|
Re: مجلات هدية الإعدام !! (Re: محمد الجزولي)
|
الا ان جاء اليوم وهدمنا الجدار العازل بينا وبين شمس ، والفضول يملئنا لنعرف المزيد من التفاصيل في هذه الجريمة فأصبح يجالسنا وسمح له الحرس بذلك ، وكان كثيراً ما نتواجد معه في غرفته ، ووجدنا فيه دماثة اخلاق من تربوا على ايادي تقية وفاضلة وعليه تدين معتدل ويمتلك ذخيرة من الثقافة والعلوم والمعلومات العامة ، وحافظ من الشِعر والمدائح النبوية الشريفة ما يثير دهشتك ، ويمتلك صوت عزب في الغناء والانشاد وحتى في الكلام ، ونحن في بواكير عمر الوعي ، عطشا لمثل هولاء النفر من الناس في حياتنا نجلس لهم القرفصاء ونستمع لهم بنهم وحب ، فوجدنا ضالتنا فيه واصبح لنا ملاز في العِلم والثقافة ومرجعية ، كان يكبرنا بعشرة سنين ، وهو ايضاً وجد ضالته فينا لشُح الزيارات ، وعزلته .. ففتح لنا باب قلبه "مَتاكَّياً " بحذر من بعض اسرار وخفايا ، وحكى لنا عن تفاصيل الجريمة باقتضاب وحجب لبعض الاشياء ! ، الا ان تم القبض عليه ، وكان يعمل محاسباً بأحد البنوك ، وايضاً تم القبض على شقيقه وزوج شقيقتهما ، واعترف هو بارتكاب الجريمة !! وفي صوته تحسُر وندم ، كان متردد في الاول ان يحادثنا في ذلك ، واستشعرنا انه لا يود ان يخوض ثانياً في حديث عن الجريمة او اسرته ، ويتحاشى ويهرب من ذلك بالحديث عن كل شي كل شي اخر ، احترمنا ذلك وواصلنا في علاقتنا الانسانية معه برغم ان تاكد لنا عن لسانه انه قاتل بالفعل !! ، لم يثنينا ذلك عن تواصلنا معه وتقربنا اليه ، واكتفينا بأن نسأله عن احوال المحكمة وسيرها ، يقول الحمد لله والمحامي بقول ان هناك احتمال لحُكم غير الاعدام ، وندعو له ونتمنى له رحمة من الله عز وجل .
واصبح واجبنا المباشر بعد مرافقة العم احمد وتفقده والعناية به اصبح يرافقه واجب اخر وهو التعاطي من شمس الدين وما ينشره لنا من معرفة وتحلُقنا حوله في المسامرات الليلية التي (ادمناها) داخل غرفته ..
ويدور دولاب الزمن ليجبرنا على ذلك اليوم الذي انجزنا فيه مهمامنا وذهبنا الى المستشفى اخر اليوم ، لنُفجع بخبر ترحيل شمس الدين الى السجن خلال اليوم ! ، لاكتمال علاجه ولم يعد هناك لزوم لتواجده في المستشفى ، وأصابتنا خيبة امل كبيرة بعد ما فشلنا في معرفة الى اي سجن تم ترحيله حتى نتمكن من زيارته ورؤيته مرة اخرى ! ، تحسرنا ودعينا ان يجمعنا به الله عز وجل في هذه البسيطة ، وعمنا احمد لم يمكث كثيراً بعد ذلك فأنتقل الى رحاب بارئه " تقبله الله بالرحمة والمغفرة " ، وغادرنا المستشفى وفقدنا في عزيزان .
ودارت الايام دورتها ، وعبرت تحت الجسور مياه ، وشغلتنا الحياة ، وطيف شمس الدين لم يبارحنا في تذكره وتلهفنا لسماع اخباره ، والسؤال عن اين هو الان ! وماذا جرى في اموره ! والا اي حُكم تحصل عليه ، ولا نعرف له مسكن لأهله ! نتفقدهم ونسأل عنه ، !، وبما انه كان مُقِل عن الكلام حول اسرته وضارب غموض شديد في ذلك ، لم نلح لمعرفة اين يسكن بالظبط وفشلنا في التواصل معه من جديد ، حتى شقيقته عندما كانت تزوره لم نكن نراها كثيراً وان رايناها نرمي عليها السلام فقط ولم يدر اي حوار بيينا طيلة هذه الفترة ، وكانت دائماً تتوشح ثوب داكن وحزن وصمت . وسرعة الحياة واحداثها وانشغالاتها جعلت من صورة وذكر شمس الدين في ذاكرتنا تتوارى الى الخلف ويُخفى بريقها ،
الا ان جاء اللقاء الثاني ..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مجلات هدية الإعدام !! (Re: محمد الجزولي)
|
Quote: الا ان جاء اللقاء الثاني .. |
تغيرت احداث كثيرة في البلاد ، وفي ليلة كالحة نسائمها خيانة وتأمر خرجت افاعي في شكل بشر من الجحور لتلدغ احلمنا وتطلعاتنا وتلتف حول اركان البلاد واجسام العباد ، وهبت هجمة شريرة شرسة اطالت اعداد غفيرة من بنات واولاد الشعب وامتلئت الزنازين والسجون وفاضت بهم اركانها ، وكم فاضت اروح فيها ! ، ووجدنا نفسنا ضمن كثيرين نتحول بأمر الحاكم الباطش الجديد من زنزانة الى زنزانة ، واستقر بنا المقام في حوش وسير داخل سجن كبير وبين عدد معتقلين من خلق الله مختلفين التوجهات والسحنات والانحدارات العرقية والدينية والاجتماعية والثقافية ، واصبح بمثابة بيتاً الجديد وقصرنا التعيس المجبرين عليه لكنه وسيع فهو خير مية مرة من تلك الجحور والزنازين القميئة وضيقة ، فتعودنا عليه واحببنا حياتنا الجديدة فيه ، فهزمنا وحشته وبرودة لياليه وتفكيرنا المتلاحق في ما يدور في الخارج وقلق على اهالينا ، بالتعاضد والتكاتف والتكافل والمحنة والجسارة والصلابة والرفقة الحسنة والبرامج الثقافية والمسرحيات والكورال والندوات السياسية والتثقيفية والاعمال اليدوية وورش التلوين والرسم وحصص اللغات وكرة القدم والطائرة والمسابقات ولعب اوراق الكوتشينة والضُمنة والاناشيد والهتاف ، فكنا نخرج للعيادة والزيارات وكان هناك تقليد من كل يوم جمعة تُفتح الاقسام ويُسمح للمعتقلين زيارة بعضهم البعض ، وكان هناك اربعة اقسام ، الشرقيات ، المعاملة ، العنبر الداخلي والمديرية ، وكنا ننتظر ذلك اليوم بفارق الصبر حتى يتثنى لنا مقابلة ومعرفة تفاصيل الرفاق في الاقسام الاخرى وتبادل الاطمئنان والكُتب والمجلات والاخبار بعضنا واهالينا والرفاق في المعتقلات الاخرى والخارج .
وجاءت جمعة من تلك الجُمع ولم يتثنى لي الخروج من القسم لأحساسي بوعكة خفيفة ، فظللت على سريري اطالع بعض الكتب والمجلات واخرج للحمام فقط ، الا ان جاءنا داخل الشاويش (سانتينو ) المسؤل من القسم ليسأل عني بالاسم ، ويخبرني ان هناك شخص من المساجين يريد ان يراني ! ، دُهشت وسألته من ؟ اجابني بأنه طلب منه ان لا اقول لأنها مفاجاة !! مفاجاءة ؟ نطقت بها وانا في حيرة من امري من هذا المسجون الذي يود أن يفاجئني برؤيته ؟! فسمحت له متعجباً ! ، فغاب الشاويش سانتينو لفترة وعاد ومعه مسجون في لابس السجن ، "العراقي والسروال الدمورية " بوجه صبوح يغبشه شحوب مبتسم ، لم اتعرف عليه من اول وهلة ، وسرعان ما جاء صوته المألوف الذي لم يبارح اذناي طيلة هذه السنين بالتحية والسلام ، لتقفز تلك الصورة الى ذهني بوضوح تام ، غرفة رقم اثنين في الجناح الجنوبي بالمستشفى ، وذلك الشاب الخلوق شمس بشحمه ولحمه …..
>>>>>> يتبع
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مجلات هدية الإعدام !! (Re: محمد الجزولي)
|
تبادلنا الاحضان الحارة والحنينة ومشتاقة ، وبكينا لفرحتنا باللقاء من جديد ، ، وحكى لي انه شاهدني اخرج في وسط مجموعة من المعتقلين من ناحية العيادة متوجهين الى الاقسام ، وقال انه كان وبعض المساجين في نفس الوقت قادمين من المحاكم ، فعرفني لان شكلي لم يتغير ، فطلب من سانتينو ان يقابلني ، وشكرنا الشاويش الانسان على موقفه السوداني النبيل ، وقال لنا بلكنة ابناء الجنوب المحببة " خلو كلام اواطف ده وكلصو سريع سريع زول ده كان شافو هنا انا بكش كركون " ، وضحكنا ، وذهب سانتينو الى خارج العنبر ، فجلسنا نتبادل الاستفسارات والاطمئنان على احولنا ، وسألني عن عم احمد وكل الناس لم ينسى او يستثني منهم احد ، وعلم بإنتقال العم العزيز احمد ، حِزن جداً بصدق وادمعت عيناه لسماع ذلك ،ورفعنا اكفنا نتلو الفاتحة على روحه ، كان وجهة شاحب واخذ منه الشيب نصيباً ، وطالت لحيته ، ونُحِل جسمه ، وعيناه في حيرة من امرها مغلفة بحزن عميق لكنه لم يستطع ان يطفي بريق الحب والمحنة وتلك الضحكة المخفية منها ، عرف مني اني معتقل اصنف سياسي ، بلا قضية او تهمة ،تنقلت خلالها بعدة معتقلات اخرها هذا اللعين ، وحكيت له كيف سارت بنا الحياة من بعد افترقنا ، وحكى لي هو انه منذ ان غادر المستشفى ذهب الى سجن امدرمان ، وواصل في جلسات المحاكمات الا ان خابت توقعات المحامين وتمت ادانته بالاعدام ! وتم تحويله الى هذا السجن العمومي ، زنازين المحكومين بالاعدام في المحاكمات الاولية وينتظرون الاستئنافات ومنهم من تجري محاكماتهم الان وهو منهم ، وسوف يكون اعادة النطق بالحكم بعد خمس عشر يوماً ، لكنه غير مطمئن !! تأثرت له ودعوت له من صميم قلبي ، وافترقنا بعد ان اخذ مني مجموعة مجلات عندي ، وقال لي انه ايضاً عنده عدد لا بأس من المجلات المتنوعة ، وان شاء الله في زيارته القادمة اذا سمحت الظروف واجاد علينا سانتينو بشهامة اولاد البلد مرة اخرى ، سيجلب لي منها اعداد ، ووعد سانتينو انه سيجلبه هو او احد المضامين ، اذا لم نلتقي ثانياً ..
وبالفعل كانت هذه هي الزيارة الاخيرة ورؤيتي لشمس !! ، حيث تسارعت الاحداث تغلي داخل وخارج السجن وشغلتنا امور عدة وتغيرت وجوه ، وعدت شهور من اخر لقاءنا لم اسمع عنه شئ ! ولم اتمكن من معرفة ماذا حدث له !! ، وسانتينو نزل اجازة لاهله وقطع خيط تواصلي او سؤالي ! ، وحل محله شاويش اخر صارم وجاد جداً ، لا يعرف لسانه وتصرفاته الا لغة السجن ، سجان بمعنى الكلمة ! ..
>>>>>>
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مجلات هدية الإعدام !! (Re: محمد الجزولي)
|
وفي نهار يوم رتيب بطي كعادة ايام السجن ، التي لا تكحلها الا مراويد المعتقلين بنثر كل ما هو جميل ومفيد وملهم وصلب ، جاءوا ينادون عليّ وكنت في غفلة القيلولة ، فقمت لأجد احد المساجين المضامين يحمل كرتونة كبيرة ! قال لي شمس تمت ادانته بالاعدام في الحكم النهائي ، وتم ترحيله الى زنازين الاعدام ولبس الاحمر في انتظار مقابلة المفتي والتنفيذ !! واوصى بان تذهب هذه الكرتونة لك ! ، وعندما فتحتها وجدت بها مجموعة مقدرة من المجلات المتنوعة ! ..
واُعدم شمس في ما بعد بفترة قليلة !! .. تغمده الله وابدل ذنبه بواسع الرحمة والمغفرة . . انتهى .
| |
|
|
|
|
|
|
|