( هاتف دعاني بأن إخلع نعليك و قف مبهورا فأنت في وادي البوح المقدس لا محالة قد هوى ) و من حيث أجهل و لا أجهل ،، قلت لبيك و رحت أقود راحلتي عبر سنوات التيه ،، أقودها برسن الترقب ،، في صحراء شوقي الظمآن و متاهة قلبي الولهان ،، حافي القدمين ،، معفر الجبين بغبار الأيام و السنين ،، شاخص البصر حَذَر الغدر و المباغتة ،، و القلب ذو وجيب ، أمد أكف ضراعتي علني أجد شجاعة تكفيني النظر إلى حزم النور المنبثقة من شعاع البدر المرتجى. لاحت عند الأفق ، كنيزك يفلق دياجير الظلام و يشتت جحافله ، تتهادى بين القافلة و حادي الركب يدندن بمزمار تنساب منه تواشيح التبتل بالأمل. تقبع داخل هودج .. خيوطه منسوجة من عبق حروفها ، تجلس خلف أستاره و كأني أراها من وراء حجب ، يشق ضياؤها مسام الليل و دسر الظلام. ضجتْ أركاني بصدى حديثها المنساب لحنا. أطلتْ عشرات الزنابق في عتاميري التي تشكو الجفاف. و صدح الكون بكل ألسنة الطير ، كروانه و بلابله و قماريه. و تلونت الدنيا بكل ألوان الطيف ،، بل و بألوان أخرى إنبتقتْ من طيفها الكريستالي المصقول بوهج هواجسي و وميض أوهامي. و خُيِلَ إلي أنني فهمت ما تزمجر به الرياح ، و إستمعت متبتلا خاشعا لتسابيح أوراق الشجر و سعفات النخيل في حفيفها و تمايلها بفعل هوج العواصف. و مازحتني النجيمات بأن أبشر فقد مضى زمن السهر و التحديق فيها و مناجاتها ، و قالت : لا تخف ،، فهناك آخرين سيبثونني نجواهم و سيشكون إلي عذاباتهم ، إمض في طريقك يا فتى. و ما أن بدأتُ رحلتي المجهولة ، أتحسس وقع أقدامي ، أتلفت في حذر ، تفتحت زهرات كانت ذابلة ترنو لدفق الندى الآتي ، و تماسكت حبات الرمال تحت أرجلي ، و هللتْ شجيرات الصنوبر فبدتْ من بين رقراق السراب كدراويش في حلقة إنشاد صوفي يرفعون أكف الضراعة بتوسل يطلبون العون و المدد. و تنساب عبر رحلتي أنهار أنغامها المعزوفة على أوتار مشدودة من تلهفي و ترقبي ،، تموسق خطواتي ،، تقتل رتابة أيامي ،، تعيد روزنامة حياتي عشرين عاما للوراء ،، و تعيد لقاموسي القديم كلماته ،، قاموس المراهقة و العشق البريء ،، فأكتب على جدران بيتها ( أشتاق إليك كما يشتاق الزرع للماء ) ، و أرسم على لحاء الشجر قلبا نازفا يخترقه سهم كيوبيد ، و أراها تهديني منديلا مطرزا ترقد على أطرافه الأحرف الأولى من إسمينا. تمنيت أن يكون لي هدهد قد نجا من سلالة هدهد سيدنا سليمان الحكيم ، فأبعثه ليأتيني منها بالخبر اليقين ، أنا لا أطمع في قصر ممرد و لا قوارير من فضة أو ذهب أو حورية من الحور العين ،، فقط يقف عند حافة نافذتها و يرسل البصر عبرها و يصيخ السمع ثم يأتيني بما يذهب الظمأ و يقتل هذا العطش في مهده . أو أن أكون مالكا لعفريت من الجن يكون للحظة واحدة طوع بناني و رهن إشارتي فيأتيني بها و بمملكتها قبل أن يرتد إلي طرفي. ثم .......... تلبدت السماء بالغمام و السحب الداكنة و أكفهر وجهها الصافي. و لمعتْ البروق في ومضات متلاحقة متسارعة. و كركر الرعد في دوي ملأ جنبات الوادي فأصاب راحلتي ما جعلها تجفل و تحيد عن الطريق. تبعثرتْ الإتجاهات أمامي فلم أعد أدري وجهتي. فجفلت الطيور و توقفت عن الشدو الجميل و توارت الزنابق بين فتحات تربتها و أرْختْ أشجار الصنوبر أياديها المرفوعة و جن جنون العاصفة فراحت تعصف يمنة و يسرة و لم أعد أدر ماذا تقول و ماذا تبتغي و تمزقت أستار الهودج و تطايرت خيوط نسيجه و بقى هيكله شاهدا على حكاية لم يكتب لها البقاء. ترقبت ... ثم إسترقت السمع علني أسمع الهاتف يدعوني مرة أخرى و لكني لم أسمع غير صفير الريح على قمم الجبال البعيدة و حبات الرمال تتطاير و تلسع أطرافي ، و أسراب الطيور تحلق بعيدا تبحث عن دوحة آمنة أو واحة ساكنة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة