحدة حاملة على رأسها (الدوكة) او ( ديو) بالدنقلاوية وينتقلن من منزل الى آخر حتى اتمام العملية .. و كان لرمضان لون وطعم ورائحة .. كانت الانوف تمتليء برائحة الحلومر التي تغطي كل اجواء القرية وهذه كانت احدى ارهاصات قدوم الشهر ..
|
|
|
|
|
|
|
|
|