01:11 PM May, 11 2021 في كل عقد من عقود ما بعد اكتشاف السينما، تبرز وتتفوق السينما في بلد ما وتحصد الجوائز ويذيع صيتها.. في الأربعينيات توهجت سينما الواقعية الإيطالية الجديدة، ثم في الخمسينيات تسيدت السينما الفرنسية، بحيويتها الشبابية والموجة الجديدة، وتألقت السينما التشيكية بمخرجين جددوا شباب السينما، وفي السبعينيات تألقت السينما الألمانية، لتعرف السينما الإيرانية الازدهار في التسعينيات.
وفي بداية الألفية الثالثة، قفزت السينما الرومانية ولفتت الانتباه، وحصدت العديد من الجوائز في مهرجانات معروفة؛ فعلى سبيل المثال، فيلم (موت السيد لازاريسكو) للمخرج كريستي بيو، ترشح لـ( 34) جائزة عالمية في مهرجانات وجمعيات سينمائية فاز منها بـ(28) جائزة، من ضمنها السعفة الذهبية في مهرجان ترانسلفانيا السينمائي، وفاز فيلم (لا تلمسني) للمخرجة أدينا بينتيلي بجائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم في مهرجان برلين السينمائي الثامن والستين، وفاز فيلم (أريد الصافرة) في مهرجان ترانسلفانيا السينمائي، وفاز فيلم (حالة الطفل) للمخرجة كاتالين بيتر في مهرجان برلين السينمائي الدورة (63)، وفاز فيلم (4 أشهر 3 أسابيع ويومان) للمخرج كريستيان مونجيو، بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي (2007)، ومؤخراً حصل المخرج رادو جوده البالغ من العمر (43) عاماً على جائزة الدب الذهبي في الدورة الحادية والسبعين في مهرجان برلين السينمائي بفيلمه (باد لاك أو رلوني بورن).
السينما الرومانية في موجتها الجديدة، تنحو صوب البساطة الواقعية، حكايات من وسط مجتمع أفراد الطبقة الوسطى، في عهود حيرة الخروج من الديكتاتورية، والولوج إلى عالم مجتمعات الاستهلاك، شخصيات عادية تفتقد النجومية والسطوع، وحوارات رتيبة تقترب من الثرثرات اليومية عن الطعام والشراب والتدخين والرقص والعلاقات، شخصيات ليست نبيلة وليست وضيعة. سينما هزمت التمويل الحكومي، وصاحب الاشتراطات والتمويل الرأسمالي صاحب الإكراهات. اعتمد شباب المخرجين على تكاليف إنتاج بسيطة، وتقشفوا في نصب الديكورات الصناعية الضخمة ليصنعوا أفلاماً من مثل: (موت السيد لازاريسكو- شرق بوخارست- لا تلمسني- ما وراء التلال- الورقة ستصبح زرقاء- حالة الطفل- رحلة كاليفورنيا) وأخيراً الفيلم الذي نتناوله في هذا المقال بعنوان (سييرا نيفادا) من إخراج كريستي، صاحب الفيلم الآخر الجميل (موت السيد لازاريسكو). شارك في الأداء: ميمي برانسكو في دور الطبيب (لاري)، وآنا جيردو في دور الأم (نوشا)، ومارين جريجور، ورولندو أنجوس، وماريانا أندريه، وبيترا كورنيلا. الفيلم أيضاً من تأليف كريستي بيو، يحكي عن يجتمع أسرة الطبيب (لاري) في منزل الأسرة، والأم تحتفل بذكرى رحيل الوالد، يتجمع (لاري) وأمه وأخته وخالته وزوجها وأبناؤها وزوج الأخت. زمن أحداث الفيلم لا يتجاوز (4) ساعات من الظهيرة حتى بداية المساء، لنتذكر فيلم كريستي الآخر (موت السيد لازاريسكو) الذي لم تتجاوز أحداثه ساعات منذ بداية الليل حتى الفجر.
تدور أحداث الفيلم داخل شقة من شقق الطبقة الوسطى الرومانية الضيقة، تتحرك الشخصيات من غرفة إلى أخرى وإلى المطبخ والحمام. تفتح الأبواب وتغلق بطريقة متوترة تتصاعد مع نمو الأحداث. الأسرة تعد المائدة حتى يأتي الكاهن ويبارك ذكرى الميت، بتلاوة بعض الأدعية والطواف على حجرات الشقة، وهو يحمل البخور، في مشهد لا يختلف عما يحدث في بيوت حارة مصرية من شيخ متدين، أو في قرية سودانية من متصوف.
تبدأ الحوارات الطويلة في بساطتها الواقعية، حديث يومي عن الأكل والكعك والتدخين، يتأخر الكاهن لنستمع لحوار حاد بين العمة العجوز، المدافعة عن فترة الشيوعية، في مواجهة الابنة ألكاساندرا، الناقمة على عهد الديكتاتورية. يبرع المؤلف في صياغة حوار عميق، فكل طرف لديه الحجج والأدلة على وجهة نظره.
هذا الحوار لا يعكس فقط صراع أجيال، بل هو تعبير عن حيرة الانتقال التي يمر بها المجتمع الروماني، من الديكتاتورية إلى الحرية، من نظام الحزب الواحد إلى التعدد السياسي من اقتصاد سيطرة الدولة، إلى اقتصاد الانفتاح والاستهلاك. فهم أصبحوا يتحدثون عن التسوق من (كارفور) أكبر المولات العالمية، وأن تشتري الزوجة أحمر شفاه بثمانين دولاراً، وعندما يحضر الطبيب لاري لوالدته دراجة للرياضة المنزلية بمبلغ كبير من العملات الحرة، تستنكر والدته ذلك، ومظاهر حياة الاستهلاك الجديدة على المجتمع الروماني.. تقول زوجة الطبيب إنها ملّت السفر إلى اليونان وتريد السفر إلى بانكوك. ومن مشاهد الصراع بين الجديد والقديم؛ تستنكر الأم رغبة أبنائها الطعام قبل حضور الكاهن ومباركته للطعام.
من مظاهر التناقض أيضاً، مواقف العمة الشيوعية، ورفضها للطقوس الدينية للكاهن، في مقابلة مع الابن المدمن، المنشغل في محركات البحث الإسفيرية، ومناقشته لفكرة المؤامرة في تفجير أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وملاحقته لكل ما يبث، وإصراره على مناقشة قضايا وأحداث لا تجد أدنى تجاوب من الحضور، بل تقابل بالسخرية. يتخلل الأحداث حضور صديقة في حالة صحية سيئة. تتوتر الأحداث بدخول شخصية زوج الخالة المستهتر والذي يحلف بالمقدسات كاذباً.
نجح المخرج في إدارة اللقطات داخل حيز مكاني لا يتجاوز الأمتار، التي هي مساحة الشقة الضيقة، فيما عدا مشهد لدقائق في السيارة خارجاً، ومشهد آخر لا يتجاوز (5) دقائق في الشارع في ختام الفيلم، دون اللجوء لديكورات ضخمة. كل الموجودات من أسرّة وكراسي وطاولات ومعدات المطبخ والحمام، هي الأدوات الطبيعية، لا توجد إكسسوارات إضافية، والملابس نفس الملابس لكل الشخصيات، ملابس منزلية بسيطة وأليفة. الموسيقا التصويرية هي الأصوات الطبيعية لرنين الهاتف أو جرس الباب أو صوت المياه والإضاءة، أدت وظيفتها فقط دون أي بهرجة أو زخرفة إضافية. كما غاب المكياج كلياً من على وجه طاقم الأداء.
وهنا يبرز السؤال: كيف لفيلم في مكان ضيق ودون ديكورات ودون إضاءة جمالية ودون موسيقا.. أن ينجح في جذب المشاهد للاستماع طوال العرض. بلا شك هذه التلقائية الواقعية في الأداء المدهش، البعيد عن روح الأداء المسرحي وحرفية المخرج في اختيار اللقطات الطويلة والاعتماد على تكوين صورة جميلة داخل الكادر، وهو يثبت حركة الكاميرا، ويجعل الشخصيات تتحرك دخولاً وخروجاً من الكادر.
ينجح المخرج أيضاً في طرح الأسئلة بطريقة غير مباشرة، يتناول القضايا السياسية، وسط طيات الحكايات اليومية، ويقدم شخصيات في ضعفها الإنساني وخيباتها ولا يدينها أو يصمها بلحام الأخلاقية، فالجميع يخطئ وأبواب التسامح مشرعة للجميع. نجاح الفيلم يستمد قوته من تلك الحكايات الصغيرة اليومية، فمن المحلية تنطلق العالمية. اخر مقال نقد سينمائي نشر فى العدد الجديد من مجلة الشارقة الثقافية مايو ٢٠٢١
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة