ما يسفرعنه انصهار اللاهوت في الناسوت علي تولي حينما كان الإنسان يتوجَّش أمام الظواهر الكونية لضعفه المعرفي كانت الكهانة تستغل هذا الضعف فيه فتوظف طاقاتها الميتافيزيقية في تفسير الظواهر فيما يجسد ويكرس العلاقة بين الكنيسة والدولة. ومن المعلوم أن المجهول دائمًا يكون مصدراً لجلب الخوف. ولم تزل العلاقة بين الدين والدولة علاقة جدلية.. يشوبها الكثير من الخلط المفضي إلى انحسار الدين تلك العلاقة التصالحية التكاملية. فهي تنشأ من الاهتمام بإسعاد البشر ولكنها سرعان ما تتحول إلى أن تكون علاقة استغلالية يفرض واقعًا ظلاميًا باستغلال الساسة ورجال الدين على حدٍ سواء في إصدار الفتاوى التي تكمم الإفواه وتخدِّر الشعوب؛ لتحقيق المآرب والأطماع فهي بمحازاة المنافسة قد تأخذ أشكالاً من الصراعات والتقاطعات. لقد ولى عهد أن تكون العلاقة بين الدين والدولة علاقة توافقية تصالحية يتساوى فيها الحاكم والمحكوم.. باعتبار أن الدين وما فيه من محاذير يكون حاكمًا وحكمًا بينهم كضامن لعدم خروج الحكام عن الدين لاستغلال الشعوب وقهرها ونهب خيراتها .. وأن يلتزم الحكام الحدود والنواميس لأنهم يعلمون أن الله يراقبهم في جميع تصرفاتهم وقراراتهم وأنماط سلوكهم .وكذلك الشعوب أيضًا تلتزم حدودها في القيام بالواجبات ومراعاة الحقوق.وفي الإسلام شهدت هذه العلاقة تلك الصور من مظاهر العلاقة التوافقية التكاملية في عهد الخلفاء الراشدين كما جاء عن عمر بن الخطاب: (لو عثرت دابة بالعراق لرأيتني مسؤولًا عنها أمام الله لمَ لمْ أسوِّ لها الطريق). أما على الصعيد العام لمكانة الدين من الدولة وخاصة في المسيحية لقد نشب العداء وشاب العلاقات بينهما طابع العدائية المحضة.. تجلى هذا بعد الثورة الفرنسية حيث كان مطلبًا ثوريًا ينادي فيه عامة الشعب بإقصاء الدين عن السياسة بسبب ما كان من ظلم أسس له ما شهده من تزاوج بين الحكام والكنيسة أفرخ حكمًا شموليًا متسلطًا أزهقت خلاله العديد من أرواح العلماء والمفكرين والفلاسفة في حرب سافرة على العلم وأهله بتهمة الهرطقة. وأصبحت هذه الحالة تأخذ حيزها من الوجود في استشرائها بين جميع الدول.. إلى يومنا هذا.. ولم يسلم الإسلام من استغلال الحكام له وخير مثال ما نراه الآن في جميع البلدان العربية من استغلال رجال الدين والإعلام لتزيين الحكام وتبرير سلوكهم وقراراتهم.. واستحكام الظلم بما يؤدى إلى سجن المعارضين من المفكرين والعلماء والشعراء والمثقفين وحرمانهم من الحق في الحياة وإعدامهم أو نفيهم وملاحقتهم.. ونحن نرى انحسار الصراع حول تحكيم الشريعة تكاد تتلاشى ملامحه .. ولم يبق إلا الصراع حول مرجعيتها في الدستور. رغم معرفتنا عن (نيتشة) انتقاداته اللاذعة للدين والكهان وتمسكه بالعلم واقتناعه بأنه البديل الذي يمكن للإنسان الاستغناء به عن الدين. يقرّ بأنه أمر صعب التحقيق إذ ينبغي أن تكون هناك أخلاق تضمن للإنسانينة ضبط سلوكها وعلاقاتها. ورغم أن نيتشة قد هجر دراسة اللاهوت واتجه إلى دراسة الفيلولوجيا يدرك تمامًا سحر الدين ودوره في المجتمع. لذلك وإن كان شديد الانتقاد له لكنه لا يدعوا لانتزاعه أو فصله عن المجتمع على الأقل في وقته. وقد تحدث مارسيل غوشية في كتابه " فك السحر عن العالم الصادر1985 على ما كانت عليه سلطة الدين التنظيمية في المجتمعات الإنسانية والطريقة التي اتبعها الغرب للخروج عن الدين مشددًا على أن هذا العصر هو عصر الخروج من الدين في حديثه عن علاقة الدين بالسياسة في التاريخ الأوروبي والمسيحية بالذات التي يعتبرها " ديانة الخروج عن الدين" وانسحابه لا يعني خروجه عن حياة الناس كممارسة فردية.وإنما الخروج عن عالم يكون الدين في حد ذاته منظمًا بنيويًا ، ويوجَّه الشكل السياسي للمجتمعات" ويلخص كل هذا أنه عند انصهار اللاهوت في الناسوت يتحقق انسحاب الدين عن الدولة.. بافتضاح دواعي ومظاهر الاستغلال للشعوب من أجل مصالح الطغمة الحاكمة والكهان أي رجال الدين .
مراجع: -لماذا يرى نيتشة إنه لا يمكن التخلي عن الدين؟ مدونات سفيان الغانمي9/12/2019 -الدين والسياسة .. تصالح أم تخاصم؟ د. محمد نور حمدان - ميشل غوشيه في مدونات التوحيدية والسياسة
12-09-2023, 01:20 AM
Biraima M Adam Biraima M Adam
تاريخ التسجيل: 07-05-2005
مجموع المشاركات: 27777
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
علي تولي
Biraima M Adam
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست