لم يكن المُتنبي يُخاطب كافور الأخشيدي في قصيدته الشهيرة، وإنما كان يبكي على حال أمة أضناها الشتاتُ وتفرّقت بها الدروب وصارت الفرحة بطعم العَلقم، فالأحوال البائسة -التي قادت إليها حرب الجنجويد على السلطة الشرعية- أدخلت البلاد في نفقٍ مُظلمٍ، وطالت مُعاناة الأهل بعد أن تبعثرت بهم الدروب، وأصبح العيدُ بلا طعم وبلا رائحة وبلا فرحة، حتى غطت غمامة الحزن عيونَ الأطفال، المُتطلعين إلى اللهو في ساحات المدن العتيقة، وزيارة الأهل في دورهم والاستمتاع بالعيدية واحتساء المشروبات الباردة والمُثلجة.
لا فرحة الآن، الحزنُ يُغطي كافة الأجزاء، والحرائق تشتعل في أطراف المدن وفي قلبها، والخوف من عمليات النهب والقرصنة والسرقة والاغتصاب في وضَح النهار، ورغم اتساع الكارثة وتنامي المحنة، ما زال الأمل يبرق في العيون ليؤكد الرغبة الأصيلة والأكيدة، في الانتصار على جحافل الغزو التي تتسرّب إلينا عبر الحدود والمدعومة -بأسى شديد- ممن كنا نعتقد أنهم أشقاء نتكئ عليهم في المُلمات، وأنهم سيكونون نصيرًا لنا في مواجهة هذا الغزو البربري غير المسبوق، ولأنهم مسكونون بالجُبن والخديعة، وباعوا نفوسهم الوضيعة للشيطان الأكبر ولأدواته العميلة، انحازوا إلى جانب القتلة والمأجورين والمُرتزِقة.
ماذا يمكن أن يقولَ المتنبي لو أنه ما زال قائمًا بيننا، هل سيكتفي بالحسرة والعزاء في هذا المأتم الكبير؟ أم سيقف معنا شاهرًا سيفَ العزة والشموخ، ليفرح معنا عندما يتحقق الانتصار الكبير وتندحر فلول الغزاة الطامعين، بماذا كان سيتغنى محجوب شريف ومحمد الفيتوري والطيب صالح وصلاح أحمد إبراهيم وحميد والقدال وكل الرائعين الذين رحلوا قبل وقوع الكارثة.
المؤامرة كبيرة ومُتسعة الأطراف ومُتشابكة الخيوط، وحتى الذين كنا نظن بهم خيرًا أخرجوا خناجرهم المسمومة وغرزوها في خاصرة الوطن، ورغم العذابات واتساع الحزن والفجيعة وتشرد الأهل في البقاع القريبة والبعيدة، إلا أن الأمل ما زال يسكننا في أن يستعيد السودان وجهه الإنساني الصبوح، ويغني من جديد للفجر المُشرق، الذي يطرق الأبواب مهما امتدَّت سواعد الظلام وتطاولت أكف الشر التي لا تُريد بنا خيرًا.
كل القضية أننا رغم فقرنا أثرياء بكل ما نملك من خيرات وهم جميعُهم يتطلعون لنهب تلك الثروات من أرض واسعة وشاسعة، ومسكونة بالعزة والشموخ والإباء، وإن أمةً وشعبًا هذا ديدنه، لن ينكسر مهما تعاظمت المؤامرات وكثرت الخطوب والبلايا، النصر قريب وإن طال السفر، وستكون أعيادنا القادمة أبهى وأجمل ما تكون، وسنعيد بناءه «البنحلم بيهو يوماتي».
حذرتُ منذ وقت مُبكّر من المُخطط الخبيث الذي يستهدف تقسيم السودان إلى دويلات، وأن يتم إحلال ديموغرافي جديد يُبدّل السحنة وينهب الثروات ويعبث بالقيم النبيلة الموروثة عن الأجداد، فموقع السودان الجيواستراتيجي هو هدف الطامعين الجدد، الذين يتناسون أن الإرادة لن تُقهرَ وأن العُهر مهما تطاول لا بد أن ينكسرَ، وأن أبناء السودان المُبعثرين في قارات العالم، ورغم خلافاتهم السياسية سيتحدّون من جديد وتعود لُحمة وطن مزّقته الصراعات السياسية والتباينات الإثنية والعرقية والجهوية، وعوضًا أن يكون في هذا التنوع ثراء للوطن تحول إلى لعنة مقيتة استثمرها الطامعون ولعبوا بنا لعبة «فرِّقْ تَسُد».
الأنظمةُ السياسية المُتعاقبة منذ الاستقلال عام 1956، لم تكن في قامة وطن بعظمة وعنفوان السودان، فأهملوا التنمية وبناء الإنسان وتأسيس المؤسسات الراسخة وجاءت «الإنقاذ» لتُهيل الترابَ على كل ما تحقق لتكتب صفحةً قاتمةً وكئيبةً في تاريخنا الحديث، ولولا حكمهم العضود ورؤاهم القاصرة لما وصل السودان إلى هذا الدَرْك السحيق، وأتساءل: كيف يرى البشير المشهد وهو في «موقعه المؤمَّن» بعد أن بارك تشظي السودان بتقسيم الوطن إلى جنوب وشمال، وبعد أن بارك كافة الجرائم المُرتكَبة هو وطُغمته الحاكمة على امتداد 30 عامًا؟، وأتساءل أيضًا كيف يرى الفُرقاء واللواءات والجنرالات الحال الذي آل إليه الوطن؟.
رغم كل هذه المرارات -والخيْبات والخيانات- فقد بتنا في عرض وطن «يكون أو لا يكون»، وأعتقد أن المرحلة الراهنة بالغة الدقة والحساسية والخطورة، وفي مواجهة هذه المؤامرة الاستيطانية اللعينة، وهذا الغزو الأجنبي فلا بد لنا أن نتّحد وليس لنا مخرج سوى ذلك، وعلى الحركات المُسلحة التي وقّعت اتفاقية جوبا أن تُحدّد موقفًا واضحًا وصريحًا في مواجهة هذا العبث الدائر في البلاد، ولا بد أن يكون لها موقف صريح إلى جانب القوات المُسلحة السودانية، دفاعًا عن الشعب ومُقدراته، وبقائه فوق ترابه الوطني الطاهر والشريف.
ما يدهشني هو حديث المليشيا المُتمردة عن الديمقراطية والدولة المدنية، فهم أبعد ما يكونون عن هذه المفردات التي يُراد بها باطل، ولا يعدو أن يكون هؤلاء الجنجويد سوى بيادق في لعبة دولية كبيرة أوسع من قدراتهم وإمكاناتهم وطموحاتهم.
لعبة الشطرنج الدائرة -المُتورطة فيها أطراف محلية وإقليمية ودولية- ستتواصل وقد تطول وتتحول إلى حرب أهلية طاحنة، ولا مخرج لنا من هذه المحنة إلا أن تتَّحد أيدينا، وأن نتبنّى موقفًا وطنيًا داعمًا لقواتنا المُسلحة، التي تُمثل طوقَ النجاة الأخير لمواجهة المُرتزِقة والقادمين عبر الحدود لغزو بلادنا وسرقة أحلامنا بمُستقبل مُشرق ووطن آمن ومُستقر تُرفرف فوقه رايات الحرية والديمقراطية والسلام والعدالة بلوغًا لمرافئ التنمية والرفاه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة