حين تتوارى البوصلة: جدلية المعيار بين وهج الحق وعماء الباطل لقد شهدت أروقة النقاش العام، في الآونة الأخيرة، تحولاً مريراً من فضاء للحِوار المثمر إلى ساحة للرجم اللفظي المُدبَّر. لم يعد الغرض نقدَ معلومة أو تفنيدَ خبر، بل تهاوى الهدف إلى محاولة سافرة لاغتيال السمعة المهنية لصحافي تجرّأ قلمه على بثِّ ما يتنافر مع هوى جمهور يضطرم فيه وَلَعٌ حزبي – عسكري، يرفض بإطلاق أي قراءةٍ تَتجاوَز سرديته المُقدَّسة لقد انحدرت هذه الحملة من حيز نقد المادة إلى محاكمة النوايا، ومن دائرة مناقشة المعلومة إلى استهداف الذات، في انزياحٍ خطير يهدد جوهر رسالة الصحافة النبيلة أولاً أُفُقُ الاتهام بالانحياز… واختزال الحِرفي إلى نغمة أحادية يُطلَق الاتهام جزافاً على ألسنة البعض دون بصيص برهان: "فلانٌ ينحاز لجهة كذا"، و"يتغاضى عن نقد الطرف الآخر". إن العلّة ليست في حق النقد المشروع، بل في المنطق الأعوج الذي يحكمه أفكلُّ من ينشرُ خبراً لا يروق للطرف المسلّح يتحول تلقائياً إلى "مُتَحَيِّز"؟ وهل تحولت المهنية الصحفية إلى ميزان أحادي يُقاس بمدى إرضائه لبارود فصيلٍ مُحارِب؟ لماذا يتحول نشر خبرٍ "يسيء للقوات" إلى خطيئة بينما يُعتَبَرُ سيل الأخبار التي تهاجم الطرف الآخر "واجباً وطنياً"؟ إن الصحافة ليست نصلاً في ترسانة جيش، ولا أداةً دعائية في آلة ترويج لأي فصيل. ومن يطالب الصحافي بأن يكون صوتاً واحداً، بلونٍ واحد، ضمن سرديةٍ قُصوى، فهو لا يروم صحافةً حرة، بل يسعى إلى منبرٍ تعبوي مطيع ثانياً- المصدر وسوء القصد المُضْمَر يقوم النقد الرصين على مقارعة دقة الخبر أو استجلاء مصدره. أما الارتقاء بالمسألة إلى مستوى اتهامٍ بالخيانة وادعاء "دس السم في الدسم"، فهذا خطابٌ إقصائي يتنافى مع روح المهنة إن بثَّ الأخبار المتداولة في زمن الحرب، والمعتمدة على مصادر ميدانية أو تصريحات أولية، ليس إثماً مهنياً. فجميع أطراف النزاع تُصدر يومياً سيلاً من الروايات المتضاربة فلماذا تُوجَّهُ سِهام الهجوم إلى صحافي واحدٍ بعينه، ولماذا هذا الغضب المُركَّز، إن لم يكن الهدف الحقيقي هو إسكات الصوت الوحيد الذي يجرؤ على الخروج عن النسق المُحتكَر لرواية أحد الأطراف؟ ثالثاً: سفسطة "دسّ السم"… حين يرتدي الهجوم السياسي ثوب النقاش حين يتهم أحدهم الصحافي بأن نقله خبراً عن "مصادر عسكرية" هو بمثابة "سمٌّ مدسوس"، فليس الغريب أن تكون هذه المصادر موضع خلاف، فالنزاع ذاته قائم على الاتهامات المتبادلة لكن الخطر المُحدِق هو تحويل الصحافي – بحكم مِهَنَتِه – إلى متهمٍ سياسي، لمجرد أنه عرض احتمالاً أو روايةً أخرى ضمن مشهد مكتظ بالمرويات. الحقيقة الجليّة هي نشر روايةٍ لا تروق لك لا يعني افتراءها، ونقل اتهامٍ لا يعني تبنِّيه فالصحافي ليس قاضياً، ولا محققاً جنائياً، ولا طرفاً في المعركة رابعاً- الاستشهاد بالقانون… ومحاولة الخلط المُتَعَمَّد للأوراق لقد بلغ الأمر ببعض المُهاجمين حدَّ إلقاء "دروس" في القانون الدولي، مستندين إلى اتفاقيات أسرى الحرب. بيد أن السؤال الجوهري يكمن في هل انتقد الخبر هذه الاعترافات أم نسبها فحسب للجهة التي أعلنتها؟ نقل تصريحات جهةٍ ما لا يعني القَبول بها والقانون الدولي ذاته لا يحظر نشر الادعاءات أثناء النزاعات، بل ينظّم استخدام الاعترافات في سياقات قضائية – وهو سياقٌ مختلف جذرياً. إنها محاولة مكشوفة لخلط الأوراق، وتحويل النقاش المهني إلى اتهامات فضفاضة مثل "الإساءة للدبلوماسية" مما يفضح ارتباكاً سياسياً أعمق من أي فهمٍ قانوني سليم خامساً تكتيك قديم بزيّ جديد… الهجوم على استقلال الصحافة تتجسد لغة الهجوم في مصطلحاتٍ جاهزة، مثل -- "صحفي الغفلة"، و**"ملفّق"، و"أنت تخدم خط كذا"** – حسبما تقتضي حاجة اللحظة هذه ليست لغة تقييم مهني رصين، بل هي لغة استقطاب حاد، لا تريد صحافةً مستقلة بل مُنقادة , ففي كل نزاع، يتحول الصحافي الذي يلتزم الحياد ويسعى لنقل الصورة بتمامها إلى هدفٍ مشترك، يضربه المتطرفون من كلا الجانبين لكونه عصياً على أجنداتهم سادساً - الهجوم المُنسَّق… وصوت القطيع المُسَيَّس إن الهجمة الأخيرة ليست مجرد حوار عابر، بل هي حملةٌ مُحكمة ذات نَسَقٍ واحد: التهم المُتكررة، والمفردات المُعَدَّة سلفاً، وادعاء "الدفاع عن المهنية" الذي لا يظهر إلا عند المساس بطرفٍ واحد، ومحاولة تحويل الخلاف المهني إلى تهمة تخوين شخصي هذا النمط يضع الهجوم في إطاره الحقيقي: محاولةٌ لترويض الصحافة المستقلة، وإخضاعها لخطابٍ أحادي يسعى لاحتكار الرواية ومنع أي صوتٍ مُخالف سابعاً- أيها السادة الصحافة ليست بيعة… ولن تكون ذراعاً تَبَعِيّاً ليس مطلوباً من الصحافي إرضاء هذا الطرف أو ذاك. وليس مُلزَماً أن يذمّ هذا أو يمدح ذاك لينال صكَّ "الوطنية". فالصحافة الحقيقية قائمة على النقل والتحري والمقارنة والتحقق – لا على الاصطفاف وكل وسيلة إعلامية محترمة في العالم تبثُّ يومياً ما تنفيه الحكومات والجيوش، دون أن تُلصَق بها تهمة الخيانة أو الانحياز إن هذه الهجمة، في جوهرها، ليست دفاعاً عن مهنية، ولا غضباً من خبر. إنها رغبةٌ سافرة في إخراس الصوت المختلف، وتحويل الفضاء العام إلى صدى لرواية واحدة مهيمنة ولكن الحقيقة تظل ثابتة المهنة الشريفة لن تُدار برغبات الجمهور المسيّس، ولن تنكسر أمام ضغوط الحملات المُنظمة، ولن تخشى تهديدات التخوين ومن يسعى اليوم لإسكات الصحافة لأنه يراها ضعيفة، قد يندم غداً حين يكتشف أن الصوت الحر هو أول ما يحتاج إليه حينما تدور عليه الدوائر ويظلم طلم بائن .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة