في ندوة استقطبت حضوراً لافتا ًبعنوان “العقل الرعوي والدولة: نموذج السودان”، قدّم البروفيسور النور حمد قراءة عميقة لطبيعة الأزمة السودانية الممتدة. أدار النقاش كل من الدكتورة سلمى عمر منصور ، ود. هاشم عثمان، بوعي وحكمة. وفي سياق حديثه، استعاد المتحدث عبارة الفريق أول شمس الدين الكباشي: “يا سودان بفهمنا يا ما في سودان”. عبارة قصيرة، لكنها تكشف بنية ذهنية معقدة تتحكم في المشهد السياسي، وتضيء كثيراً من الغموض الذي يكتنف طريقة اتخاذ القرار في الدولة المتسربلة بالدين كذباً ونفاقاً.
من هذا المدخل، تتضح صورة المؤسسة العسكرية كما يُفترض أن تكون في معظم الدول المحترمة: جهاز مهني محايد، لا شأن له بالسياسة إلا إذا تم اختراقه من قوى منظمة تمتلك مشروعاً سياسياً واضحاً. ومع أن تصريحات الكباشي تؤكد هذا الواقع أي أن الدولة هي الكيزان والكيزان هم الدولة، لا يزال البرهان ينكر وجود نفوذ للحركة الإسلامية داخل الجيش، وكأن الوقائع المتراكمة عبر عقود لا تشير إلى خلاف ذلك.
لم تكن عبارة الكباشي زلة لسان في لحظة غياب اختياري عن الوعي، بل تعبيرا مكثّفا عن عقلية مدركة حكمت السودان بمنطق الاستحواذ والغنيمة وفقه التحلل، لا بمنطق الدولة الحديثة. عقلية ترى الوطن امتداداً لإرادتها، والشعب تابعاً لها، والسياسة مجالا مغلقا حكرا لأصحاب اللحي والذقون لا يُسمح بالاقتراب منه إلا لمن يخضع لمنطق القوة ويقبل غياب المراجعة والمحاسبة أو كما قال كبيرهم في لحظة زهو كاذبة من أراد السلطة فليحمل السلاح ففاق السلاح عدد السكان وزاد عن حاجتهم.
هذا "الفهم"، الاستعلائي أنتج عقوداً من القمع والانتهاكات؛ عقوداً تحوّلت فيها أجهزة الدولة إلى أدوات إخضاع، ومؤسساتها إلى مزارع خاصة، والقانون إلى سيف مُسلَّط على الضعفاء دون غيرهم. ومن رحم هذا الفهم خرجت الجرائم التي هزت الضمير الوطني، من اغتيال الشهيد الدكتور علي فضل بعد تعذيبه بوحشية فكانت رصاصة الرحمة دق مسمار اخترق جمجمته فبدأت حقبة الرعب والظلام.
إلى جريمة اغتيال الأستاذ أحمد الخير بطرق تعجز الكلمات عن وصف بشاعتها، فعلم العالم بأن الدولة التي تدعي الطهرانية كي تحارب البطالة خلقت فرصة عمل "مغتصب"، ولا أحد يدري حتى هذه اللحظة ما هي المؤهلات اللازمة لشغل هذه المهنة الرسمية، وهل هناك تراتيبية مهنية لتنظيمها ومحاسبة المقصرين عن أداء مهامهم الوظيفية؟ لم تكن تلك الانتهاكات والحوادث استثناءات، بل نماذج متكررة في منظومة لا تعترف بالحدود الأخلاقية ولا بالإنسان المعارض بوصفه إنساناً.
ولأن هذا الفهم لا يؤمن بتنوع السودان، ولا بحق أبنائه في الاختلاف، ولا حتى بحق المسلم غير المنتمي لمنظومتهم في أن يعيش بكرامة، فقد أفرز "فهم الكباشي وزمرته"، دولة ترفض مؤسسات القانون، وتبني سلطات موازية تحلّ محل الدولة نفسها، وترفض الحرية لأنها تهدد امتيازاتها، وترفض العدالة لأنها تُعيد توزيع الثروة المنهوبة. لكن مقابل هذا المسار المظلم، وُلد فهم آخر مختلف تمامًا. فهمٌ تشكّل في الشارع، وسط المواكب، وفي لحظات الألم والمقاومة. فهمٌ يرى أن السودان لا يمكن أن يُدار بعقلية “إما نحن أو لا وطن”، بل بعقلية الدولة الحديثة القائمة على سيادة القانون واستقلال المؤسسات وحق الناس في اختيار من يحكمهم.
هذا الفهم الجديد لا يطلب المستحيل، بل يطالب بما صار حقًا طبيعيًا للشعوب: دولة تُدار بالقانون لا بالولاء، وبالمؤسسات لا بالتهديد، دولة لا تحتمي بالسلاح ولا تخضع لمزاج فرد، بل تقوم على قواعد واضحة تكفل الحماية والكرامة للجميع دون استثناء. غير أن الواقع كشف عن دولةٍ خانت هذا الدور خيانةً مكتملة الأركان؛ فتخلّت عن وظيفتها كحامٍ للمواطن، وتحولت إلى تاجرٍ جشع يبتزّه في أبسط حقوقه.
فالصحة والتعليم لم يعودا حقوقًا، بل صارا امتيازاتٍ طبقية، حُكم بها على الفقراء بالموت البطيء، وعلى العقول بالإعدام عبر أميةٍ ممنهجة. تُرك الفقر لينهش الأجساد، وسُمح للجهل أن يشلّ الوعي، ثم دُفع المواطن، منزوع الفهم والكرامة، كوقودٍ رخيص إلى حروبٍ عديمة المعنى، غايتها الوحيدة إطالة عمر الفساد وتكريس آلة الخراب. إنها دولة لا تقتل شعبها دفعةً واحدة، بل تمارس قتله اليومي ببرودٍ وإصرار
اليوم يقف السودان عند مفترق طرق لا يحتمل المساومة. الفهم القديم الذي جرّبناه حتى استنزف البلاد لم يعد قادرًا على تقديم أي وعود. لا يمكن بناء وطن يُدار بمنطق القوة، ولا يمكن أن يستقر بلد يُختزل في فرد أو فئة صغيرة. لقد جرّب الناس الصمت والخوف والانتظار، ولم يجلب ذلك إلا انهيار الاقتصاد ودمار المؤسسات وتمزّق المجتمع.
المستقبل لن يُكتب إلا بفهم جديد يضع الوطن فوق رغبات الحاكم، والشعب فوق منطق الهيمنة. فالسودان أكبر من أي سلطة، وأعمق من أي مشروع ضيق، وأقوى من كل محاولات الاحتكار. ومن يظن أنه قادر على اختطاف وطن كامل سيكتشف، كما اكتشف غيره عبر التاريخ، أن الشعوب لا تُساق بالقوة، وأن الأوطان لا تستمر بالتهديد، وأن السودان لا يُحكم إلا بفهم يليق بكرامة أبنائه. والشعب هو صاحب الكلمة الأخيرة ما في ذلك من أدنى شك.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة