في اللحظة التي تنهار فيها المؤسسات المادية في السودان بفعل الحرب، وتتبعثر فيها الذاكرة الوطنية بين المنافي ومراكز النزوح، يبرز تحدٍ من نوع آخر لا يقل ضراوة عن الرصاص؛ إنه تحدي "المواجهة الرقمية" وبينما يندفع العالم نحو استثمار الذكاء الاصطناعي لترميم الوعي وصناعة المعنى، اختارت قطاعات واسعة من النخبة الثقافية السودانية التمترس خلف "خندق الرفض"، ليس دفاعاً عن القيم، بل ذعراً من انكشاف الهشاشة. أسطورة «الروح» وغطاء الجهل يعج الفضاء الرقمي السوداني اليوم بخطاب "رومانسي أخلاقي" يقدس المعاناة في الكتابة ويساوي بين البطء والعمق. يرفضون الذكاء الاصطناعي بحجة أنه نص "بلا روح"، لكنهم في الحقيقة يخشون الأداة التي كشفت أن الكثير من نصوصهم "البشرية" كانت هي الأخرى بلا روح؛ مجرد صدى لبلاغة قديمة، واجترار لمفاهيم لم تُحدث منذ عقود إن هذا الرفض ليس موقفاً مبدئياً، بل هو "جهل أداتي" جرى تغليفه بورق سلوفان أخلاقي. فالمثقف الذي يرفض التقنية اليوم، هو غالباً من لا يملك مهارات البحث الحديثة، ولا يعرف كيفية التعامل مع بنوك البيانات ويجد في "الذكاء الاصطناعي" تهديداً لامتيازه الرمزي الذي بُني على الندرة لا على جودة المنهج ديمقراطية المعرفة وزوال الإكليروس الثقافي لسنوات طويلة، ظل المشهد الثقافي السوداني محكوماً بـ "طقوس اعتراف" يمنحها كبار الكهنة في المقاهي والندوات. جاء الذكاء الاصطناعي ليكسر هذا الاحتكار؛ فهو يمنح الشاب في أقصى قرى النزوح أدوات تحليلية وقدرات صياغة تجعله نداً لمن قضى أربعين عاماً يعيش على "سمعته الرمزية" هنا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى "اختبار شرعية"-- هل يملك هذا الكاتب فكرة حقيقية قادرة على قيادة الآلة؟ أم أن الآلة ستفضحه حين تنتج في ثوانٍ أسلوباً بلاغياً يفوق ما كان يدّعي أنه "عبقريته الخاصة"؟ الصحافة السودانية: الرفض في زمن "العمى المعلوماتي" في سياق الحرب الحالية، حيث يختلط التضليل بالدم، تصبح الحاجة إلى الذكاء الاصطناعي ضرورة وجودية لا رفاهية تقنية. إن رفض الصحفيين لهذه الأدوات في ظل غياب غرف التحرير المتطورة هو بمثابة انتحار مهني الذكاء الاصطناعي ليس "غشاً"، بل هو المحلل البياني الذي يربط بين الانتهاكات المبعثرة، وهو المدقق الذي يفحص روايات التضليل العسكري، وهو الأرشيف الحي الذي يمنع ضياع الذاكرة السودانية من يرفض استخدام هذه الأدوات اليوم بحجة "الأصالة"، إنما يساهم — بوعي أو بدون وعي — في إبقاء الحقيقة السودانية ضعيفة، مشتتة، وغير قادرة على المنافسة في الفضاء العالمي الزمن لا ينتظر الرافضين إن أزمة المثقف السوداني مع التقنية هي انعكاس لأزمته مع العصر. فالخوف من الذكاء الاصطناعي هو خوف من سقوط الأقنعة. الأداة لا تكتب بدلاً عنا، بل تختبر قدرتنا على التفكير؛ فهي تحتاج إلى "قائد" يوجهها، ومن يخشى القيادة يفضل رجم الأداة
لقد انتهى زمن الندرة التي كانت تصنع النجومية الزائفة. نحن الآن في زمن الكفاءة المنهجية، ومن يرفض أدوات عصره، يعلن صراحة أن مكانه الطبيعي هو "المتحف" لا "المنصة". السودان الجديد الذي ننشده وسط الركام يحتاج إلى عقول تمتلك شجاعة التعلّم، لا نخب تجيد فن التباكي على أطلال "الريشة والدواة" بينما العالم يُصاغ من حولنا بلغة الخوارزميات.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة