|
Re: خاطرة(1)أن تكون شيئا ما: (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
نوستالجيا لقريتنا الرؤوم
أين اختفت القرية؟
يا أهل قريتنا.....
يا من كنتم تعمرون الذاكرة و الخيال و الوجدان أين اختفيتم؟ يا من نشأنا في احضانكم، و رضعنا من براءتكم و طهركم. و نمت أجسامنا في كنفكم . و من حسن رعايتكم كسبنا صفاء روحنا ،
و من طيب مأكلكم و مشربكم تطهرت دواخلنا.
قولوا لي أين ذهبتم؟
و أين ذهب ذلك الفضاء؟... أين ذهبت تلكم المعالم العزيزة، و الذكريات الحبيبة التي كانت و لا زالت تسكن الذاكرة الطفولية ...
قولوا، أين اختفت تلكم الأشجار، و الأغنام و المراعى؟ أين اشجار النيم و النخيل بطلعتها الباذخة القوام ، و البان بقاماتها الفارعة، و أشجار الدوم الرشيقة.. اشجار الدوم التي كانت تتهادى أغصانها و يصفق جريدها طول اليوم مع الهواء.. و في الليل كانت صوت وشوشة
أشجارها يخيفنا إذا تعلو وشوشوات ها مع الرياح كأنها تهدهد أعين القرية و ساكنيها لتهجع باكرة.
و في الليالي المظلمة تقف تلكم الأشجار العملاقة منتصبة كأنها عماليق تحرس القرية من الجن و من تلكم المخلوقات الغامضة التي كان تسكن
أرواحنا الخائفة و تتفنن مخيلتنا في رسمها صورتها في إتقان.
لا بل أين تلكم البئر الرؤم، التي كم سقت انفساً عطشى و بهائم سائمة؟
أين ذهبت البئر فقد كانت في منتصف المسافة بين المنازل الطينية المتشابهة. كان الجميع يلتفون حولها و يلتقون حولها كأنها زمزم،
ليسقوا الإنسان و الحيوان و حتى الزرع في المنازل.
كانت البئر قبل أن يسرق التلفاز اوقات الناس هي السقيا و هي اللقيا ...تتسابق الفتيات الغريرات باكرات (لنشل) الماء من البئر في رياضة صباحية يومية
يتبادلن إثناءها التحايا، و يتناقلن أخبار القرية و هي طازجة قبل أن يتلقفها وجه النهار. كانت البئر ملتقى النساء يقلبن فيها الأفكار و الاقتراحات اليومية و
يضعن البرامج للزيارات الاجتماعية و لتقديم واجب العزاء أو التهاني..
و بعد أن ترتفع الشمس في كتف السماء و يكون الضحى قد عم الكون، تكون البهائم قد ارتوت و ازيار الفخار قد امتلأت و الاواني كبيرها و صغيرها قد أُتْرِعَت..
و عنئذٍ ينفضّ السامر من حول البئر بعد أن ابتلت جوانبها بالماء المنساب من الدلو وانسال أثناء انشغال الفتيات بالمزاح و التغامز و المداعبات الصافية.
أين ذهب كل ذلك و أين ذهب هؤلاء و أين ذهب الأهل و أين ذهب الاقارب؟
..كيف انسلوا واحدا بعد آخر في غفلة مني و في غفلة من الزمان..؟
آه ...اعرف أن منهم من طوته المدافن و منهم من طواه النسيان و منهم من طوته المدينة بجناحيها الكبيرتين..
آه إنها المدينة ...فقد نادتهم المدينة نداء حفيا بجاذبية، و دعتهم بروقها الخُلّبْ. و هكذا انخدعوا بإغراءاتِ غانية خادعةٍ كذوب.
و هكذا انطلت الحيلة عليهم فهاجروا إليها.و بعد حين و بعد أن افاقوا ،لم يجدوا قريتهم الدفيئة و لا جيرانهم البسطاء، و لا علاقاتهم الصادقة..
و هكذا اكتفوا بتقليب الأكف حيرة و عض الانامل ندما و حيرة.
و حين ما يأتي القادمون إليهم من القرية كانوا ينقلون إليهم في حبور بأن قريتهم قد صارت السيارات تخيط شوارعها جيئة و ذهوب، و أن أعمدة
الكهرباء قد غُرِزتْ في الشوارع، و أن انابيب المياه قد غزت احشاء المنازل. و أن البشارات تتوالى..قالوا كل ذلك و أكثر..
و لكنهم لم يقولوا لهم بأن قريتهم قد اصبحت ملاذا للغرباء، و إن كان الغريب فيها لا يلقى شربة ماء، و التائه لا يجد من يدله على الطريق،
و ابن السبيل لا يجد القِرى.. و أن العذارى قد فارق الخفر الخدود و البصر، و كحّلت الجرأة عيونَهِن ،و فارق الحياء الأهداب و الخفر.
و أن النساء قد ارتفعت اصواتهن سطوة و أن الرجال قد فقدوا الهيبة و الوقار ...و صاروا بلا كلمة مسوح و لا قرار و لا صولجان.
و مرت الأيام، و رجعوا بعد غياب سنين لزيارة من تبقى في القرية. لكنهم لم يجدوا القرية التي تركوها من خلفهم... فالقرية التي عرفوها و الِفوها
قد توارت خلف الأيام. و لكنهم وجدوا قرية أخرى. قرية لا تشبه قريتهم.
لم يجدوا البراءة و لا البساطة و لا الإيقاع الحنون و لا الأحضان الدافئة.. لم يجدوا حتى الحيوانات و لا الطيور التي كانت تجوس في الأنحاء ولا الزرع النضير.
و في المساء بحثوا عن جلسات السمر فوق الكثبان الملساء الباردة، و ضوء القمرالذي كان يداعب العيون النواعس و القلوب الهوائم فلم يجدوها.
و اختفت كذلك الحكاوي السمحة المجدولة بالبراءة و البساطة و الدفء..
واختفت الحكايات التي كانت حينما تُرْوى تدغدغ الأخيلة البريئة،و تسلّي العواطف البريئة و تبارك المساءات الخجولة..
بحثوا عن كل ذلك فلم يجدوه. و حينما الحّوا في السؤال، كان الجواب: لا ندري ...و علامة استفهام كبيرة، و حيرة تتبعها تشع من العيون.
و في الصباح حينما تجولوا في الانحاء فلم يجدوا أشياء كثيرة كانوا قد الفوها و تركوها وراءهم : لم يجدوا أشجار الدوم و لا البئر الرؤوم ..
و لا ضحكات النساء و الفتيات الغريرات حول البئر و في الطرقات..و لا همسات الاماسي الدافئة و لا قصص البراءة و التسلية الطريفة.
سألوا عن البراءة و المروءة و الشجاعة و الكرم..و عن.. و عن... و ظلوا يسألون، و لم يجدوا الجواب، إلى أن عادوا للمدينة محزونون.
|
|
|
|
|
|
|
|
|